يقترح الشاعر المغربي حسن نجمي في كتابه الشعري الجديد "يتشهاكِ اللسان"، وعلى مدار أكثر من مئتي صفحة، رحلةً حسية عميقة تتوسل الشعر كبساطِ ريحٍ غايتُه أن ينقل القارئ إلى الأماكن الباطنية التي تعتمل فيها صهارات الشهوة. غير أننا أمام شهوة مختلفة، بل يمكننا القول أيضا إننا أمام تجربة أدبية إروسية جديدة، لكنهىا لدى حسن نجمي هادئة ومغلفة بمسحة روحية أيضا، بل إنها إروسية لا تخلو من براءة. يقول الشاعر محمد الأشعري في تقديمه لكتاب نجمي "يتشهاك اللسان" الصادر حديثا عن دار خطوط وظلال في عمّان: "كل هذا يكتبه الشاعر بعيني طفل يدهشه العري ويربكه ويخيفه". يشِيد الأشعري بالرهان الذي رفعه نجمي، وهو الكتابة عن الجسد دون افتعال مشهدي، بل بـ"نوع من هدوء المشاعر، حيث التذكر، والعودة إلى لحظات البدء، وإعلاء التجربة إلى مرتبة انخطاف صوفي".
يصَدّر حسن نجمي كتابه بإهداء إلى يانيس ريتسوس وإلى عمله الشعري "إيروتيكا"، وهو بهذا الإهداء يكشف للقارئ عن مرجعيته الكتابية. إنه يريد أن يحتفي بشاعر يحبّه، وعلى شاكلته. فالرصيد الشعري لحسن نجمي، على غزارته، متخفف إلى حد كبير من أثقال الإروسية. وقد يكون جنوحه إلى هذا الأدب رغبة في الوصول إلى حالة من الصفاء النفسي، هو الذي بدأ الكتابة في الشعر عن قضايا ورموز سياسية، وانتقل إلى توثيق العذاب الإنساني وصراع الذات في عالم مبني على المفارقات. لقد أنهكه شقاء العالم، ويرغب بالتالي في أن يلوذ بحيز يحتمي فيه من حرارة الهمّ الوجودي، ويركن بالتالي إلى ظلال أشجار اللذة، بما هي خلاص وانعتاق، أكثر مما هي حالات حسية عابرة.
اختار حسن نجمي أن يستهل كتابه الشعري بخمس عتبات نصية لكل من لويس أراغون ويانيس ريتسوس وأكتافيو باث وماكس فريش وميلان كونديرا. وهو بذلك يضع القارئ تحت المصابيح التي تنير طريقه وهو يجوس جغرافيا الكتاب. إنه يكتب على هدي هؤلاء، ويرفع الكتابة إلى سقوفهم. وهو تحدٍّ ليس بالهيّن. فالشاعر العربي حين يريد أن يكتب عملا إروسياً يقف بينه وبين الكتابة كل موروثه الثقافي والاجتماعي والديني، وقد يشكّل هذا الموروث عائقاً أو على الأقل عنصراً مؤثراً وحاجباً للجماليات المنشودة، وإن كانت هناك التماعات معروفة في أدب الأروسية في تراثنا العربي، غير أنها ظلت على الدوام جانبية، ولا تشكّل إلا هامشاً قياساً بالمتن الشعري الضخم للمدح والنسيب والمفاخرة والهجاء. حتى أن العرب بقدمائهم ومحدثيهم ظلوا يسمون هذا النوع من الكتابة اسما غريبا "الأدب الفاحش". الأمر ذاته ينطبق على أدبنا المعاصر الذي ظل فيه الاحتفاء بالجسد محصوراً ضمن تجارب وقصائد قليلة قياساً مع هذه الشعرية المفرطة في التذمر والشكوى والبكاء. يشير حسن نجمي، بشكل صريح، إلى مسألة العائق السيكولوجي والثقافي الذي يحدّ التوغل في الإروسية حين يقول: "الحياءُ هنا والعري هنا/ لن تذهب قصيدتي بعيدا".
شهوة الجسد أم شهوة الكلمات؟
قد يطرح القارئ الأرِيب، حين يطالع عنوان العمل الشعري لحسن نجمي، سؤالاً حول طبيعة التشهي. أي لسان يتشهى المرأةَ المخاطَبة؟ هل هو اللسان الحسي الذي يتفاعل مع جسدها والمبطَّن بحرارة الشهوة؟ أم هو اللسان الرمزي المبطن بحرارة أخرى، هي حرارة الكلمات؟ هل يتشهاها اللسان ليمارس معها طقوساً إروسية؟ أم يتشهاها ليقول فيها الشعر؟ إن سؤالا كهذا يكتسب مشروعيته مع التقدم في قراءة العمل. فمفردة "كلمة" بمشتقاتها تحضر بشكل طاغٍ في نصوص الكتاب. بل إن الكلمة تنزع عنها كل دلالة مسبقة كي تتزيا بثوب جديد، لعله رضاب الحب والشهوة. يقول الشاعر في أحد مقاطع المجموعة: "ليلكِ يذوب في فمي/ وتنزل كلماتكِ على لساني/ تريد أن تكون كلماتي".
إن الحقل الدلالي المرتبط بالكلمات شاسع في نصوص حسن نجمي. ويكفي التوقف عند الصفحات العشر الأولى من الكتاب لإدراك هذا الأمر. فالقارئ سينتبه إلى الحضور الطاغي لمفردات هذا الحقل، المفردات التي يشكل منها نجمي صوراً شعرية مذهلة: كلمة، لغة، كتاب، رواية، كلماتي، قصيدتي، رسائل، اُكتب، حكاياتي، كلامي. إننا أمام لسانين: لسان يعيش التجربة الإروسية ولسان آخر مشغول بتوصيفها.
