أطلقت القوات السودانية مجدداً الغاز المسيل للدموع على مئات المحتجين على الحكم العسكري بالقرب من القصر الرئاسي في الخرطوم، الجمعة الأول من يوليو (تموز)، غداة أحد أكثر أيام الاحتجاجات دموية خلال هذه السنة، في حين أعربت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة ميشيل باشليه عن قلقها حيال مقتل تسعة متظاهرين على الأقل، بينهم طفل، مطالبةً بـ"تحقيق مستقل".
وقالت باشليه في بيان، "أطلب من السلطات إجراء تحقيق مستقل وشفاف ومعمق وغير منحاز في شأن رد قوات الأمن، انسجاماً مع المعايير الدولية السارية"، مشددةً على أن "من حق الضحايا والناجين وعائلاتهم (معرفة) الحقيقة و(إحقاق) العدالة و(الحصول على) تعويض".
وتأتي هذه الدعوة في أعقاب القمع الدامي للاحتجاجات التي شارك فيها عشرات الآلاف في جميع أنحاء البلاد الخميس للمطالبة بإنهاء الحكم العسكري.
وأضافت باشليه أنها "شعرت بالقلق" لمقتل تسعة أشخاص بينهم فتى يبلغ 15 عاماً، بعدما أعلنت الشرطة "أنها لن تستخدم القوة الفتاكة لتفريق المتظاهرين".
وتابعت باشليه، "حتى الآن، لم يتم تحميل أي شخص مسؤولية هذه الوفيات"، مشيرةً إلى تقارير تفيد بأن "قوات الأمن المشتركة استخدمت الذخيرة الحية وكذلك الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه ضد المتظاهرين". وأضافت، "بحسب مصادر طبية، فإن معظم القتلى أصيبوا في الصدر والرأس والظهر".
وندّدت المسؤولة الأممية باعتقال ما لا يقل عن 355 متظاهراً في جميع أنحاء البلاد، من بينهم 39 امرأة و"عدد كبير من الأطفال". وشددت على أنه "لا يُسمح تحت أي ظرف من الظروف باستخدام القوة لردع أو ترهيب المتظاهرين عن ممارسة حقوقهم في حرية التعبير والتجمّع السلمي، أو تهديدهم بالأذى بسبب القيام بذلك".
وأوضحت أن "القوة المميتة هي إجراء أخير وفقط في الحالات التي تشهد تهديداً وشيكاً بالموت أو الإصابة الخطيرة".
استمرار الاحتجاجات
وردد المحتجون في العاصمة السودانية الجمعة، قرب القصر الرئاسي، هتافات مثل "الشعب يريد إسقاط البرهان"، و"نطالب بالانتقام"، وحمل بعضهم صوراً للضحايا الذين سقطوا الخميس، وبلغ عددهم تسعة محتجين على الأقل خلال تظاهرة ضد الانقلاب الذين نفذه قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان.
وقالت جماعات الاحتجاج التي تطالب بالعودة إلى الحكم الديمقراطي، إنها ستنظم حملة اعتصامات مفتوحة وغير ذلك من التحركات السلمية رداً على الوفيات.
وأظهرت صور ولقاطات نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تواصل الاحتجاجات بعد ظهر الجمعة في أم درمان وبحري ومدني إلى الجنوب الشرقي من الخرطوم.
ونُظمت التظاهرات في 30 يونيو (حزيران) في ذكرى انقلاب الرئيس السوداني السابق عمر البشير بمساندة الإسلاميين على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً عام 1989، وكذلك ذكرى التجمّعات الحاشدة عام 2019 التي دفعت العسكريين إلى إشراك المدنيين في الحكم بعد الإطاحة بنظام البشير.
113 قتيلاً
وقالت لجنة أطباء السودان المركزية الجمعة إن متظاهراً آخر كان قد تعرض للضرب خلال احتجاجات في العاصمة قبل أسبوع، توفي متأثراً بجراحه، مما يرفع عدد المتظاهرين الذين قتلوا منذ انقلاب البرهان إلى 113.
وقالت شرطة ولاية الخرطوم في بيان، إنها استخدمت الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه واعتقلت أشخاصاً الخميس بعد أن تحرك محتجون مسلحون بالحجارة والقضبان المعدنية لاستهداف مواقعها. وذكر البيان أن العشرات من أفراد قوات الأمن أصيبوا، بعضهم بإصابات خطيرة.
وذكر بيان منفصل صادر عن وزارة الداخلية، أن تحقيقاً سيجرى في أمر أحد المحتجين أظهرت لقطات غير مؤكدة على وسائل التواصل الاجتماعي أنه أصيب بالرصاص في الشارع لدى تقدم قوات الأمن التي تحمل السلاح في المنطقة. وأضاف البيان أن قوات الشرطة التي تتعامل مع المتظاهرين ولا تحرس مواقع حيوية لا يجب أن تحمل أسلحة نارية.
