يحظى الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد (1946) بمكانة كبيرة في الوسط الأدبي العربي، من خلال مسيرة طويلة مع كتابة الرواية والقصة القصيرة، بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وتُوجِت قبل أيام بحصوله على أرفع جائزة مصرية، وهي جائزة النيل في الآداب. وسبقها حصوله على جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة كتارا في الرواية. ولد عبد المجيد في الإسكندرية وحصل على ليسانس الآداب من جامعتها عام 1973 قبل أن يستقر في القاهرة متقلداً وظائف عدة في وزارة الثقافة.
أصدر عبد المجيد أكثر من 20 رواية، منها "في الصيف السابع والستين"، و"المسافات"، و"الصياد واليمام"، و"بيت الياسمين"، و"ليلة العشق والدم"، و"البلدة الأخرى"، و"قناديل البحر"، و"لا أحد ينام في الإسكندرية"، و"طيور العنبر"، و"الإسكندرية في غيمة"، و"برج العذراء"، و"شهد القلعة"، و"في كل أسبوع يوم جمعة"، و"هنا القاهرة"، و"أداجيو"، و"قطط العام الفائت"، و"قبل أن أنسى أني كنت هنا"، و"الهروب من الذاكرة"... وتحول بعضها إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية. ومن مجموعاته القصصية "مشاهد صغيرة حول سور كبير"، و"الشجر والعصافير"، و"إغلاق النوافذ"، و"فضاءات"، و"سفن قديمة. وأصدر كتباً متنوعة في السيرة والمقالة وأدب الرحلة والفلسفة والمسرح والترجمة منها، "مذكرات عبد أميركي" (ترجمة عن الإنجليزية - تأليف فريدريك دوغلاس)، و"24 ساعة قبل الحرب" (مسرحية)، و"أين تذهب طيور المحيط؟" (أدب رحلات)، و"ما وراء الخراب- مقالات في الدين والآخر والهوية والنهضة والتراث"، و"أيام التحرير: سيرة أيام ثورة يناير"، و"من الذي يصنع الأزمات في مصر؟" (مقالات)، و"ما وراء الكتابة - تجربتي مع الإبداع" (سيرة).
نفحة عابرة
وفي حوار أجرته معه "اندبندت عربية"، بدأنا بسؤاله عما تمثل له الجوائز التي نالها خلال مساره مع الكتابة، أجاب، "الجوائز أحداث عابرة في الحياة. مؤكد أن قيمتها المالية تساعد قليلاً على هذه الحياة. هي من حيث قيمتها المالية مجرد نفحة عابرة. لكن الأهم منها هي فرحة الناس من حولك بها. فرحة القراء الذين لا تعرفهم وهم حشود السعادة الحقيقية. فرحة أصدقائك من الكتاب من كل الأجيال مما يعني أنك عشت حياة طيبة مع الناس. ذكرياتك مع الكتابة وكيف أخلصت لها. فقط شخوص الروايات تتمنى أن تلتقي بهم لأنهم هم الذين دعوك للكتابة وألهموك ما تكتب ومهما تصورت أنهم شخصيات حقيقية تكتشف أنهم وهم جميل، فلن تستطيع أن تقابلهم في الطرقات وتشد على أياديهم وتشكرهم على كل هذا الكرم الذي منحوك إياه".
الراوية العربية
وعن رأيه في الرواية العربية عموما والرواية المصرية خصوصاً في ظل تشكيك البعض في قدرات الرواية المصرية على المنافسة على الجوائز خارج مصر، قال عبدالمجيد، "ليس انحيازاً للرواية، أقول لك إن الرواية العربية الآن في أحسن تجلياتها. أصبحت الرواية قاسماً أعظم بين كل البلاد العربية. الأسماء كثيرة طبعاً، ومعروفة، وبعضها يتصدر المشهد في الجوائز والترجمة إلى لغات أخرى والحمد لله أني قرات لهم. إن التقلبات التي حدثت في كثير من بلادنا العربية أنتجت أعمالاً كبيرة عما لم تعرفه الرواية العربية من قبل إلا نادراً جداً، وأقصد به الهجرة والمنافي والحروب التي اشتعلت في بعض البلاد. طبعاً الرواية المصرية ليست محتاجة إلي حديث، فالأسماء ستملأ الحوار من الكتاب المجيدين والكاتبات المجيدات. أما التشكيك في الرواية المصرية فلو وجد فهو عمل المغتاظين والحياة الأدبية لا تخلو من ذلك، فلا مشكلة. على الجميع أن يعرف أن الرواية العربية رائجة، ولم يعد هناك معني للحديث عن بلد يتصدر المشهد وحده، ولن يستطيع بلد أن يتصدر المشهد وحده. وإذا كان العدد في مصر أكبر من الكتاب فهذا طبيعي في بلد يتجاوز سكانه المائة مليون وينبغي ألا يضايق ذلك أحداً".
