بعد الحرب العالمية الثانية أدركت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قوة العقول والابتكارات الألمانية التي أنتجت الصواريخ وغازات الأعصاب والأسلحة البيولوجية، فسارعتا إلى استضافة علماء الرايخ الثالث، ما أدى إلى تقدم كبير في الطيران، وتقنيات الصواريخ، والأسلحة النووية، وبرامج الفضاء، الآن تفعل واشنطن الشيء نفسه، تسعى إلى استقطاب عشرات الآلاف من العلماء والمهندسين الروس للعمل والعيش في الولايات المتحدة بهدف دعم التقدم العلمي الأميركي، وفي الوقت نفسه إضعاف القاعدة العلمية والتكنولوجية لروسيا، فهل تنجح إدارة الرئيس جو بايدن في تحقيق هدفها؟
حرب العلوم والتكنولوجيا
لا تقتصر الحرب دائماً على العمليات العسكرية التي تدور رحاها في ساحات القتال، بل تمتد إلى المجالات الأخرى كافة، وعلى رأسها حرب العلوم والتكنولوجيا التي تقود الأكثر تقدماً وعلماً إلى النصر في النهاية، ولو بعد عشرات السنين، وهذا ليس بجديد، فكثيراً ما استفادت أميركا من المشكلات والحروب في الخارج، إذ ساعد المهاجرون اليهود من أوروبا النازية، مثل ليو زيلارد وجون فون نيومان، في تطوير القنبلة الذرية وتسريع الابتكار في الفيزياء والكيمياء، ونقلت أميركا 1600 من العلماء والمهندسين الألمان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 من خلال عملية سرية أطلق عليها اسم "مشبك الورق" للعمل في المختبرات العلمية الأميركية، وكان من بينهم مهندس الصواريخ الشهير ويرنر فون براون وكورت ديبوس، الذي أصبح في ما بعد أول مدير لمركز كينيدي للفضاء.
وساعدت هذه الجهود في تأجيج الحرب الباردة، إذ كان لدى موسكو برنامج مماثل لجذب العلماء والمهندسين الألمان، لكن حينما تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، سارع الكونغرس الأميركي إلى تمرير قانون هجرة العلماء السوفيات عام 1992، والذي سمح لنحو 750 منهم بالهجرة إلى أميركا.
استقطاب العلماء الروس
ومنذ أن اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي، تعالت الدعوات من الكتاب والمفكرين في واشنطن بضرورة الإسراع لتسهيل استقطاب العلماء والمهندسين وتشجيع هجرتهم إلى الولايات المتحدة، بخاصة بعد أن خرج الآلاف منهم بشكل مؤقت من البلاد، وقدرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية عدد المغادرين في مجال تكنولوجيا المعلومات وحدها، نقلاً عن إحصاءات رسمية روسية بأكثر من 50000 شخص حتى نهاية أبريل (نيسان)، توجه معظمهم إلى جورجيا وأرمينيا وأذربيجان وتركيا، في وقت لم تمنع فيه الحكومة الروسية الهجرة، لكنها تحاول إبطاء التدفق من خلال استجواب الذين يغادرون البلاد أو تقديم إغراءات للعاملين في مجال التكنولوجيا للبقاء في روسيا.
ووفقاً لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، قررت الحكومة الروسية التي تخشى هجرة الأدمغة نتيجة للحرب، إعفاء العاملين الشباب في قطاع التكنولوجيا من الخدمة العسكرية الإجبارية، ومنحتهم معدلات رهن عقاري مميزة، وإعفاء شركات تكنولوجيا المعلومات من ضريبة الدخل وعمليات الفحص الضريبي الدورية، فضلاً عن منحها تسهيلات ائتمانية رخيصة، لكن منع العلماء والعاملين في شركات التكنولوجيا ليس مضموناً بعد أن أصبح العمل اليومي أكثر صعوبة، نتيجة انسحاب شركات التكنولوجيا الأجنبية من البلاد، وحظر المواقع الإلكترونية الأساسية، كما أصبح الحصول على الأموال بالدولار واليورو أمراً صعباً بسبب العقوبات التي تؤثر على النظام المالي، كما قد يراجع العديد من الروس الذين فروا إلى البلدان المجاورة، خططهم في العودة لروسيا إذا أيقنوا بوجود المزيد من الفرص في الولايات المتحدة، بعد أن بدأت الإدارة الأميركية في اتخاذ خطوات لتشجيع هجرة الأدمغة الروسية إلى الأراضي الأميركية وبدء حياة جديدة لهم من العمل والإقامة تمهيداً للحصول على الجنسية الأميركية بعد سنوات قليلة.
جهود البيت الأبيض
قبل أسابيع، اقترح البيت الأبيض إجراءات للهجرة تهدف إلى منح الروس المتعلمين فرصة أفضل للإقامة الدائمة في أميركا، ففي نهاية أبريل الماضي، وجهت إدارة بايدن رسالة إلى مجلس النواب، أدرجت فيها إجراء في شأن العلماء والمهندسين الروس كجزء من تشريع تمويل تكميلي طارئ للسنة المالية 2022 لمساعدة أوكرانيا، وتضمن التشريع بنوداً من أجل جذب أصحاب المواهب الروسية في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بما يعود بالفائدة على الأمن القومي الأميركي ويقوض قدرات وإمكانات روسيا على التطور والابتكار.