استخدام مفرط للقوة
وقال محامون حقوقيون إن ما لا يقل عن 150 متظاهراً اعتقلوا الخميس. ولم تصدر الحكومة التي يقودها الجيش تقديرات للاعتقالات أو الوفيات.
وتعليقاً على أعمال العنف الخميس، دانت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، الجمعة، "الاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الأمن وإفلاتها من العقاب".
سفيرة النرويج في السودان تيريزا لوكن أكدت من جهتها أن "التعذيب والعنف الجنسي والمعاملة اللاإنسانية هي أمور غير مقبولة". وكتبت عبر حسابها على "تويتر"، "نرجو السماح بوصول المحامين إلى المعتقلين. إن حصول المعتقلين على الرعاية الصحية وحمايتهم من التعذيب أمرٌ واجب".
وكتبت مديرة الوكالة الأميركية للتنمية (يو إس إيد) سمانتا باور، على "تويتر"، "العنف المستمر الذي تمارسه قوات الأمن السودانية ضد المتظاهرين هو عمل مشين. قُتل ما لا يقل عن تسعة أشخاص آخرين هذا الأسبوع، وشهد السودانيون انقطاعاً آخر في الإنترنت حجب عنهم الأخبار. لن يُفلح تحدي توق السودانيين إلى الديمقراطية".
أزمة سياسية
ويتساءل كثيرون من السودانيين عن المخرج مما تتخبط به البلاد من أزمة سياسية تتجه إلى مزيد من التعقيد في ظل تمسك الشارع، الذي تقوده لجان المقاومة، بالتصعيد الثوري، وآخر تجلياته الحشود الضخمة التي خرجت في مليونية، الخميس 30 يونيو، في العاصمة الخرطوم، ومدن سودانية عدة للمطالبة بالحكم المدني، لكنها قوبلت بعنف مفرط من قبل الأجهزة الأمنية ما أدى إلى مقتل تسعة متظاهرين ليرتفع إجمالي قتلى التظاهرات إلى ما لا يقل عن 109 قتلى منذ اندلاعها في 25 أكتوبر (تشرين الأول) بسبب استيلاء قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على السلطة بعد تعطيل الوثيقة الدستورية وفض الشراكة مع المدنيين.
فما رؤية المراقبين والمحللين السياسيين لمآلات المشهد السياسي في البلاد في ضوء التطورات على أرض الواقع، وهل بالإمكان حدوث أي اختراقات تؤدي إلى مخرج يقبله جميع الأطراف ويقود إلى الاستقرار؟
مطلب التغيير
يقول في هذا السياق، الكاتب السوداني خالد التيجاني النور، "في اعتقادي أنه بغض النظر عن الجدل حول حجم التظاهرات، إلا أن الوضع في البلاد يحتاج إلى تغيير حقيقي، وأن هناك بالفعل أسباباً حقيقية لمطلب التغيير الذي خرج من أجله الشباب السوداني في ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ومن أهمها أنه منذ الاستقلال في 1956، ما زال التدهور في مجالات الحياة كافة بخاصة الاقتصادية مستمراً، من دون أي حلول ومعالجات من قبل الحكومات التي تعاقبت على الحكم". وتابع النور، "ما يجري من حراك جماهيري هو في الأساس حراك اجتماعي قبل أن يكون حراكاً سياسياً، فهذا الجيل الشبابي الذي يقود هذا الحراك الثوري المتواصل في الشارع يريد أن ينال حقوقه المتمثلة في العيش الكريم والتمتع بكامل الخدمات التعليمية والصحية والعدل والمساواة والحرية، وهي مطالب مشروعة ويجب الاستجابة لها، لكن للأسف هناك عوائق تقف حجر عثرة أمام هذه المطالب سواء من جهة العسكر أو القوى السياسية، فالعسكريون يعتقدون أنهم أوصياء على البلد، وهذا غير صحيح، ويجب أن تستجيب المؤسسة العسكرية لمطالب هؤلاء الشباب، وألا تكون جزءاً من الصراع السياسي. أما بالنسبة إلى القوى السياسية، فيجب أن تتعامل بجدية مع التغيير وليس شكلياً، أو في إطار المصالح الحزبية الضيقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف، "أعتقد أن ما يحدث الآن من مأزق حقيقي للمشهد السوداني تتحمل أيضاً مسؤوليته قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية السابقة لحكومتي رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك الأولى والثانية، إذ كانت لديها الفرصة الكافية لتأسيس كامل للانتقال الديمقراطي بخاصة أنها كانت على رأس السلطة عامين، فالطرفان (المدنيون والعسكريون) لم يكونا على قدر المسؤولية والجدية، لكن، على العسكريين الآن، أن يبحثوا عن مبادرة جدية حول كيفية خروجهم من السلطة والتفرغ لممارسة دورهم في المحافظة عن الأمن القومي وليس ممارسة السياسة". ونوه الكاتب السوداني، بأنه سبقت تظاهرات 30 يونيو مفاوضات ومشاورات قادتها الآلية الثلاثية (بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة إيغاد)، نتجت عنها لقاءات ثنائية بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري، وجاءت نتيجة ضغوط خارجية ورغبة من العسكر لإيجاد مخرج للأزمة التي تورطوا فيها بانقلاب 25 أكتوبر، وللأسف، من المتوقع في ما يجري من تسوية، إعادة مشهد الشراكة السابق نفسه بين العسكريين والمدنيين، ما يولد شعوراً بعد الاستقرار لمعارضة قطاع كبير من الشارع مثل هذه التسوية.
