يعرف متابعو حياة وأعمال كبير الكتاب الفرنسيين على مر الأزمان، فيكتور هوغو، أن الرجل أعلن دائماً أنه لم يعان من المنافي ولا من ضروب الحرمان ولا من جره إلى صراعات لم تنته طوال مساره الكتابي، بقدر ما عانى "تلك الرقابات الغبية" التي "واصلت مطاردتي حتى حين كان الأمر لا يستدعي ذلك"، بل "طاردت كذلك بعض أعمالي حين أراد مبدعون من بعدي أن يقتبسوها في أصناف فنية تختلف عما اخترت التعبير به أول الأمر". ولعل هوغو كان يعني تحديداً في قوله الأخير هذا ما فعلته، على سبيل المثال، الرقابة الإيطالية عند نهايات القرن التاسع عشر حين راحت "تتفنن في التعامل السلبي" مع الأوبرا التي اقتبسها دونيزيتي من واحدة من أشهر مسرحياته "لوكريشيا بورجيا"، لا سيما من فرض لتبديل عنوانها بين مدينة إيطالية وأخرى لمناسبة محاولات تقديمها في تلك المدن.
والحقيقة أن هوغو كان موفقاً في التركيز على ذلك المثال بالنظر إلى أن المسرحية نفسها والتي كتبها عام 1838 كتبت أصلاً كنوع من استفزاز للرقابة. كتبها هوغو وكأنه يتقصد لها أن تمنع ليس فقط لموضوعها الشائك، بل كذلك للطريقة التي قدم بها ذلك الموضوع. ولعل هذا يعيد إلى الأذهان ما رواه لنا مرة الناقد المصري الراحل علي أبو شادي عما حدث يوماً حين كان على رأس الرقابة في مصر.
مبدعون يطلبون منع أعمالهم!
يومها حدث أن وجد مسؤول الرقابة نفسه، وعلى الرغم من أنفه كم قال وتحت ضغط ديني ومحافظ، يمنع توزيع طبعة جديدة من رواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدر، وكانت النتيجة أن تم تداول سري لألوف النسخ من الرواية، وقد نالت بسبب المنع تحديداً شهرة ما كان يمكنها أن تنالها لولا الرقابة. على الفور حينها وكما روى أبو شادي متفكهاً، راحت تنهال عليه مكالمات واتصالات بالمئات من كتاب ثانويي الأهمية أو عديميها، يرجونه أن يمنع كتبهم! فهل يمكننا أن نفترض بالمقارنة أن الكاتب الفرنسي الكبير الذي كان شاباً حينها وفي بداية القمة من عطائه الروائي والمسرحي والشعري وفي ذروة مشاكسته السياسية، حاول لعب اللعبة نفسها؟ ليس الأمر مؤكداً، لكن المؤكد هو أن هوغو بقدر ما استمتع بالمنفى معلناً لاحقاً أنه لو لم يعشه ويعانه لما كان من شأن أعمال له كـ"البؤساء" و"خرافة الأزمنة" أن تكون ما كانت عليه. أما الرقابة، فلها معه شأن آخر، كما قال هو الذي منذ بداياته كانت هذه الرقابة قد "افترت" على عدد لا بأس به من مسرحياته. و"افترت خاصة" على "لوكريشيا بورجيا" التي لم تكن، على أي حال من أهم أعماله بل، وكما سنفهم، مسرحية تاريخية كتبها لمجرد أن يستفز بها سلطات الإمبراطورية الثانية التي كان يكن لها عداء شديداً. ومع ذلك يصعب أن نرى في هذه المسرحية ما يبرر تعامل الرقابة السلبي معها، لكنه كان في نهاية الأمر تعاملاً مربحاً جعل من "لوكريشيا بورجيا" واحدة من أشهر مسرحياته!
كل أنواع الضلال
كما أشرنا، تمتلئ هذه المسرحية، القائمة على جملة من مواضيع الضلال تتراوح بين حب المحارم الذي دائماً ما شكل محظوراً في الإبداع، والحوارات الجارحة وكميات الدم والسم الوفيرة التي تندلق على الخشبة والأكاذيب المتبادلة، تمتلئ حقاً بما من شأنه أن يثير حتى أكثر الرقابات تسامحاً. ومع ذلك لم يتردد هوغو حين عثر على موضوعه هذا في مرحلة من التاريخ الإيطالي وفي تاريخ آل بورجيا تحديداً، فتناوله ولسان حاله يقول كما سيصرح بنفسه لاحقاً: "خذوا التشوه الأخلاقي الأكثر بشاعة، والأكثر إثارة للنفور، والأكثر اكتمالاً، وضعوه هناك حيث يعود إلى الظهور بأفضل ما يكون، أي في فؤاد امرأة تتمتع بأسمى آيات الجمال، وبأعلى سمات السلطة التي تسفر دائماً عن أعتى آيات الإجرام. وأضفوا بعد ذلك على هذا التشوه الأخلاقي شعوراً نقياً، الشعور الأعلى سمواً الذي يمكن لامرأة أن تحسه، شعور الأمومة. وفي هذا القالب المتوحش اجعلوا المرأة كوحش يمكنه أن يدر الدموع من عيون الآخرين، حيث إن هذه المرأة/ الوحش التي من عادتها إثارة الهلع في القلوب ها هي الآن تثير الشفقة في القلوب ذاتها... فتكون النتيجة أن هذه الأم تصبح بالنسبة إليكم أحلى الأمهات...".
