قبل نحو عشرة أعوام من الآن استغرب كثر من هواة السينما الطليعية التي اعتادوا الإعجاب بها في سينما الألماني فيم فندرز، حين عرض لهم مهرجان "كان" السينمائي، فيلماً بدا للوهلة الأولى وعلى الرغم من فنيته المطلقة وكأنه فيلم سياحي. فالفيلم راح يتجول في أزقة مدينة لشبونة عاصمة البرتغال، ينتقل من ساحة إلى ساحة ومن مبنى إلى آخر كأجمل ما تكون الشرائط السياحية. ومع ذلك اعتبر المتفرجون أن فندرز حين راح يستخدم في الحديث المروي الذي يصاحب الصور والمشاهد، عبارات وتوصيفات شاعرية مستقاة من قصائد للشاعر البرتغالي الطليعي الكبير فرناندو بيسوا، أن السينمائي يقحم ذلك كله بغية أن يضفي على فيلمه "السياحي" هذا طابعاً نخبوياً ثقافياً لا أكثر، لكن الحقيقة كما سيتبين لاحقاً، في مكان آخر تماماً، كانت في واقع أن السينمائي الألماني إنما كان يترجم بالصورة يومها "كتاباً" وضعه بيسوا تحديداً في عام 1925 عنوانه "لشبونة: الأشياء التي يتعين على السائح مشاهدتها".
كتاب للإنجليز فقط
نعم تماماً، ليس هنا أي خطأ مطبعي ولا تشابه في الأسماء. في ذلك العام وضع الشاعر الغريب الأطوار والنخبوي المترفع عادة عن شؤون الدنيا وخلق الله البسطاء الطيبين، كتيباً سياحياً برسم الأجانب من زائري بلده. ووضعه خصيصاً باللغة الإنجليزية للسياح الإنجليز الذين كان يمكن أن نتصور، ولكن خطأ كما سنرى، كيف أنهم قرأوه بكثرة قبل عقود من "اكتشاف" فيم فندرز له، وزاروا لشبونة على هديه وهم لا يعرفون أنه من كتابة واحد من كبار الشعراء الأوروبيين. مهما ستكون قلة من بينهم اعتقدت أن ثمة تشابهاً في الأسماء فيما لا شك أن غالبيتهم العظمى لم تكن سمعت باسم الشاعر ولو كانت سمعت به لما فقهت شيئاً من الحكاية كلها! والطريف في الحكاية أن بيسوا حين وضع الكتاب كان في عز نضجه، وهو الذي سيرحل عن عالمنا بعد ذلك بعشر سنوات، كما أنه كان لا يزال يكتب بالإنجليزية بحيث لن يصدر له كتابه الأول باللغة البرتغالية إلا عام 1934 قبل رحيله بعام. غير أن ما يبقى الأغرب، وسنفسره بعد سطور في حكاية هذا الشاعر والكاتب الرمزي الذي يعتبر من كبار مؤسسي الحداثة الأدبية والشعرية في البرتغال، والذي بالكاد غادر موطنه أو حتى مدينته التي سيصف شوارعها وأزقتها زاوية زاوية في "الكتيب السياحي"، هو أن المجلدات الأربعة التي ضمت أشعاره التي صدرت بعد رحيله عام 1935، حملت العناوين التالية تباعاً: "أشعار فرناندو بيسوا" (1942)، "أشعار ألفارو دي كامبوس" (1944)، "أشعار ألبرتو كاييرو" (1946) وأخيراً "أناشيد إلى ريكاردو رييس" (1946 أيضاً) علماً بأن ثمة مخطوطاً شعرياً له عثر عليه عام 1946 كذلك، عنوانه "صفحات من دوترينا إستيتيكا".
أسماء لمسمى واحد
فما الغريب في هذا؟ الغريب أن كل تلك الأسماء كانت أسماء ابتكرها بيسوا وأطلقها على نفسه في مرحلة أو أخرى من مراحل مساره الأدبي والشعري. وكان يوقع بها ما ينشره في شتى الصحف والمجلات الطليعية في زمنه ودائماً بالإنجليزية، ولكنها لم تكن بالنسبة إليه مجرد أسماء مستعارة، بل أسماء سمح لنفسه أن يتسمى بها لسبب في غاية الوجاهة. سبب يتعلق بما يعنيه اسمه الحقيقي نفسه، بيسوا، في اللغة البرتغالية. فهو كما حاله في الفرنسية حيث الكلمة personne تعني "شخصاً ما" و"لا أحد"، تعني pesssoa المعنى المزدوج نفسه. ولم يكن في إمكان الفتى الذي كانه بيسوا حين اكتشف تلك "الحقيقة" أن يكون "لا أحد" أو أي "شخص" كان، وهكذا اتخذ قراره بأن يسمي نفسه على هواه تبعاً لظرف كل توقيع يوقعه وكل قطعة ينشرها. ولعل الغرابة الأمثل تكمن بالنسبة إليه هنا في أنه اختار الكتيب الذي يمكن أن يكون الأبعد من ذائقته الشعرية التجريبية الخاصة لكي يمهره باسمه الذي نفترض أنه الحقيقي أكثر من أي اسم آخر استخدمه. وربما يرتبط هذا بطابعه الاستفزازي المشاكس.
