"جابر عصفور: الإنجاز والتنوير" هو عنوان الملتقى الدولى الذي أقامه المجلس الأعلى المصري للثقافة، بالمشاركة مع مؤسسة سلطان العويس الثقافية، يومي 26 و27 يونيو (حزيران) الجاري في مقره في القاهرة، وبمشاركة باحثين ونقاد وأدباء من 15 دولة عربية. ويستدعي هذا الحدث السؤال عن حاجتنا لاستعادة جابر عصفور هذا الناقد والمفكر الكبير الذي غيبه الموت قبل نحو ستة شهور (في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2021).
وللإجابة عن هذا السؤال ينبغي الرجوع إلى مشروع جابرعصفور النقدي والتنويري. ولكن قبل ذلك تنبغي الإشارة إلى أنه في حين أتيحت الفرصة لمشاركين من مشرق العالم العربي ومغربه في النقاش الواسع الذي شهده الملتقى، لم يتمكن المدعوون السوريون من حضور هذه المناسبة المهمة لعدم تمكنهم من الحصول على تأشيرات دخول مصر، ومنهم الروائي نبيل سليمان والمترجم ثائر ديب والشاعر حسين درويش. ومن الكلمات المؤثرة التى قيلت في افتتاح الملتقى، كلمة أحمد جابر عصفور التى ألقاها بالعامية المصرية وجاء فيها :"بابا حبيبى أنا الآن فى بيتك (المجلس الأعلى للثقافة)، سعيد وفخور وأنا أدخل المكان وأمشي في طرقاته، طاقتك وروحك لسه موجودة فيه أنا حاسس بيك حوالينا". كما أجهشت زوجته هالة فؤاد وهى تستعيد سيرته التنويرية وتعلن عن تحويل بيته في ضاحية السادس من أكتوبر جنوب غرب القاهرة، إلى مكتبة عامة وتخصيص جائزة سنوية باسمه.
التراث أولاً
ظلت مقولة أمين الخولي حول "قتل القديم فهماً" من المقولات الرئيسة التي انطلق منها مشروع جابر عصفور، مستبدلاً بها قوله إن "الفهم تملكٌ للمفهوم"، رغم أنه لم يكن من التلاميذ المباشرين له. ولهذا كانت أطروحته للماجستير حول التراث القريب ممثلاً في "الصورة الفنية عند شعراء الإحياء في مصر". كما استعادت أطروحته للدكتوراه التراث البعيد تحت عنوان "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي". ثم تتابعت كتبه متراوحة بين التراث القريب في كتابه المهم "المرايا المتجاورة" الذي دار حول مشروع طه حسين النقدي؛ مؤسساً ما يسمى "نقد النقد" الذي أشاعه تودوروف في العالم الغربي. وكان جابر عصفور من أوائل من أسسوا له في عالمنا العربي. والتراث البعيد – وأنا هنا أعني البعد الزمني فقط – في كتابيه "مفهوم الشعر – دراسة في التراث النقدي"، و" قراءة التراث النقدي". ثم كانت كتبه الكثيرة التي اهتم فيها بالإبداع المعاصر، ومن أهمها: "رؤيا حكيم محزون" عن صلاح عبد الصبور، و"قصيدة الرفض" عن أمل دنقل، و"رؤى العالم" الذي تناول فيه نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط وأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر. بالإضافة إلى الأبحاث الكثيرة حول الشعر مثل قراءته – التي كانت أول ما طالعتُه له – لقصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، وقراءته لبعض قصائد نازك الملائكة. ولا شك أننا نلاحظ هذا الأفق القومي الواسع الذي تحرك فيه جابر عصفور الذي لم يفرق بين مبدعى مصر ومبدعي العرب على اختلاف أقطارهم. فقد كانت القيمة الإبداعية هي الدافع الوحيد للكتابة النقدية عنده، بل إنه فضل بعض الشعراء العرب على أقرانهم من الشعراء المصريين. وليس أدل على ذلك من تخصيصه لأحد أعداد مجلة "فصول" القاهرية عندما كان يرأس تحريرها، لأدونيس، وهو ما لم تفعله المجلة نفسها مع شاعر مصري، باستثناء صلاح عبد الصبور. ناهيك عن الشعراء العرب الكثيرين الذين كتب عنهم وأشرتُ هنا إلى بعضهم.
