في روايته الجديدة "كائنات التيه" (دار الساقي ،2022) يواصل الروائي السعودي مقبول العلوي (1968) الحائز جوائز عدة منها جائزة الرواية السعودية للعام (2016)، مسيرته الروائية بعمل جديد يضاف إلى سلسلة أعماله ذات الموضوعات ووجهات النظر الخاصّة، من دون أن تكون مفارقة أو صادمة.
يخوض الراوي في "كائنات التيه"، مغامرة لم يكن يتوقّعها، وهو الموظّف حديثاً في مكتبة البلدة العامة، بعد سنتين من ممارسته التعليم في إحدى مدارس بلدة "القنفذة" من البلدات السعودية الساحلية والكائنة على شاطىْ البحر الأحمر. ولمّا كان الراوي، موظّف المكتبة العامة، والمنصرف إلى كتابة رواية يستعصي عليه إكمالها، برفقة زميل له يدعى معاذ، في رحلة لتفقّد إحدى الطواحين أو الكازخانات القديمة والمهجورة، في البلدة طمعاً في تدوينها ضمن سجلّ الأماكن الأثرية، ما دام مديراً للآثار في المحافظة، يعثر (الراوي) على كنز مخبّأ في حنايا الجدار الرطب، هو كناية عن صندوق خشب مطعّم بالنحاس. فإذا بالكنز "كومة أوراق صفراء" داهمتها عوامل الرطوبة والزمن. ولم تلبث هذه الأوراق أن تكشف للراوي الذي أكب على قراءتها، عن حكاية ثانية، يمكن القول إنها سيرة حارس القلعة أو "الكازخانة" أو الطاحونة. ويتبين أنهّ كان شاباً متحدّراً من إحدى العائلات الميسورة في مكّة المكرّمة، وأنه آلى على نفسه أن يستعيد أخته "نجمة" التي أسرها الأميرال الإيطالي، في معرض هجوم أسطوله الحربي على الحامية في بلدة قنفذة، وتدميره السفن التركية الراسية على الشاطىْ. ولكنّ الأقدار تدفعه للسفر إلى الأناضول طلباً لإجازة المرور والبحث عن أخته، والسفر عبر أراضي السلطنة العثمانية، فينتهي مقتولاً في أحد الفنادق، على يد أحد المقامرين أو المنافسين له على إحدى المومسات. وما أن يبلغ الخبر أباه العجوز حتّى توافيه المنية حزناً، وتصلّي عليه أخواته الباقيات صلاة الغائب.
حكايتان وتشويق
بيد أنّ التشويق الذي يبثّه الكاتب، مقبول العلوي، في نفس القرّاء، لا يتأتى من الحكايتين، وحدهما، وإن تكن الأخيرة مستقاةً من تاريخ المملكة السعودية غير البعيد، لمئة وخمسين عاماً خلت، حين كانت لا تزال المملكة تحت الإحتلال العثماني. وإنما يمكن للقارىْ ردّ التشويق أيضاً، إلى لعبة الصدقية العالية التي يتقنها الروائي في إخراج صورة الراوي، أمين المكتبة العامة، في بلدة القنفذة، ظاهراً وواقعاً، وتحديد أهمّ ملامحه وسماته الشخصية، ومنها مزاجيّته وعدم تقبّله مهنة التعليم بما تفرضه عليه من روتين يوميّ وانشغال فائق عن اللزوم، وما تستدعيه من انصراف عن الكتابة الروائية، وهي حرفته الحقيقية، اللصيقة بشخصه. وبعد أن يرسّخ الكاتب شخصيّته على أرض صلبة، وفي إطار واقعي وإن يكن غير محدّد بدقة، يمضي إلى حبكة الاكتشاف، ليصوغ بحبائلها وخيوطها المستمدّة من التاريخ القريب نسبياً، أحداث حكايته الثانية المستعادة عبر السرد.
ولعلّ عاملَ تشويق آخر يجدر الإلتفات اليه، وهو أنّ الروائيّ، إذ يتلبّس حال القارىْ العربي المعاصر والعادي، المختزن التراث السردي العربي القديم، الفائض بالفانتازيا والخوارق، والمغامرات، والمتشوّق إلى قصص تحاكي يومياته وتلاقي اهتماماته في آن واحد، ومن دون أن تتنكّر للغة القصّ الموزونة والسائرة على حدّي الفصحى المتينة والفصحى الأليفة واليومية، فإنّ الروائي لا يتوانى عن تشكيل لغته تلك، وتحميلها من السرد والوصف والتعليق، والتقرير والتأريخ ، وتوشيحها ببعض الذرى الانطباعية والأدبية التي يستدعيها السياق، ليبلغ بها نطاقَ إشباع يحيي به المشاهد الموصوفة، ويمتّن صلة القارىْ بما يقرأ، ويتخيّل، ويواكب الحياة المروية وأحوال الراوي: "اتّجهنا غرباً، فحاولتُ طردَ ذلك الإحساس المرّ الذي بدأ يخيّمُ عليّ. كانَ البحر القريب يلمع بلونه الفيروزيّ، وأشعّة شمس العصاري تنعكسُ على صفحة الماء مثلَ فضّة سائلة منثورة، وتترجرج بلمعان يخطف الأبصار".