وكان من شأن هذا الإجراء أن يلغي حاجة الروس الحاصلين على درجة الماجستير أو الدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات للحصول على كفيل من الشركات الأميركية وأرباب العمل، ما يعني عدم الحاجة إلى الحصول على التأشيرة المعتادة بأن تكون لديهم وظيفة محددة مسبقاً، ولكن فقط يتعين عليهم اجتياز فحص الخلفية الأمنية الأميركية.
لكن الكونغرس تخلى عن هذه الجزئية من مشروع القانون الذي وافق عليه وفقاً لما ذكرته مجلة "إيكونوميست"، بينما تجري إدارة بايدن البحث عن خيارات أخرى، ومنها أن يصدر الرئيس أمراً تنفيذياً يلغي شرط الكفيل لأسباب أمنية، أو إعادة تفسير تأشيرة الدخول "أوه -1" المخصصة للأكاديميين، بما يسمح بتوسيع نطاق المستفيدين منها، فضلاً عن أن الكونغرس ستكون لديه فرصة أخرى لدمج هذه الإجراءات في مشروع قانون السياسة الصناعية خلال الفترة المقبلة.
ووفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، فإن الغالبية العظمى من التأشيرات الخاصة بصناعة التكنولوجيا تذهب حالياً إلى العلماء والباحثين القادمين من الهند، ومع ذلك، فقد حصل نحو 1800 روسي على وضع الإقامة الدائمة القانونية كل عام قبل انتشار وباء كورونا بناءً على تصنيف المهاجرين المخصص في المقام الأول للأساتذة والباحثين والمتخصصين في درجات علمية متقدمة، إذا كان لديهم رعاة من شركات أو أصحاب عمل.
منافسة تتصاعد
وحتى لو تمكن صانعو السياسة من تسهيل الطريق أمام قدوم مزيد من الأكاديميين الروس، فلا يزال يتعين على أميركا معالجة فجوة المواهب العلمية الناشئة مع منافستها الجيوسياسية الرئيسة، وهي الصين، حيث يحصل الصينيون كل عام على 100 ألف درجة علمية متقدمة أكثر مما يحصل عليه الأميركيون، لكن الولايات المتحدة تظل مكاناً جذاباً للمهاجرين من أصحاب الدرجات العلمية إذا سمح نظام الهجرة المعقد لهم بالدخول وسط مناخ يتزايد عداء للهجرة والمهاجرين بشكل عام، وعلى الرغم من أن مجلس النواب أقر بالفعل قانون المنافسة الأميركية، في فبراير الماضي، والذي من شأنه، زيادة هجرة المبتكرين ورواد الأعمال وعلماء الدكتوراه من مختلف أنحاء العالم وليس روسيا، إلا أن كاثرين رامبل أشارت في مقال نشرته "واشنطن بوست"، أنه يمكن للكونغرس أن يصمم مقياساً تجاه المواهب الروسية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، كما يمكن لإدارة بايدن أن تجعل الروس مؤهلين على نطاق أوسع للحصول على وضع اللاجئ، مثلما فعلت الولايات المتحدة شيئاً مشابهاً للفارين من الكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة، بخاصة أن اللاجئين والمهاجرين يتمتعون بتاريخ طويل في تشجيع الابتكار الأميركي، والفوز بجوائز "نوبل" والمساهمة في حماية الأمن القومي، ومن بين هؤلاء المنشقون السوفيات خلال الحرب الباردة، ونزوح واسع النطاق لعلماء الرياضيات والعلماء بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
استنزاف روسيا
لكن يبدو أن جزءاً مهما من المعركة يتعلق باستنزاف روسيا عبر حرمان الرئيس فلاديمير بوتين والكرملين من العقول الروسية النابغة وإضعاف روسيا في النهاية. وتقول إيرينا بلاكس الخبيرة في مركز "سكوكروفت" للاستراتيجيات والأمن التابع للمجلس الأطلسي في واشنطن، إن موجة جديدة من الهجرة الخارجية للأدمغة الروسية، ستؤدي إلى إحداث مزيد من الخراب في الاقتصاد الروسي، لا سيما بالنظر إلى صورة روسيا، التي تفتخر بثاني أعلى معدل من الحاصلين على مؤهلات عليا بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وتمثل تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات الحصة الكبرى من طلبة درجة البكالوريوس، كما احتلت روسيا في تقرير المهارات العالمية السنوي لمزود الدورات التدريبية عبر الإنترنت، المرتبة التاسعة بشكل عام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع وجود 679 ألف شخص يعملون في مجال البحث والتطوير، فإن روسيا هي موطن رابع أكبر قوة عاملة في العالم في مجال البحوث والتطوير، بعد الولايات المتحدة والصين واليابان، كما أن متوسط عمر الباحثين في روسيا أخذ في الانخفاض، ما يدل إلى قوة عاملة أصغر سناً، وتعد روسيا من بين الدول الرائدة عالمياً في مجالات الفيزياء والهندسة والرياضيات والكيمياء، ونما إنتاجها العلمي في الذكاء الاصطناعي والروبوتات بواحد من أسرع المعدلات في العالم خلال السنوات الأخيرة.