ترتيب صفوف
من جانبه، قال أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية الحاج حمد، "في الواقع، كل الدلائل تشير إلى أن الوضع يتجه لصالح لجان المقاومة بهيمنتها على المشهد السياسي بلا منازع، في ظل تناقص دور العسكر بعد أن راهنوا على استخدام العنف المفرط لقهر وكسر شوكة المتظاهرين، لكنهم فشلوا تماماً في تحقيق هدفهم ومخططهم اليائس، فضلاً عن اتجاه قوى الحرية والتغيير نحو التسوية السياسية عبر الشراكة من جديد مع العسكر لتحقيق السلطة المدنية حسب رؤيتها، ما أدى إلى انقسام داخل هذا التحالف المدني لأنه توجه خاطئ من ناحية أن الشارع لن يقبل به، وسيواصل حراكه الثوري ضده"، مضيفاً، "واضح أن العسكر في حال انزواء تماماً عن المشهد، والجيش يواجه عملية اختيار قيادة جديدة له تخرجه من هذا المأزق، وإن لم يفعل ذلك سيطول أمد الأزمة، وما يحدث الآن أن هناك إعادة ترتيب للصفوف، ومن المؤكد أن حال التراكم يمكن أن تؤدي إلى تحكم كيفي للمشهد، لكن فعلياً، لجان المقاومة هي المسيطر الحقيقي على الشارع، حيث أبرزت قدراتها الميدانية، لذلك، هي تمارس حالياً عملية التأهيل ليكون لديها برنامج موحد لحكم الفترة الانتقالية، بخاصة بعد إجازتها وتوافقها على ميثاق سلطة الشعب الذي دشنته أخيراً، بالتالي، على القوى السياسية أن تعيد حساباتها وتعمل على تسريع وتشجيع هيمنة لجان المقاومة على الموقف السياسي في البلاد".
استمرار العنف
وشاركت حشود كبيرة في احتجاجات 30 يونيو التي اتجهت نحو القصر الرئاسي، في ظل إجراءات أمنية غير مسبوقة بإغلاق وسط مدينة الخرطوم، والجسور والكباري المؤدية إلى العاصمة، ما عدا جسري سوبا والحلفاية، فضلاً عن قطع شبكة الاتصالات والإنترنت، وتعرضت الحشود الجماهيرية فور انطلاق مواكبها إلى قمع مفرط باستخدام القوات الأمنية الغاز المسيل للدموع بكثافة، وعربات الدفع المائي للحيلولة دون وصول المتظاهرين إلى محيط القصر الرئاسي، وتأتي هذه المشاركة الجماهيرية الواسعة نظراً إلى التعبئة الجماهيرية التي سبقت انطلاق هذه المليونية من خلال الندوات السياسية والثقافية، والمواكب الليلية داخل معظم الأحياء.
وظل حراك الشارع السوداني لمقاومة الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، مستمراً بقيادة "لجان المقاومة"، منذ 25 أكتوبر 2021 من دون توقف، تحت شعار اللاءات الثلاثة، "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية مع العسكر"، وتنوعت أشكال مقاومة الانقلاب ما بين المواكب السلمية والعصيان المدني والإضراب عن العمل، والوقفات الاحتجاجية، وبحسب لجنة أطباء السودان المركزية، لقي حتى الآن منذ وقوع الانقلاب 109 متظاهرين مصرعهم وأصيب أكثر من خمسة آلاف آخرين بإصابات متفاوتة بين خطرة ومتوسطة وبسيطة، نتيجة العنف المفرط الذي استخدمته الأجهزة الأمنية بموجب قانون الطوارئ الذي أتاح لها ممارسة العنف بكل صوره ضد الناشطين ومن يشاركون في التظاهرات والمواكب السلمية، من دون مساءلة، مهما وقع من جرم وأذى.