نصائح روائية
وعن رؤيته للجيل الجديد من كتاب الرواية في مصر، وأهم ملاحظاته على إبداعهم ونصيحته لهم، يقول، "النصائح لا تفيد الكتاب. لكن هما نصيحتان يمكن أن يكون لهما فائدة. الأولى أن الكتابة ليست مجرد حكايات، بل هي تاريخ من المذاهب والاتجاهات الأدبية على الكاتب الجديد أن يعرفها ليعرف أين يضع قدمه. الثانية أن لا ينشغل بالمشكلات الشخصية بين الكتاب، فلا يضايقه إهمالهم له، أو تفخيمهم لمن هو أقل منه. بمعنى أن لا تؤثر فيه الشللية وأن يخلص فقط لكتابته. أما الجيل الجديد ولنقل كل من جاءوا بعد السبعينيات حتى الآن فكثير جداً، منهم من صار في مقدمة المشهد وهم يتزايدون كل يوم. هي أسماء تستعصي على الحصر، لكن من بينهم كثيرين يفوزون بجوائز عربية ومصرية، وكثيرين عرفتهم الترجمة إلى لغات أخرى. باختصار العالم يمضي إلى الأمام والرواية في مصر الآن في أجمل ظروفها، سواء من ناحية عدد الكتاب أو من ناحية التجديد في شكل الكتابة أو اقتحام موضوعات جريئة. رؤيتي دائماً هي أن العالم يمضي إلى الأمام".
أزمة الكتاب
وبسؤاله، هل الكتابة وحدها قادرة على أن تنفق على حياة المبدع العربي؟ أجاب، "للأسف لا. أنا شخصياً على الرغم من أنني مع بداياتي كان يُطبع من الرواية في كل طبعة ثلاثة آلالف نسخة، عشت حياتي معتمداً على كتابة المقالات التي يأتي عائدها المادي بسرعة. أما الجوائز التي جاءت متأخرة فقد استهلكتها مطالب الحياة والصحة والعلاج، وأرجو من الله أن تمضي هذه الجائزة الأخيرة بسلام. الآن الحشود الأكبر من القراء هي للأدب المسلي مثل قصص الاسختبارات والبوليس والخيال العلمي. هذا طبيعي في كل الدنيا، ولكن لا يقلل من قراء الأدب العادي. في بلادنا لا يزال كثيرون من عشاق التسلية بعيدين عن الرواية أو الشعر. روايات التسلية ليست سيئة فهي نوع من الكتابة أيضاً، لكن جمهورها لا يتحول أكثره بسهولة إلى الرواية الفنية. حتى إذا عرف أن رواية تعددت طبعاتها، فالآن لا تغامر دار نشر لتزيد الطبعة على ألف نسخة على عكس ما رأيت في حياتي حتى عام 2000. كما أن مصادر دخل أخرى متقطعة، فالسينما والتلفزيون بعيدان عن الرواية. كما أن مشروع "مكتبة الأسرة" صارت طبعاته قليلة العدد، ومن ثم عائدها قليل. وليست كل الروايات المهمة تعرف الطريق إلى "مكتبة الأسرة" التي صار إنتاجها قليلاً لقلة ما هو مخصص لها من ميزانية. كذلك المكتبات العامة لوزارة الثقافة أو وزارة الشباب أو غيرها تقريباً ، لا تشتري نسخاً من الكتاب إلا قليلاً، وهناك رقابة على الكتب على الرغم من أن لا رقابة للدولة على ما يطبع داخل مصر. ومن ثم فإن هذه الرقابة الغريبة قد ترفض شراء نسخ من رواية لأن فيها مشهداً جنسياً، أو لأن فيها شخصاً يدخن السجائر. هذا يحدث. هذه كلها موارد دخل يمكن أن تعين الكاتب، لكنها متقطعة عنه للأسف. حتى الأحاديث الإذاعية والتلفزيونية للكتاب لم يعد لها عائد، بخاصة بعد كورونا التي يبدو أنها لن تنتهي. باختصار، إن مصادر دخل كبيرة يمكن أن تساعد الكتّاب، لكنها ليست متيسرة بالنسبة إلينا".
