من الغش في السلع والبضائع التجارية، مروراً بالغش في الميزان والذهب والخدمات الإدارية، والاحتيال في امتحانات الباكالوريا، وصولاً إلى الغش في أكباش العيد، تستفحل ظاهرة الخداع في عدد من المعاملات المختلفة في المجتمع المغربي.
وتتخذ ظاهرة الغش صوراً جديدة لا تكاد تخطر على بال كثيرين في المغرب، لتتحدى بذلك "الترسانة القانونية" التي تزجر هذا النوع من التحايل بالسجن أو الغرامات المالية، من دون أن تتمكن من استئصال جذور الاحتيال المستفحل بشكل لافت في البلاد.
أكباش... خميرة ونفخ وحقن
وعلى بعد أيام قليلة من عيد الأضحى المبارك في المغرب، ضبطت المصالح الأمنية في مدينة تزنيت (جنوب) شاحنة محملة بكمية كبيرة من مخلفات الدجاج، كان يعتزم مربو الماشية استخدامها كأعلاف لتسمين الأكباش بطريقة غير قانونية، الأمر الذي يؤثر في جودة الأكباش.
وصادرت السلطات الصحية المغربية أيضاً كميات كبيرة لفضلات الدواجن في مدينة آسفي، كانت ستستخدم لتسمين قطيع أكباش لدى أحد مربي المواشي، ما حدا بالمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية إلى الحجز الاحترازي لرؤوس الأغنام، وإحالة مربي الماشية المعنيين على التحقيق القضائي.
ومن طرق الخداع، ما يسرده إدريس لفاش، مربي ماشية، قائلاً إن "بعض منعدمي الضمير يلجأون إلى الخميرة في أكل الخروف كأحد أشهر وأسهل طرق تسمين الأغنام، لتظهر في أحجام كبيرة، وبيعها المُربي (الكَساب بلغة المغاربة) بأثمان مرتفعة".
ويضيف أن هناك "مُربين للماشية ينفخون الأكباش عن طريق النفخ فيها بالمضخة، أو حقنها بمواد كيماوية من أجل فتح شهيتها للأكل، حتى تزيد بضعة كيلوغرامات في الوزن من أجل الحصول على سعر أعلى من الزبون، من دون مراعاة خطورة هذه المعاملة التجارية المغشوشة".
والتقط خيط الحديث إبراهيم معضور، فلاح، الذي قال إن "أساليب الغش هذه لا تظهر للزبون العادي، فيشتري الكبش ظناً منه أنه كبش أملح وكبير الحجم، لكن بمجرد ما يذبحه يكتشف الخديعة التي وقع فيها".
وأردف "كثير من الزبائن يكتشفون عملية الاحتيال التي وقعوا ضحيتها من قبل مربي الماشية، لكن بعد فوات الأوان عندما يظهر لحم الكبش أزرق اللون، أو لما تفوح منه روائح كريهة مثل ما حصل في أحد الأعوام الماضية"، مبرزاً أنه "في هذه الحالة، يتعين على المواطن أن يتصل بالسلطات الصحية لتتبّع رقم الخروف، ومعرفة المصدر الذي أتى منه لترتيب الجزاءات والعقوبات".
وأرست وزارة الفلاحة المغربية النظام الوطني للترقيم وتتبع مسار الحيوانات، كوسيلة أساسية للتدبير الصحي والتقني للقطيع، بحيث أصبح نقطة انطلاق وشرطاً أساسياً لأي إجراء أو تدخل أو بحث عن المعلومات الخاصة بالحيوانات. ويُعدّ وسيلة أساسية لتتبع تحركاتها وكذا مسار المنتوجات المشتقة منها.
وتهدف هذه الوسيلة إلى السيطرة على الإجراءات والتدخلات في مجال تربية الحيوانات، من قبيل معرفة النسب وتقييم الإنتاج ومعلومات عن القطيع وأداة لضمان الشفافية في المعاملات التجارية المتعلقة بالقطيع، مثل الجودة والحال الصحية.
