فيما كانت تجري موسكو استعدادها النهائي لشن "عمليتها العسكرية الخاصة" على جارتها الأوكرانية، في فبراير (شباط) الماضي، كان خلاف آخر تتصاعد وتيرته مع لندن التي وصلت حدته لاعتبار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، العلاقات مع المملكة المتحدة "بلغت أدنى مستوياتها".
وكان لافتاً أن هذا التصريح، الذي جاء خلال لقاء شويغو، نظيره البريطاني بن ولاس، قبل نحو أسبوعين من اندلاع الحرب الروسية، في العاصمة موسكو، وشدد فيه أبرز مسؤول عسكري روسي قائلاً، "للأسف، مستوى تعاوننا قريب من الصفر، وسيتدنى قريباً ويصبح سلبياً، وهو أمر غير مرغوب فيه"، لترتفع معها نبرة "الخلاف المستحكم بين البلدين".
وما زاد المخاوف لدى المراقبين، تصاعد حدة التهديدات العسكرية المتبادلة بين الطرفين خلال الأيام الأخيرة، مع وصول العلاقات بين البلدين لنقطة غير مسبوقة، عمقتها الحرب الأوكرانية، لتعيد شبح اندلاع حرب بين القوتين النوويتين، وزيادة احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة.
تهديدات عسكرية متبادلة
وخلال الأيام الماضية، تبادل كبار القادة العسكرين في البلدين حدة التهديدات، لتزداد سخونة الأجواء المتوترة بالأساس على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فمن جانبه، أعلن قائد الجيش البريطاني، الجنرال باتريك ساندرز، الذي لطالما دق ناقوس الخطر بشأن إمكانية مواجهة روسيا بمشاركة الحلفاء الأوروبيين، ضرورة وضع كل قوات المملكة المتحدة على أهبة الاستعداد للفوز بأي معركة قد تخوضها على الأرض، مشيراً إلى أن أي مواجهة مباشرة مع روسيا ستعني اندلاع الحرب العالمية الثالثة.
ساندرز، الذي عين حديثاً على رأس الجيش البريطاني، ليكون أرفع مسؤول عسكري في المملكة، طالب قوات بلاده "الدخول في مرحلة التحضير لأي معركة وشيكة"، وذلك بالتزامن مع زيادة لندن لإنفاقها العسكري، بحوالى 3 مليارات جنيه استرليني في كل سنة، ضمن استراتيجيتها العسكرية ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وبحسب ما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، فبمجرد انتهاء رئيس أركان الجيش البريطاني من كلمته المثيرة للجدل، انطلقت التعليقات والتحليلات بشأن مدى واقعية اندلاع مواجهة مباشرة مع روسيا، وضرورة تحضير الجيش البريطاني نفسه من أجل "هزيمة روسيا في أرض المعركة"، ونقلت عن مسؤولين في وزارة الدفاع البريطانية، فإن هذا الخطاب لم يكن مفاجئاً لبقية المسؤولين العسكريين الذين يتابعون تطورات المعركة في أوكرانيا، ويعرفون أن الأمور تسير في اتجاه مقلق.
في المقابل، وفي سياق التهديد المتبادل، خرج أحد الحلفاء المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليعلن، أن لندن ستكون الهدف الاستراتيجي الأول ضمن حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي سيُقصف بالصواريخ الروسية في حال اندلاع حرب عالمية ثالثة.
وقال أندريه غوروليوف، النائب في لجنة الدفاع في مجلس الدوما الروسي، وعضو حزب روسيا الموحدة، عبر التلفزيون الرسمي الروسي، إن موسكو "لن تستهدف وارسو أو باريس أو برلين بدايةً، بل ستطلق الصواريخ على لندن بدلاً من ذلك"، واصفاً ما من شأنه أن يشكل حرباً واسعة النطاق على دول البلطيق المنضوية في حلف شمال الأطلسي.
وبحسب غوروليوف، الذي شغل سابقاً نائباً لقائد المنطقة العسكرية الجنوبية في الجيش الروسي، فإن الحل الوحيد لمنع محاصرة كالينينغراد (إقليم روسي شبه معزول بين ليتوانيا وبولندا ويثير الخلاف حالياً مع ليتوانيا)، هو "الغزو الروسي لدول البلطيق التابعة لحلف شمال الأطلسي"، مضيفاً، "لا توجد طريقة أخرى لمنع الغرب من محاصرة المقاطعة الروسية كالينينغراد"، وتابع أن الخطوة "من شأنها أن تؤدي إلى تطبيق البند الخامس من ميثاق حلف شمال الأطلسي (الدفاع المشترك)، وستؤدي بالتالي إلى ما يشبه الحرب العالمية الثالثة".