لغة شاعرية دائماً
ومع هذا يمكن لمتصفح هذا الكتاب، ولسوف يكون متصفحوه كثراً منذ حقق فيم فندرز الفيلم الذي نفترض أنه ترجمه بصرياً، يمكن له أن يرى كم أن اللغة التي يستخدمها بيسوا في النص شاعرية أنيقة تغوص في شعر وصفي في معظم الفقرات، وتعكس نظرة إلى المدينة يبدو كاتبها مندمجاً في ثناياها ويريد أن يعبر عن ذلك الاندماج بشكل خلاق وإبداعي. ومن هنا ما يبدو فوراً للقارئ من أن الكاتب لا ينظر إلى المدينة من خارجها أو نظرة مبتعدة، بل من داخلها وتحديداً نظرة ابن المكان وصاحبه. ولعل هذا أجمل ما في هذا النص الشيق وما اجتذب السينمائي الألماني الكبير إليه، معتبراً نفسه "مشاركاً الشاعر الكبير في رسم صورة للمدينة". ولعل من البديهي هنا أن نقول إن ما أسهم في صدقية الفيلم هو أن تضاريس المدينة التي رصدها بيسوا عند الربع الأول من القرن العشرين ما برحت هي هي عند نهاية القرن، إذ من المعروف أن لشبونة لم تطلها تغييرات عمرانية فاقعة طوال القرن الماضي.
على شاكلة الإسكندراني
ونعود هنا إلى بيسوا، ابن تلك المدينة الذي من المعروف أنه لم يبارحها طوال حياته إلا حين كان فتى صغيراً، حيث قام برحلة، لم تدم طويلاً على أية حال، إلى جنوب أفريقيا كي يلتحق بأمه التي كانت متزوجة غير أبيه هناك، لكنه لم يلتحق بها بل عاد أدراجه إلى الحاضرة البرتغالية ليعيش حتى نهاية حياته، تماماً كما عاش نظيره اليوناني الأصل الشاعر كافافي في الإسكندرية التي كانت لديه أشبه بلشبونة بالنسبة إلى بيسوا. ومع ذلك يلفتنا كم أن قصائد هذا الأخير التي بلغ عددها نحو مئتين وثلاثين قصيدة، وقطعه النثرية التي لا تقل عن 132 نصاً، تمتلئ بالسفر وبذكر بلدان ومدن يقيناً أن بيسوا لم يزر أياً منها، لكنه عرف كيف يصفها بدقة بل كيف يصور تنقله بينها كأن نجده في نص شعري واحد ينتقل من سنغافورة إلى جزر المالديف فموريشيوس عابراً ماكاو وجاوة وكأنه يتنقل بين بساتين وحدائق يملكها. ونعرف كم أن خيال بيسوا كان خصباً، وهو الذي دار العالم، في لغته الجزلة ولكن دائماً بالإنجليزية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منشورات بعد الرحيل
والأمر الآخر الذي يتشابه فيه بيسوا مع الإسكندراني كافافي هو ضآلة ما نشر من كتاباته خلال حياته. فعملياً لم ينشر شيء لشاعر لشبونة وفارسها بما في ذلك كتيبه السياحي عنها والذي على عكس ما يمكن أن يفترضه المرء، وجد فقط بين أوراقه بعد موته بزمن ما ينفي فكرة أنه قد كتبه أصلاً لهيئة سياحية أو مؤسسة رسمية تعنى بالترويج. لقد كتبه لنفسه معبراً فيه عن حبه للشبونة وتعلقه بها، ولم يتم العثور عليه بين أوراقه سوى خلال ثمانينيات القرن العشرين بعد رحيل الكاتب بثلثي قرن! والطريف أن النقاد الذين علقوا على الكتاب ووصل هذا إلى معرفة فيم فندرز من طريقهم، أجمعوا لدى اطلاعهم على النص كما بقي بخط بيسوا، على أنه لا يزال صالحاً كدليل سياحي... حتى اليوم. ولسوف يكون الإنجليز أول متلقفي الكتاب ممتدحين لغته الإنجليزية الجزلة، ليتبعهم الفرنسيون ممتدحينه بدورهم في الوقت نفسه الذي كانوا قد بدأوا فيه يكتشفون بيسوا وشعره وأسماءه المتعددة، أي خلال سنوات التسعين، أي يوم توج مركز جورج بومبيدو الثقافي ذلك الاكتشاف بإقامة معرض يتحدث عن حياة بيسوا وأعماله شكل مفاجأة طيبة لهواة الأدب الفرنسيين، ومهد لقيام إحدى دور النشر الأدبية الكبرى في العاصمة الفرنسية بنشر مجلد ضخم يضم العديد من أشعاره ونصوصه النثرية فكانت أن ولدت أسطورة جديدة في عالم الأدب هي أسطورة بيسوا، في وقت كان فيم فندرز قد بدأ يشتغل على فيلمه الذي كرس تلك الأسطورة وبخاصة في علاقتها بالمدينة، لشبونة، التي راحت تأخذ منذ ذلك الحين سمات بادية الاختلاف.