وتكثف السلطات الصحية في هذا المجال، ممثلة بـ"مكتب السلامة الصحية للمنتجات الغذائية"، عمليات المراقبة في أماكن مزارع تربية الأغنام، وتتحرى جودة مياه شرب الأضاحي وأعلاف الماشية والأدوية المستعملة ووحدات التسمين، علاوة على مراقبة مخلفات الدجاج.
بيض وزبدة وقهوة
وتتنوع أساليب الغش التجاري بشكل لا يخطر على بال كثيرين في المجتمع المغربي، ومن ذلك تحويل البيض العادي (الرومي) إلى بيض بلدي، وتحويل الحمص إلى قهوة، وخلط توابل بمواد ومستحضرات للحصول على مواد غالية الثمن، وغيرها من أساليب الغش.
وفي هذا الصدد، يقول البقّال لحسن أمزون إن أساليب الخداع في التجارة لا تُعدّ ولا تحصى، لعل أشهرها غطس البيض العادي في سوائل التنظيف حتى يتغير لون قشرته إلى لون أبيض، فيعتقد الزبون أنه بيض "بلدي" غالي الثمن مقارنة بالبيض "الرومي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح أن هناك أيضاً من يحوّل الحمص إلى بذور القهوة باستخدام مواد وخلطات مشبوهة، أو هناك من يخلط القهوة نفسها بالحمص أو السكر أو حتى الشعير، ليحصل على وزن أكبر، بالتالي الحصول على ربح وفير.
وزاد أمزون أنه يعرف تجاراً يسهبون في الغش في السلع التجارية، ويخلطون مادة الزبدة بمطحون البطاطا من أجل الحصول على وزن أكبر. كما أن هناك من يضيف الطحين إلى الفلفل الأحمر الحلو (التحميرة بالدارجة المغربية)، وذلك بصباغته بصباغة حمراء، حتى يحصل على كميات وفيرة من "التحميرة" عن طريق الخداع.
ويحذر متخصصو التغذية الصحية في هذا السياق، من مخاطر استهلاك المواطنين لهذه المواد المغشوشة، خصوصاً تلك التي تضاف إليها مواد غريبة أو كيماوية ليتغيّر طعمها أو لونها، فتصير ضارة بالصحة، وقد تفضي إلى أمراض خطيرة.
الغش في الذهب وزيت الزيتون
مجالات أخرى وصلت إليها "يد الغش" في المغرب، منها على سبيل المثال الغش في الذهب. فالمعروف أن الذهب يتم صهره قانونياً بمعادن أخرى، لا سيما النحاس بقياسات علمية حتى يتماسك ويصبح ذهباً، غير أنه أحياناً يعمد بعض تجار الذهب إلى مزجه بكميات كبيرة من النحاس.
ويشتكي عدد من المغاربة، خصوصاً مع دنو فصل الصيف، من ترويج باعة الحلي لذهب مغشوش في الأسواق، في الوقت الذي يتم الحديث بين الفينة والأخرى عن ضبط وتفكيك الأمن لعصابات متخصصة في تزوير الذهب والمصاهرة في هذا المعدن النفيس، فضلاً عن تشديد الجمارك مراقبة سوق الذهب وضمان وضع دمغات لضمانة الذهب الخالص.
ووصلت "يد التملّق" أيضاً إلى زيت الزيتون، عندما يتم ذلك وفق بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة الوطنية لحماية المستهلك، "بالأسلوب التقليدي المعروف بخلط زيت الزيتون بأنواع أخرى من زيوت الطهي، أو بأساليب عصرية بارعة في الغش، تعطي الزيت المغشوش طعماً يضاهي الزيت الأصلي من خلال إضافة نكهات وأصباغ ومواد كيماوية خطيرة على صحة المستهلكين".