اختطاف ناقد الشعر
كان تكوين جابر عصفور العلمي والثقافي يؤهله لأن يكون ناقداً للشعر – كما يقول تلميذه محمد بدوي – في المقام الأول بناء على أطروحتيه العلميتين المشار إليهما وكتاباته العميقة عن الشعراء الإحيائيين والرومانسيين. من ذلك مثلاً بحثه عن "الخيال الشعري عند الشابي"، وكتاباته عن رواد الشعر الحر، وصولاً إلى جيل السبعينيات حين كتب عن الشاعر محمد سليمان بوصفه أحد أهم شعراء هذا الجيل. وحين قارن بين أمل دنقل والشاعر السبعينى عبد المنعم رمضان. لكنه وسط هذا الاهتمام الكبير بالشعر يتحول – فجأة – إلى ما أسماه " زمن الرواية". وهى مقولة جاءت بالسلب على الشعر الذي تمَّ تهميشه نقدياً بدرجة كبيرة، بل تحوَّل كثير من الشعراء المصريين والعرب إلى روائيين، ولم تعد غالبية دور النشر الخاصة تقبل نشره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وظل الشعراء إلى الآن يتكبدون كلفة نشر نسخ قليلة من دواوينهم ورقياً. ومن المؤكد أن جابر عصفور لم يكن يسعى إلى ذلك، لكن يظل هذا الموقف من تداعيات مقولته، خاصة أنه استعاد وصف نجيب محفوظ للقص – عموماً – بأنه "شعر الدنيا الحديثة"، وهى مقولة صرَّح بها محفوظ أثناء معركته مع العقاد حين قال إن الرواية مثل الخروب "قنطارخشب ودرهم حلاوة". وكانت جملة محفوظ ساعتها لها مبررها، لكن استعادة عصفور لها جعلتها تحيل إلى أن الشعر هو فن "البداوة" الذي تجاوزته الرواية بوصفها فن المدينة الحديثة والبرجوازية الصاعدة.
مواقف رمادية
يقال دائماً "إن المذاهب رمادية وشجرة الحياة خضراء". ويمكننا القول إن المواقف السياسية رمادية زائلة – أو ينبغي أن تزول – وشجرة الإبداع خضراء، وهو ما ينطبق على بعض مواقف جابر عصفور. ومن ذلك قبوله جائزة معمر القذافي، في دورتها الأولى والأخيرة، بمسعى من الناقد صلاح فضل، بعد أن رفضها آخرون اعتراضاً على قمع القذافي وديكتاتوريته. ولم تفلح تصريحات عصفور بعد ذلك من قبيل أنه قبلها من المثقفين الليبيين الذين يعرفون دوره، في تخفيف حدة انتقاده لقبولها. ومن ذلك أيضاً قبوله منصب وزير الثقافة في ذروة الثورة على حسني مبارك ومناشدته الشباب بالعودة إلى منازلهم، واعداً إياهم بتنفيذ مطالبهم. ويبدو أنه قد أدرك المفارقة الواسعة بين أحلامه والواقع البائس، فاستقال بعد نحو عشرة أيام فقط من الوزارة. ومن ذلك صمته الطويل جداً إزاء ما تعرض له المفكر نصر حامد أبوزيد، زميله فى قسم اللغة العربية في كلية الآداب (جامعة القاهرة) وابن بلدته، المحلة الكبرى، وصديقه القديم. والأغرب من ذلك أن كل أساتذة قسم اللغة العربية هذا لم يشاركوا بالرأي فى هذه المعركة والتزموا الصمت باستثناء الأكاديمي حسين نصار الذي تكلم كلاماً عاماً عن حرية البحث فى الجامعة من دون أن يشير من قريب أو بعيد إلى قضية نصر حامد أبوزيد. وأنا أقول هذا بناء على ما ورد في كتاب "القول المفيد في قضية أبوزيد" الذى قام نصر أبوزيد بجمع مقالاته والتقديم لها. ومع ذلك يظل صمت جابر عصفور هو اللافت حقاً؛ لأنه ونصر كانا يبشران بقيم العقلانية والمواطنة والتنوير؛ كل بطريقته.