أقصى درجات الإجرام
ترى هل نحتاج إلى أكثر من هذا لإدراك مقدار الوحشية التي عبر عنها فيكتور هوغو في هذا العمل المسرحي في زمن كانت الرقابات فيه، لا سيما في فرنسا وإيطاليا، البلدين المعنيين بالأمر، تتصيد أي تصرف لدى المبدعين للاقتصاص منهم؟ مهما يكن لا بد من القول إن هوغو إنما يلخص في هذا القول، اللاحق، موضوعه وبشكل "يبرر للرقابة" موقفها من العمل. أما بالنسبة إلى الأحداث فهي تاريخية معروفة وإن كان الكاتب قد رش عليها بعض التوابل مدركاً أن في إمكانه أن يتصرف في التاريخ بالنظر إلى أنه يكتب عملاً إبداعياً لا نصاً تاريخياً. والأحداث تبدأ مع النبيل الشاب المتمرد جينارو الذي يكون في رهط من أصحابه حين يحدث له أن يلتقي امرأة ساحرة فائقة الجمال فيغازلها ويخبره رفاقه لاحقاً أنها ليست سوى النبيلة لوكريشيا بورجيا المعروفة باستخدامها السم لقتل عشاقها وقسوتها المرعبة. فيتمنى الشاب الوسيم لو كان تقرب منها أكثر كنوع من التحدي المشاكس. ولسوف نلتقيه لاحقاً وهو الهارب من السلطة المحكوم بالإعدام، في قصرها حيث يعثر عليه زوجها ويريد إعدامه لكنه بناء على توسلات المرأة يكتفي بأن يتنازل تاركاً لها اختيار الوسيلة "الأنعم" لإعدامه لا أكثر. فتختار السم صاغرة، لكنها وفي غفلة من الزوج وبعد أن يكون جينارو قد تناول السم، تعطيه لوكريشيا ترياقاً يمنع مفعوله فيتناوله وهو عاجز عن فهم تصرفات السيدة ودوافعها. ومن هذه التصرفات أنها بعد أن أنقذت جينارو تقرر الانتقام من كل رفاقه فتدعوهم إلى مأدبة عشاء صاخبة حضرت من أجلهم فيها كميات قاتلة من السموم وتوابيت تكفي لهم جميعاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الهبوط نحو السخافة
أمام المشهد تشعر لوكريشيا أنها حققت انتصاراً عجز حتى زوجها عن تحقيق ما يدانيه، غير أنه ما لم يكن في حسبانها هو أن جينارو سيحضر فجأة بين المدعوين وهي لم تكن تتوقع ذلك. وهكذا وبعد أن يكون قد فات أوان التراجع وبعد أن يكون الشاب قد شرب "حصته" من السم تهرع إليه لوكريشيا مقدمة له الترياق الباقي لديها مرة أخرى، لكنه هذه المرة يرفض تناول الترياق مفضلاً الموت مع رفاقه على أن ينقذ وحده، بل إنه يلتفت إليها وقد أدرك أنها هي وراء تلك المقتلة ويقتلها، لكنه إذ يفعل هذا عقاباً لها بسبب إجرامها لا أكثر، تتناهى إليه صرخة المرأة معلمة إياه ما لم يكن قد خطر له على بال: إنها هي أمه التي تخلت عنه صغيراً لكنها ارتكبت كل ما ارتكبت وهي تعرف تلك الحقيقة، ما يجعله تتنازعه وهو يلفظ أنفاسه ضروب رعب وندم لكونه قد قتل أمه، وضروب رضى عن الذات لكونه قد خلص العالم من شرها ومن إجرامها. ومن الواضح هنا أن هذه النهاية وتعليق الكاتب عليها من خلال نظرات بطله وهمساته الأخيرة هي ما جعل النقاد في ذلك الزمن يصنفون "لوكريشيا بورجيا" يبين أعمال فيكتور هوغو الأقل أهمية ولسان حالهم يقول كما عبر واحد منهم: "من المؤكد أن فيكتور هوغو يبقى عاجزاً عن تصوير البشر وهم يتبادلون الكلام في ما بينهم. فمهارته تكاد تقتصر دائماً على ابتعاده عن المبادلات البسيطة التي لا تتماشى مع عبقريته. باختصار حين لا يكون هوغو في مواجهة المحيط أو الطبيعة أو الآلهة لا يمكنه أن يمنع نفسه من الوقوع في ما يثير سخرية قرائه!". ومن الواضح أن هذا لم يكن السبب في غضب الرقابة عليه. فهي لا تبالي ولن تبالي أصلاً بالقيمة الفكرية أو الجمالية لما تراقبه.