الإسكندرية الدائمة
وعما تمثله له الإسكندرية إبداعياً، ولماذا تأخرت كتابته عن القاهرة في أعماله الإبداعية على الرغم من قدومه إليها مبكراً، قال عبدالمجيد، "المثل الشعبي يقول إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر. الإسكندرية روحياً هي النشأة والتكوين. وفكرياً عرفتُ كيف كانت يوماً مدينة العالم في العصرين اليوناني والروماني، حتى أن العصر كله سمي بالعصر السكندري، فازداد اقتناعي بها، بخاصة وأنا أتذكر طفولتي وصباي وحولي الجاليات الأجنبية كلها قبل الخروج من مصر. الإسكندرية أعطتني من روحها وهي الثقة في النفس والرغبة في عبور البحر إلى ما هو بعيد على الرغم من أي أخطار. هي الأقدم من القاهرة، لكنك حين تصل إليها (منذ زمن طبعاً قبل التغيرات السيئة التي أصابتها) تجد نفسك تريد أن تمشي ولا تتوقف، في شوارعها أو على شاطئها، على عكس القاهرة، على الرغم من أنها الأحدث، فحين تصل إليها تريد أن تعود من الزحام. كان طبيعياً أن تتأخر الكتابة عن القاهرة التي وفدت للحياة فيها وأنا في السابعة والعشرين من عمري. كنت أعرف أنني لن أتحمل القاهرة، لذلك وجدت عملاً في قصر ثقافة الريحاني في المساء كل يوم. ظللت لسنوات لا أرى القاهرة نهاراً إلا نادراً، حتى لا أتركها. كان الليل والفراغ فرصة أن أتعايش معها، على الرغم من أن تعدادها البشري كان مليونين وليس عشرين مليوناً كما هو الآن. في القصة القصيرة لم تغب القاهرة كثيراً، لكنها في الرواية تأخرت وهذا طبيعي، فالإسكندرية تمشي معي. حين رأيت القاهرة أيضاً كانت قد تغيرت وضاعت وبدأت أكتب عنها نوستالجيا. ثم صرت أكتب عن حاضرها بعد أن صرت تقريباً لا أخرج من البيت".
جائزة نوبل
وعن قدرة الأدب العربي على حصد جائزة نوبل في الآداب قال، "طبعاً يستحق، ولدينا كتاب كثيرون يستحقون. لكن المشكلة أن العالم ينظر إلينا من خلال الأحداث السياسية. في كل ندوة حضرتها في أوروبا عن رواية مترجمة لي أو لغيري، كنت أجد الأسئلة عن السياسة والديكتاتورية والإرهاب، وتقريباً يتم نسيان الرواية وموضوعها الذي قد يكون بعيداً من ذلك. السياسة للأسف تفسد كل شيء، لذلك يتأخر الاهتمام من نوبل بالأدب العربي وأدبائه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونفى عبدالمجيد أن تكون أعماله الأخيرة تغوص في الحنين إلى الماضي، قائلاً، "على العكس، الأعمال الأخيرة مثل "العابرة" و"السايكلوب" و"الهروب من الذاكرة"، وقبلها "قطط العام الفائت"، و"قبل أن أنسى أني كنت هنا" كلها في الحاضر. كلها في الزمن بعد فشل ثورات الربيع العربي. ربما يأتي الحنين في أحاديث بعض شخصياتها، لكن الروايات في الحاضر".