شجرة الإبداع الخضراء
من حقنا أن نختلف مع مواقف جابر عصفور السابقة، وهو نفسه لم يكن يتعصب لرأي أو للدفاع عن موقف، وكان يقبل انتقادات تلاميذه المباشرين له، علناً على صفحات الجرائد، ويقابلها بأريحية المعلم المربي. لكننا لا نستطيع أن نقول إنه كان "بوقاً" للنظام، أو لاهثاً وراء سلطة، بل كانت علاقاته الوثيقة بكبار المسؤولين في خدمة مشروعه الفكري وتوسيع المتن الثقافي. كما لا نستطيع أن نختلف حول القيمة العالية لمشروعه النقدي الذى تجاوز – من خلاله – ثنائية الأصالة والمعاصرة التي ظلت تحكم العقلية العربية منذ عصر النهضة، ونجح في إنجاز مزاوجة إبداعية خلاقة بين طرفى هذه الثنائية. ولنا أن نتخيل ناقداً يجمع بين قراءة التراث النقدي والبلاغي وبنيوية لوسيان غولدمان التوليدية وتفكيكية دريدا والنظريات المعاصرة عموماً، ثم بين نقد الشعر والرواية والمسرح، بل وكتابة السيرة الذاتية في كتابه "زمن جميل مضى". وهي جوانب متعددة لم تتيسر لبعض نقاد الحداثة الذين أعلوا من قيمة القطيعة المعرفية في الوقت الذى كان فيه جابر عصفور يدعو إلى العكس من ذلك في كتبه "الهوية الثقافية والنقد الأدبي"، و"غواية التراث"، و"دفاعاً عن التراث". وهو ما يتجاوب مع مشروعه التنويري ودفاعه عن قيم الدولة المدنية الحديثة التي يعلم أننا "لم نصل إلى أفقها التحديثي الذى يصون المجتمع المدني ويحميه، ومؤسسات المجتمع المدني التى يتم اختراقها على نحو متصاعد من قوى يحركها العداء اللاهب لها، وتقاليد العقل تُستبدل بها تقاليد النقل، وشعارات الاتباع تكاد تقضى على أحلام الإبداع".
ويظل الوجه الثالث له – وهو وجه الإداري التنفيذي – على درجة كبيرة من الأهمية بحيث حول المجلس الأعلى للثقافة أثناء عمله أميناً عاما له على مدى نحو 15 عاماً، إلى خلية نحل وبيت لكل المثقفين المصريين والعرب، مستعيداً الدور الريادى للثقافة المصرية بدرجة كبيرة. ولأنه يعلم – كما كان يعلم جده الكبير رفاعة رافع الطهطاوى الذي أنشأ مدرسة الألسن – قيمة الترجمة، فقد ظل يسعى حتى تحول "المركز القومي للترجمة" إلى حقيقة واقعة تستطيع من خلالها قراءة كافة العلوم مترجمة إلى العربية من لغات العالم الغربي والشرق الأقصى – الصينية واليابانية – على السواء؛ إيماناً منه بأن "قاطرة التقدم" تتمثل في "الترجمة ومجتمع المعرفة". وأخيراً فإن بعض المواقف الخلافية في مسيرة جابر عصفور قد زالت وسيبقى ما هو أهم في هذه المسيرة، أعنى مشروعه النقدي الحداثي والتنويري، وهو ما ينبغي استعادته والبناء عليه دائماً.