ويدعو الخراطي إلى الحذر من الوقوع في قبضة "عصابات الغش" من خلال تفادي شراء زيت الزيتون الذي يعرض ويباع في الطرقات والأماكن العامة، وشراؤه مباشرة من الفلاحين الموثوقين أو من المعاصر ذات التراخيص من طرف السلطات الصحية المعتمدة، محذراً من إصابة المستهلكين بمرض "تشمّع الكبد".
الغش في الامتحانات
ولا يقتصر الغش فقط على السلع والمعاملات التجارية، بل أيضاً يطاول المؤسسة التربوية مستهدفاً العلم والدراسة، خصوصاً في الامتحانات التعليمية، ومن أبرزها امتحانات الباكالوريا (الثانوية العامة)، فلا يكاد يمر ختام سنة دراسية من دون ضبط آلاف الغشاشين في هذه الامتحانات.
وأوردت مديرية الأمن المغربي بعد انتهاء امتحانات الباكالوريا للسنة الدراسية 2021/2022، أنه تم ضبط 573 شخصاً في جميع مراكز الامتحانات، من بينهم 468 مشتبهاً فيهم بارتكاب أعمال احتيال، والباقون يشتبه في تورطهم في قضايا تتعلق بحيازة وترويج معدات معلوماتية تستعمل لأغراض الغش المدرسي ونشر محتويات رقمية على الإنترنت.
وأوقفت المصالح الأمنية المكلفة مكافحة الجرائم المرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة، في السياق، عدداً من الطلبة الذين يروجون لأجهزة ومعدات إلكترونية حديثة تستعمل في الغش بالامتحانات، من أجهزة لاسلكية مهربة وسماعات لاسلكية دقيقة وبطاقات للاتصالات المحمولة.
ويرى متخصصون في التربية والتعليم أن الخداع في امتحانات الباكالوريا يهدد مصداقية الامتحانات، كما يهدم المسار التعليمي للطالب الذي نجح بواسطة التزوير، فضلاً عن خطر وصول أشخاص غير مؤهلين بسبب "الترقي بالغش" إلى مناصب رفيعة ومسؤولة في المجتمع.
ويعاقب القانون المغربي من ارتكب الغش في الامتحانات المدرسية، بالسجن من ستة أشهر إلى خمسة أعوام، وغرامة تصل إلى 100 ألف درهم (10 آلاف دولار).
نقدانية وأنانية
وتعزو الباحثة في علم الاجتماع ابتسام العوفير، تنوع أشكال الغش في كثير من المجالات والقطاعات وتطوّرها إلى ثلاثة أسباب رئيسة، كل سبب له علاقة بالآخر، وهي "النقدانية" و"الأنانية" و"تدهور القيم".
ووفق الباحثة ذاتها، فإن "النقدانية" تعني السعي نحو النقود وتحصيل المال بأية طريقة كانت، ما يدفع الغشاشين إلى انتهاج هذا السلوك لنيل امتيازات غالباً ما تكون مادية، بدليل انتشار التزوير في المعاملات التجارية أكثر من أي مجال آخر.
وتابعت العوفير أن السبب الثاني وراء استشراء الغش في المعاملات المختلفة بالمجتمع، يتمثل في انتشار سلوك الأنانية بين الأفراد، إذ إن الغشاش الذي يبيع سلعة مغشوشة، لا يهمه إذا تضرر المستهلك في صحته أو ماله، بالتالي يتحصن بأنانيته أمام الآخرين.
والسبب الثالث، تبعاً للباحثة السوسيولوجية، هو "الشرخ الحاصل في القيم المجتمعية، إذ إن الذي يحتال في السلعة أو في الامتحان، لا يستحضر قيم التكافل والتضامن وقيم الإخلاص في العمل والوظيفة، ما يجعل القيم الأخلاقية في خطر داهم"، وفق تعبيرها.