في منتصف القرن التاسع عشر، كان تقدير كارل ماركس وشريكه في "البيان الشيوعي" فريدريك أنغلز أن "الرأسمالية ستدمر نفسها عبر خلق هوة واسعة بين وسائل الإنتاج والفوائد التي توزعها". وفي منتصف القرن العشرين، كتب الدبلوماسي الأميركي جورج كينان، صاحب نظرية "الاحتواء" أن "الهوة بين وسائل الإنتاج والفوائد التي توزعها ستقود إلى سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه". لكن تحقق ما تنبّأ به كينان بسقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في نهاية القرن العشرين لم يحسم الجدل. فالنموذج الصيني الناجح في النمو الاقتصادي الهائل في ظل السيطرة السياسية للحزب الشيوعي بدا نقيض التسليم بسيادة "الليبرالية الاقتصادية والديمقراطية السياسية". ونظرية فرنسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ" اصطدمت بالأزمات والثورات المتحركة في العالم وصعود روسيا من جديد لاستعادة المجد الضائع باستخدام القوة العسكرية خارج حدودها من سوريا إلى أوكرانيا مروراً بجورجيا. وليس قليلاً عدد الذين اعتبروا أن سقوط الاتحاد السوفياتي هو سقوط تجربة وممارسة، لا سقوط فكرة. وها هي أميركا اللاتينية تراوح مثل رقاص الساعة بين اليمين واليسار. قبل سنوات ساد المد اليميني، بحيث بدت كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا مثل "الديناصورات". ثم عاد المد اليساري إلى الارتفاع.
كولومبيا اختارت أخيراً رئيساً يسارياً هو غوستافو بيترو. البرازيل مرشحة لأن تختار من جديد الرئيس العمالي اليساري المخضرم لولا. وما يُسمّى بـ"اليسار الجديد المعتدل" يتولى السلطة في خمسة بلدان أخرى: مانديل لويز أوبرادور في المكسيك، وألبرتو فرنانديز في الأرجنتين، وغابرييل بوريتش في تشيلي، ولويس أرسيه في بوليفيا وبيدرو كاشينو في البيرو. واليسار القديم طبعاً في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا. وما تعمل له المكسيك والأرجنتين هو مشروع "الاندماج الأميركي اللاتيني" بعد عقود من قول القائد التاريخي للثورة في أميركا اللاتينية سيمون بوليفار إن "محاولات توحيد القارة هي حراثة في البحر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن المسألة في أميركا اللاتينية ليست اليمين واليسار. فالأوضاع المعيشية للناس في فنزويلا مزرية وفي نيكاراغوا تاعسة وفي كوبا صعبة. والأزمات الاقتصادية تضرب البلدان التي اختارت اليسار كالبلدان التي حافظت على اليمين. والسؤال، وسط تنامي الشعور المعادي للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية، هو: لماذا يغامر عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال بحيواتهم في محاولات الهجرة غير الشرعية للوصول إلى الولايات المتحدة بحثاً عن حياة جديدة وعمل؟ لماذا يعبرون البحر في زوارق صغيرة من كوبا إلى فلوريدا، ويعبرون نهر ريو غراندي ويتحايلون على الجدار بين أميركا والمكسيك ويواجهون رصاص حراس الحدود، وهم يعيشون في أنظمة يمينية وأنظمة يسارية؟
الجواب يتجاوز ما في الولايات المتحدة من مشكلات. فهي اليوم، كما يقول روبن بريجتي من مجلس العلاقات الخارجية في مقال تحت عنوان "كيف نتجاوز القبلية"، مثل البلدان المنقسمة سياسياً واجتماعياً: "في المجتمع انقسام وسياسات قبلية، حيث الولاء للهوية من دين أو عرق أو منطقة أو زمرة، والحملة الانتخابية معركة بين قبائل أكثر مما هي تنافس أفكار". وفي استطلاع لمركز "بيو"، قال 8 من كل 10 مؤيدين لترمب أو بايدن أنهم يختلفون مع الطرف الآخر على القيم الأميركية الأساسية، وقال 9 من كل 10 إن الطرف الآخر "تهديد وجودي لأميركا".
الواقع أن المشكلة هي سوء الحوكمة في بلدان أميركا اللاتينية. فساد ومخدرات وتسلط على القضاء وتسلط عصابات على الناس. شيء من دول سلطوية، وشيء من "دول رخوة" بحسب تعبير الاقتصادي السويدي كارل ميرال. والأمثلة من خارج أميركا اللاتينية معبّرة. الكوريون شعب واحد. لكن الشعب في كوريا الشمالية فقير وينتظر المساعدات من الصين ليأكل وسط انشغال النظام بإطلاق الصواريخ وحيازة السلاح النووي. والشعب في كوريا الجنوبية انتقل من دخل سنوي للفرد بما يوازي 200 دولار في الستينيات إلى ما يزيد على 20 ألف دولار اليوم، حيث الحوكمة الجيدة، والألمان شعب واحد، لكن ألمانيا الغربية كانت أكثر تطوراً من نظيرتها الشرقية، بحيث كان عليها إنفاق مئات المليارات من المارك كثمن لإعادة التوحيد ومتطلباتها.
يسار يمين؟ مجرد تنقل رجل متعب نائم بين جانب وآخر. وأسئلة حائرة. رئيس أساقفة ميونيخ رينهارد ماركس أصدر كتاباً بعنوان "رأس المال" خاطب فيه كارل ماركس بالقول: "هناك سؤال لن يتركني في سلام: في نهاية القرن العشرين عندما هزمت رأسمالية الغرب شيوعية الشرق، هل كنا سريعين جداً في رفضك ورفض نظرياتك الاقتصادية؟". المسألة هي الحوكمة.