ورأى غوروليوف أن العملية ستتم عبر مجموعة من الخطوات، أولها "تدمير مجموعة الأقمار الصناعية الفضائية للعدو خلال العملية الجوية الأولى. لن يهتم أحد إذا كانت أميركية أو بريطانية، نحن نرى أن جميعها تابعة لحلف شمالي الأطلسي. وثانياً، ضرب منظومات الدفاع المضادة للصواريخ (الخاصة بالناتو) بأكملها، في كل مكان بنسبة 100 في المئة"، وتابع، "ستكون الخطوة الثالثة ليس ضرب وارسو أو باريس أو برلين، بل لندن، إذ إن من الواضح تماماً أن التهديد للعالم يأتي من الأنغلوسكسون ومن القوة البحرية البريطانية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع غوروليوف قائلاً، إن "إمدادات الطاقة ستُقطع عن أوروبا الغربية التي أشار إلى أنها ستدمر أيضاً وتشل حركتها"، مشيراً إلى أن، "خلال هذه المرحلة الثالثة، أود أن أرى ما الذي ستقوله الولايات المتحدة لأوروبا الغربية حول الاستمرار بقتالها في البرد من دون طعام وكهرباء. أتساءل كيف ستنجح الولايات المتحدة في البقاء على الحياد". إنها الخطة التقريبية، وأترك عمداً بعض اللحظات المعينة للمفاجأة، لأنه لا يجب مناقشتها على شاشة التلفزيون".
ويعد الجنرال أندريه غوروليوف قائداً روسياً بارزاً، ويشغل منصب نائب في مجلس الدوما الثامن، وعضو لجنة الدفاع الوطنية، وكان قائداً لجيش الأسلحة المشتركة الـ58 في المنطقة العسكرية الجنوبية في عام 2012.
وبحسب مراقبين، فإن درجات العداء بين لندن وموسكو وصلت درجات غير مسبوقة، زادت معها المخاوف من احتمالات اندلاع حرب بين الطرفين، في ظل قيادة بريطانيا لجبهة الغرب في مساندة أوكرانيا ضد روسيا وإمدادها بالأسلحة، فضلاً عن تشديد العقوبات الاقتصادية على النظام الروسي حتى قبل أيام من اندلاع الحرب في أوكرانيا.
"عداوة معلنة"
وتعكس حجم التهديدات العسكرية المتبادلة، ما كشفته وثيقة "المراجعة الشاملة" للسياسة الدفاعية، التي أعلنت عنها الحكومة البريطانية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، إذ حددت أخطر التهديدات التي تواجه المملكة بعد الخروج من الاتحاد، وفي مقدمتها الصين وروسيا، مشيرة في الوقت ذاته إلى موسكو باعتبارها التهديد الأكبر على أمنها وأمن أوروبا أكثر من الصين.
وعلى الصعيد الروسي، أصبح الكرملين في عرف السياسة الدفاعية البريطانية "الخطر الأكثر إلحاحاً" على أمن البلاد، إذ أعلن قادة عسكريون سابقون في أكثر من مناسبة أن الحرب مع روسيا باتت وشيكة"، كذلك قيم قادة سابقون في الاستخبارات العسكرية البريطانية "أم آي 6"، مسار العلاقات بين البلدين على مدار السنوات الأخيرة، بأنها "حالة حرب خفية"، لا سيما بعد محاولة تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال في لندن في مارس (آذار) 2018، ما أدى إلى أزمة دبلوماسية غير مسبوقة، تم على إثرها طرد العشرات من الدبلوماسيين الروس.
ويرجع البعض، استمرار تصاعد العداوة بين البلدين، إلى المشاريع السياسية لكل من الرئيس الروسي ورئيس الوزراء البريطاني، القائمة على استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي، وكذلك عودة نفوذ الإمبراطورية البريطانية، ما يعني أن العامل التاريخي حاضر بقوة في هذا الصراع.
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإن "الوقائع والأحداث التي تداخلت فيها لندن وموسكو، أظهرت تحرك الطرفين نحو حافة الهوية، لا سيما في عام 2018 مع تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته بغاز الأعصاب في بريطانيا، حيث اتهمت الأخيرة رسمياً المخابرات العسكرية الروسية بتدبير هذا الهجوم، وعلى الرغم من نفي موسكو، إلا أن الحادث قاد حينها لاندلاع أسوأ أزمة دبلوماسية بين الغرب وروسيا منذ الحرب الباردة، كذلك عكست المواجهة التي شهدها البحر الأسود بين حاملة الطائرات البريطانية "الملكة إليزابيث" وعدد من السفن الروسية، العام الماضي، بعد أن أطلقت القطع العسكرية الروسية طلقات تحذيرية قرب حاملة الطائرات، بدعوى أن الأخيرة تنتهك مياهها الإقليمية حجم التوتر ذاته.
وعلى وقع احتدام هذه التهديدات العسكرية، يشير موقع "غلوبال فاير باور" المعني بتصنيف الجيوش حول العالم، إلى فروق عسكرية كبيرة بين البلدين، فمن ناحية روسيا، تتفوق بشكل كبير على بريطانيا من الناحية العسكرية، سواء في عدد الجنود أو العتاد أو الإنفاق العسكري، ويعد الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم، بينما يقع ترتيب الجيش البريطاني ثامناً، كذلك تملك روسيا أكبر عدد من الرؤوس النووية في العالم، بأكثر من 6 آلاف رأس نووي.
في المقابل تكمن قوة بريطانيا العسكرية في عضويتها في حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي يعد التجمع العسكري الأقوى في العالم، وتربطه معاهدة دفاع مشترك ضد أي عدوان يطول أعضاءها.