وبسؤاله عن النزعة الغرائبية أو الفنتاستيكية التي تحرك كثيراً من عوالمه الإبداعية أجاب عبدالمجيد، "أنا ابن الحكايات الشعبية التي كنت أسمعها من عازف الربابة في الشارع وفي الموالد، وفي قصص الأنبياء في القرآن الكريم التي كان أبي يحكيها لنا ونحن أطفال، و"ألف ليلة وليلة" من الإذاعة المصرية في الخمسينيات. ثم هناك قراءتي في ما بعد لكتاب كبار في الفلكلور مثل أحمد رشدي صالح وفاروق خورشيد وفوزي العنتيل وشوقي عبد الحكيم وعبد الحميد حواس وأحمد مرسي وسعيد المصري وغيرهم. أذكر أني أمضيت عاماً كاملاً في السبعينيات اقرأ في الفلكلور، وشاء حظي في عملي في الثقافة الجماهيرية أن تكون السنوات الست الأخيرة قبل إحالتي إلى التقاعد مديراً لإدارة أطلس الفلولكلور، فقابلت نخبة من العلماء زادوني ثقافة. كذلك كانت دراستي للأنثروبولوجيا في الجامعة وقراءاتي العديدة فيها لها أثر كبير، ولهذا حديث طويل".
المعوقات الأدبية
وعن التجريب في كتاباته الإبداعية والقدرة على الاستمرار في الكتابة، على الرغم من المعوقات التي تعرقل الكتاب في مصر والعالم العربي قال عبدالمجيد، "حين أكتب لا أدرك أي معوقات. أنسى كل ما أعرفه في الحياة اليومية من مصاعب للعباد والبلاد . يكون همي الوحيد هو الصدق الفني مع شخصياتي، الذي يتجلى في الكتابة في أشكال شتى. من تغير في استخدام اللغة وأثر المكان على الشخصية أو الحدث، وغير ذلك كثير، كتبته في كتابي "ماوراء الكتابة – تجربتي مع الإبداع". التجريب هو ابن الأحداث والمكان والزمان وحركة الشخصيات وفهمي لتاريخ الأدب وإيماني بأن القضية ليست ماذا تكتب، لكن كيف تكتب. يقول كثيرون إن الحكي هو طريق الكتابة، لكن لا يدركون أن حتى الحكاء الشعبي وهو يحكي قصة أبو زيد الهلالي والرحلة الهلالية يتنوع صوته مع مضمون ما يحكي، أو مع المكان الذي تقع الحكاية فيه. هذا الذي يحكي شفهياً، فما بالك بمن يكتب ويستطيع أن يلعب في الأزمنة والأماكن ولغات الشخصيات بما يناسبها، ويتأثر بالسينما والصورة والموسيقى وغيرها من الفنون. إيماني دائماً هو أن الكتابة ليست ماذا تكتب ولكن كيف تكتب. في رواية مثل "المسافات" انفتح باب الأساطير في الأحداث، لأن المكان معزول بين الصحراء التي لا يأتي منها أحد، والبحيرة التي لا ينزل فيها أحد، والقطارات التي لا تأتي. في رواية قصيرة مثل "ليلة العشق الدم" الصورة السينمائية كانت التعبير الأجمل، لأن الأحداث كلها في ساعتين يتجمع فيهما الماضي والحاضر، فأوجز التعبير التصويري في الحكي. في "الصياد واليمام" التي هي رواية قصيرة أيضاً، الماضي الذي هو صانع الشخصية الحديث فيه بالفعل المضارع كأن الشخصية تعيشه، بينما الحاضر الغريب فيه ، فالحديث عنه بالفعل الماضي. في "لا أحد ينام في الإسكندرية" لم أحب إعادة تفسير التاريخ. لا أحب ذلك لأنه فكرة مُسبقة تحدد كتابة الكاتب، لكني أردت أن آخذ القارئ إلى الحرب العالمية الثانية نفسها والحياة اليومية، فمزجت بين الأخبار والأحداث وتساوت الأخبارالمهمة مع الأخبار العادية التي أحياناً تكون مضحكة ليعيش القارئ الزمن نفسه. فتجد خبراً عن انسحاب آلاف الدبابات من معركة، يليه خبر عن حلاق أو راقصة أو أغنية جديدة أو فيلم سينمائي جديد وهكذا. يطول الحديث عن كل رواية وكيف كان بناؤها الفني".
وعن آخر أعماله الإبداعية، ذكر عبد المجيد أنه انتهى من الكتابة الأولى لرواية جديدة "لكني كالعادة أتركها أشهراً عدة لأعود إليها شبه محايد، أتأمل لغتها وبناءها، وأنتظر أن يمر الصيف لأفعل ذلك. لا مشاريع في ذهني غير أني اقرأ وأكتب المقالات لتستمر الحياة. ما أريده فقط الصحة والسلامة لي ولأبنائي وزوجتي".
© The Independent