قاعدة روسية واسعة
ويحاول الكرملين الاستفادة من هذه الاتجاهات الواعدة منذ سنوات عدة، من خلال إنشاء مؤسسة الأبحاث المتقدمة، وهي المكافئ الروسي لوكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة الأميركية "داربا"، ومن خلال إنشاء مؤسسة "إي آر أي"، وهي مؤسسة متخصصة في التكنولوجيا العسكرية أشبه بشركات وادي "السيليكون" الأميركية، إذ ركزت مؤسسة الأبحاث المتقدمة على أسلحة الطاقة الموجهة، والصواريخ التي تفوق سرعتها أضعاف سرعة الصوت، والمركبات غير المأهولة تحت الماء، بينما تركز "إي آر أي" على الذكاء الاصطناعي، والمركبات الفضائية الصغيرة، والروبوتات، والتحكم الآلي وأنظمة تكنولوجيا المعلومات، وعلوم الكمبيوتر، وأمن المعلومات، وتكنولوجيا "النانو"، والهندسة الحيوية.
واعترفت الولايات المتحدة بحجم التقدم الذي أحرزته روسيا بشكل كبير في مجالات الصواريخ التي تفوق سرعتها أضعاف سرعة الصوت، والتي استخدمتها في أوكرانيا، وفي مجال الذكاء الاصطناعي، والأنظمة المستقلة ذاتية التشغيل، والتي تعد مجالات تكنولوجية حاسمة للجيوش.
حرب دعائية
ووفقاً لإيرينا بلانكس، يمكن أن يكون لجوء العلماء والمهندسين الروس إلى الولايات المتحدة بمثابة سلاح دعائي ضد الرئيس بوتين، الذي يردد دوماً أن الغرب المعادي هو المعتدي، وهي رسالة تلقى صدى لدى غالبية الروس، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نحو 60 في المئة من الروس يلومون الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو" على أزمة أوكرانيا، ولهذا ترى بلانكس أن استقبال الروس في أميركا سيظهر إحساساً بالإنسانية، ويدحض رواية بوتين، بينما يجب على وسائل الإعلام الغربية أن تبث قصصاً إيجابية عن اللاجئين الوافدين حديثاً من روسيا.
وعلاوة على ذلك، يمكن أن تكون الموجة الأخيرة من المهاجرين الروس في النهاية بمثابة جسر بين الغرب وروسيا في المستقبل.
عراقيل أمنية
وعلى الرغم من الضغوط التي تبذلها إدارة بايدن حالياً لتمرير إجراءات تسهيل دخول العلماء الروس لأميركا، فإن ذلك من المرجح أن يضع مجتمع مكافحة التجسس الأميركي في حال تأهب قصوى خشية تعمد الاستخبارات الروسية زرع جواسيس ضمن العلماء الروس لاختراق المجتمع العلمي والصناعي والعسكري الأميركي ونقل الابتكارات الأميركية المتقدمة إلى روسيا، الأمر الذي يجعل هناك خطراً يستلزم أن تستغرق عملية التدقيق الأمني للعلماء وقتاً طويلاً، كما يقول لاري فايفر رئيس موظفي الاستخبارات المركزية الأميركية السابق لشبكة أخبار "نيوزي" الأميركية.
وإضافة إلى العراقيل الأمنية التقليدية، يحذر رجل الأعمال الروسي ميخائيل كوكوريتش، الذي شيد شركة فضائية في الولايات المتحدة لنقل الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء باستخدام دفع الموجات الدقيقة بالبلازما، العلماء الروس من المجيء إلى الولايات المتحدة، متهماً الحكومة الأميركية بأنها ترى كل روسي مجرد رجل سيئ.
وعلى الرغم من أن كوركوريتش قام بتمويل السياسيين الروس الذين عارضوا بوتين، وهو جزء من لجنة مناهضة الحرب مع شخصيات معارضة روسية بارزة، فإن وزارة الأمن الداخلي ألغت الموافقة السابقة على طلبه الحصول على البطاقة الخضراء التي تمنحه الإقامة بشكل قانوني في الولايات المتحدة، كما قالت وزارة الدفاع، العام الماضي، إن شركته الفضائية شكلت "خطراً على الأمن القومي"، ما جعل كوكوريتش يستسلم وينتقل إلى سويسراً، بحسب ما قال موقع شبكة "نيوزي" الأخبارية.
والأهم من ذلك، أن الروس في أرمينيا وجورجيا وتركيا، يتلقون عروض عمل من دول أخرى مثل كندا وألمانيا، بالتالي، فإن الولايات المتحدة لديها بعض المنافسة في ساحة استقطاب العلماء والمهندسين الروس.