تروي حكايات البادية عن قصة حب تداولها سكان ناحية الحمراء غرب الصحراء السورية، عن فتاة يتيمة الأم اسمها حمدة، تعمل برعي الأغنام، وكان لها ابن عم يطلق عليه ديبان، تكرهه بشدة، وهددها بالقتل إن لم تقبل به زوجاً.
وفي أحد الأيام، خرجت الفتاة مع قطيعها، إلى أن وصلت لقصر يسمى "ابن وردان"، حيث تركت القطيع يسرح وحيداً واستظلت بجدران القصر المصنوع من الآجر الأحمر، بعد أن أنهكها التعب، واحتمت من الأمطار المنهمرة حتى غلبها النعاس.
وبالمصادفة يصل ابن عمها إلى مكان القصر، ويشاهدها نائمة، فما كان منه بعد أن تأمل وجهها الجميل إلا أن مسد جبينها بيده إلى أن أفاقت من نومها ممسكة يده بعد توقف المطر عن الهطول، وسرت رائحة عطر جدران القصر، وبدأت معها قصة حب أسطورية بين عشيقين، تداولتها العرب عن سحر هذا القصر ولغزه ورائحة عطره الفاتنة، التي تقرب القلوب وتحملها على الألفة.
هذه الرواية حيكت حول بناء معماري فريد من نوعه، بُني بالعهد البيزنطي في القرن السادس الميلادي؛ أي بفترة حكم الإمبراطور جوستنيان، بينما اسم القصر يعود إلى أحد شيوخ القبائل العربية، إذ يتألف المكان من ثلاثة مبان: القصر والكنيسة وثكنة الجند، بنيت من الحجارة السوداء والقرميد المربع. ويقول المعماريون إن الكنيسة تشبه في طرازها كنيسة سان فيتال في إيطاليا، التي بناها الإمبراطور جوستنيان أيضاً بالوقت نفسه.
الجمال ورائحة العطر
في طريقنا إلى القصر المقصود، شقت المركبة التي أقلتنا من حماة، وسط البلاد طريق البادية، تحت شمس يونيو (حزيران) الحارقة في كبد السماء، وسرعة الرياح جعلت من عباب الرمال تتطاير وكأنها تلاحق عجلاتها المسرعة بحذر خوفاً من الضياع والغوص بأماكن خطيرة، بها مخلفات حرب أو ألغام زرعت قبل أن ينطفئ لهيب المعارك الضارية قبل سنوات.
بينما الحافلة أشبه بسفينة أخذت تطوي المسافات مروراً بقرى إلى فياف وقفار، وبيوت طينية مهجورة ومهدمة، تمتد بين جنبات طريق بمسافة تبعد 60 كيلومتراً شرق حماة إلى أن وصلنا إلى قصر ابن وردان، والذي يبعد عن ناحية الحمراء مسافة 20 كيلومتراً.
رجل خمسيني من أهل القرية يقف متاخماً لباب القصر، يعرف نفسه بـ"أبي وليد"، مهنته حارس القصر منذ عقود خلت، يبدو من خلال شرحه لمداخل القصر المؤلف من ثلاثة أبنية تتشابه بتصميماتها وفنها المعماري، أنه على دراية تاريخية واسعة، بل ومتابع لما آلت إليها مجريات الحوادث الكارثية بحق آبدة تاريخية ومعمارية في غاية الأهمية، وبحكم التقاء الرجل بكثير من الوفود أتقن ثلاث لغات أجنبية، وخضع لدورات في العلوم الأثرية والسياحية.
يشرح قائلاً "بُني هذا القصر المهندس المعماري، إيزيدور في عهد الإمبراطور جوستنيان، الذي لم يهنأ به سوى لعام واحد، بعد أن داهمه الموت، لكن أهميته تكمن في أنه تحفة فنية معمارية من أشهر القصور الأثرية السورية".
ويضيف حارس القصر أن المؤرخين كتبوا حول أهمية القصر التاريخية والمعمارية، وجل ما يميزه أن تصميم جدرانه من الطين الممزوج بماء الورد، فكلما هطل المطر أو رش الماء فوقه بعث من بين ثنايا الحجارة رائحة عطرة، ومن القصص والأساطير التي نسجت عن أسرار بناء هذا القصر، أن إحدى العرافات همست بأذن الملك عن مصير محتوم لابنه، وذلك بلدغة عقربة، مما سعى به إلى بناء هذا القصر بعيداً وجبله بماء الورد، لكن الأسطورة تقول إنه مات بلدغة عقرب بعد أن مد يده عند مرور ناقة أمام نافذة قصره، وبدافع تجربة جديدة، بعد ملل أصاب نفسه.
التخريب
وبعد إلقاء الماء على الجدران كانت جولتنا بالقصر لها سحرها الخاص، فالمكان يبعث على طمأنينة وسلام تتسلل للنفس، ويجزم الباحث المعماري، المهندس محمد الأحمد، أن سر جمالية المكان تختزلها حجارته البازلتية التي شيدت بأسلوب يطلق عليه (الأبلق)، حيث يتشكل القصر من طابقين وباحة في الوسط تحيط الغرف من جهاتها الأربع، في حين الكنيسة تقع إلى الغرب من القصر، بينما الثكنة قد خربت وطمرت تحت التراب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهته، يروي حارس القصر ما أصاب المبنى من تخريب، فبالإضافة إلى ما أصابه بفعل الزلازل، طاولته الحرب الأخيرة أيضاً ودمرت أجزاء منه بعد تعرضه للهجوم من أكثر الفصائل المتشددة، تنظيم "داعش"، حيث عاثت فيه تخريباً "لقد دمرت الجدران والأقواس وحطمت الحجارة التي تحمل الصلبان علاوة لتعرضه للسرقة والنهب".
وتسعى السياحة الداخلية في البلاد، التي أخذت بالانتعاش بعد استقرار نسبي بمواقع شهدت حروباً، إلى إعادة نبض الحياة إلى هذه الأماكن، عبر زيارتها والتمتع بمشاهدة مثل تلك الأوابد، على الرغم من مشاهد لدمار خلفته الحرب، بانهدام أجزاء من جدران القصر، وظهور آثار لطلقات من رشاش متوسط الحجم اخترقت جدران لطالما حملت الورود منذ مئات السنين، لتمتزج في عصرنا اليوم برائحة البارود.