بين زمنين
أما الإستراتيجية الأبرز التي يحسن الروائي، مقبول العلوي، استخدامها، فهي استراتيجية التنقّل بين زمنين، زمن القص الواقعي، وزمن الحكاية المستحضر عبر دفتر "حارس القلعة" وأوراقه الصفراء التي تبيّن للراوي العليم، أنها بعض من سيرة الشاب "هادي"، منذ مغادرته منزله الوالدي في مكّة المكرّمة، إلى عزمه السفر الى إسطنبول بزعم حصوله على إذن مرور بحثاً عن أخته المخطوفة. إذاً، إنها استراتيجية العبور من الواقع المنطلق، الى الحكاية الغائرة في الزمن، والتنقّل المتواتر بين الواقعين والزمنين، على نحو يتيح للراوي - وللروائي من ورائه - التحكّم بلعبة السّرد والتقصّي وتوسيع المسرح المكاني الذي جرت وقائع الحكاية على أرضه، بين مدينة مكّة وبلدة قنفذة ومدينة اسطنبول. والأهمّ في ذلك أنّ الراوي، إذ يتبنّى مسار الشخصية المحورية، حارس القلعة، يوحي إلى القارىْ بأنّه تتبّع، وزميله معاذ، آثار الفتى الضلّيل، عبر كل الوثائق المتاحة. وبلغت به مباحثه أن يعرف زمن مقتله، "في اليوم السادس من أوكتوبر(تشرين الثاني) من عام 1912"، وموضع المقبرة التي ووري الثرى فيها، وهي مقبرة "الغرباء" في مدينة اسطنبول، وبالتحديد - لمن يهمه الامر من المشككين بواقعية الحكاية – "على بعد حوالى ثلاثمئة خطوة وفي الصف الثالث والعشرين على يمين الداخل من البوابة الرئيسية لمقبرة الغرباء...أمام القبر الذي يحمل الرقم 945 في الصف الرابع من البلوك الحادي عشر..." (ص:208).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكنّ الكاتب، مقبول العلوي، راغبٌ في أكثر من الحكاية وبسطها وصوغ تحقيق عن البطل فيها ورصد مآلها المأساوي. هو راغب في بثّ تضاعيفها كإشارات، بل شذرات عن هموم وقضايا وآراء، حول الانتماء القبلي والعائلي، ومخاطر تفلّت الفرد من سطوة هذا الانتماء. يعلّق الراوي، في معرض بحثه، عبر التويتر، عن الذين شاركوا في المعارك التي جرت بين سكان المملكة وبين العسكر العثماني توصلاً إلى معرفة العائلة التي ينتسب اليها "هادي"، قائلاً: "وهكذا، لكنني أعرفُ وأفهم أنّ الكثير من الناس، بل كلّهم، وكطبيعة فطرية يحبّذون ويفضّلون الحديث عن بطولاتهم الفردية وإنجازاتهم الشخصية بألسنتهم، وعندما تُقال بألسنة الغير تكون أشدّ وقعاً في نفوسهم، فإن لم تكن شخصية فعن بطولات العائلة أو القبيلة، ففي الكثرة تتلاشى النقائص وتتضخّم الأنا القبَلية الجمعية، هذا أمرٌ يكاد يكون ملموساً في كلّ مكان".
كما أنّ في الرواية تأمّلاً في ثيمة الغربة والاغتراب المفضي بصاحبه إلى الهلاك، نظير ما حصل للبطل. يقول الكاتب، مستترا بالراوي العليم: "الغرباء يظلّون غرباء حينما يولدون ويموتون في غير مساقط رؤوسهم، وبعيداً عن أوطانهم سيكونون تماماً مثل الأفعال الطائشة والكلمات المهملة التي تُقال ولا يُلقى لها بال. لن يزور قبورهم أحد، ولن يترحّم عليهم أحد. وإذا استوفى أجلُهم ستوارى أجسادهم الثّرى في أيّ مكان وبلا أدنى اهتمام".
ولئن امكن الردّ على مقولة مقبول العلوي الآنفة، بإيراد أسماء العشرات بل المئات من الشعراء العرب وكتّابهم وعظمائهم والمخترعين من بينهم، ممن ضمّت الغربة جثامينهم واحتضن ترابها بقاياهم، دون أرض الآباء والأجداد، فإنّ ذلك النداء الوجدانيّ والوطني الصادق جدير بالاعتبار والنظر فيه.
للقاصّ والروائي مقبول العلوي أعمال قصصية وروائية منها: "فتنة جدّة"، "سنوات الحبّ والخطيئة"، "فتيات العالم السفلي"، "زرياب"، "البدوي الصغير"، "القبطي"، "رجل سيّء السمعة"، "زهور فان غوغ"، و"سفر برلك".