إن عودة حسن نجمي للكتابة عن الجسد هي عودة لاكتشافه بروح ذلك الطفل المندهش وعينيه. قال أرسطو: "الدهشة هي بداية المعرفة، والشاعر حين يعود إلى الجسد، بعد أن راكم خبرات في الحياة وفي الكتابة، تكون عودته بالضرورة مختلفة. إن نظرة رجل عاش ستة عقود إلى الجسد تقع في منأى عن نظرة شاب في عقده الثاني أو الثالث. لكنها بالمقابل قد تدنو من نظرة الطفل في منحنى استعادي، أو في ما يشبه طفولة مستعادة".
وفضلا عن البراءة والمسحة الروحية، فالجانب الغريزي حاضر في المجموعة على نحو صارخ. وهذا ما يعيد الشاعر من حين لآخر إلى طبيعته. يقول نجمي في نص يتقاطع مع عطر باتريك زوسكيند: "تكبر فيَّ شهية الذئب عند انحناءة عريك/ لا أحد يصدّق أني جئت من غابة/ حتى فريستي تبادلني الشفتين". وفي نص آخر يكثف الشاعر المسألة الغريزية في صورة تختصر كل شيء: "بي جوع الذئاب العزلاء".
يبدو فعل الأمر، المقرون بضمير الخطاب الفردي، طاغياً في معظم النصوص. غير أن وظيفة هذه الأفعال تكاد تكون هي النداء لا الأمر، إنها نداءات داخلية يوجهها الشاعر لأنثاه من أجل الانغماس في الحياة الحسية والقطع مع واقع يقف بكامل صرامته ضد البهجة. يقول في نص "ما أراه، ما أسمعه": " أريد أن أمسك بمزلاج الباب وأدخل/ لا أرى غير عينيك في بلور النظرة/ وشفتيك توقدان الجليد/ والجدار الأبيض العاري كمرآة".
يتوسل حسن نجمي المشهدية في معظم نصوصه، خصوصاً تلك التي كتبت على هيئة قصيدة النثر المقطعية. كأنما يريد أن يضع المتلقي وجهاً لوجه أمام تفاصيل هذه التجارب الحسية، وهي التفاصيل التي ينتزعها الشاعر ببراعة من الواقع ومن الفانتاستيك. يقول في نص: "في الالتقاء الأول لجسدينا كنت أنصت للماء. كأنه كان ينحدر من اللوحة المعلقة. وكان العشب يتكلم. والعظام. والمسام. والأوردة...أحسستُ براحة يدك على صدري. كأنك تحمين عصفوراً شارداً من عاصفة. خطُّ أفقٍ في الغسق ينحني على تل رمل. ويداعب ثوراً كي يوقف الهيجان".
البوليفونية في الشعر
لم يشأ الشاعر أن يكون الإيروس في تجربته الشعرية عملية أحادية. لذلك أشرك الأنثى في الحضور، لا كعنصر يتلقى الخطاب، بل كنعصر يُنتجه. واختار على مستوى البناء أن يضع بين النصوص التي يأخذ فيها الرجل طرف القول، نصوصاً أخرى تصير فيها المرأة هي المتحدث، عبر اعتماد ضمير المخاطَب المذكر.
وإذا كنا قد اعتدنا على تعدد الأصوات في النصوص السردية الطويلة، فإن حسن نجمي يفاجئنا بهذه البوليفونية في عمله الشعري الطويل "يتشهاكِ اللسان". ثمة نماذج استطاع فيها الشاعر تشرّب روح الأنثى وتمثّل رغباتها. يقول في أحد النصوص: "نعّسني على بساط الحلم/ هيّء لي ظلا صغيرا تحت كروم النبيذ/ واجعل توق يديكَ سمحاً/ أحب أن أسمع صوتك في الماء". تحضر نصوص الأنثى بكامل رقتها ورهافتها على خلاف سيكولوجي مع النصوص التي يوجد في خلفيتها صوت الرجل. في نص "مطر صغير" يقول الشاعر على لسان أنثاه: "أعطني الشخص الذي وعدتني حين كنا نتبادل الرسائل/ أعطني كل ما أريد/ الندبةَ لأسترجع الجرح القديم من تحت زجاج نظاراتك/ ووجهك لألمس التجاعيد/ التي لم تكن هناك من قبل لك/ أعطني وجهك لأمسح المطر الصغير عن عينيك".
أنثى حسن نجمي تتغير من نص إلى نصّ، كأن الشاعر ينقل لنا تجارب متنوعة ليس من الضروري أن نبحث عن امتداداتها في الواقع. فنحن أمام نص شعري لا يعكس بالضرورة سيرة كاتبه. غير أنها أنثى نهمة ومقبلة على الابتهاج، وهي صغيرة السن، بينما يحضر هاجس العمر لدى الشاعر في الكثير من اللحظات الشعرية والإروسية. ندنو في نص "أوقظ الفجر" من المشهد الآتي: "تنطرحين على العشب وأغطيك بجسدي/ ولا يمنح أصابعي ما يكفي من وميض/ كي تنفتح مسامك... وأرى عمري يرتعش في دفء أنفاسك". هاجس العمر يتبدى في خلفية الكثير من النصوص. في نص "وجه قديم" يقول الشاعر: "قد تركت لساني في فمك/ كنتُ في العشرين كما كنتِ/ وكانت للسانك فتوة الكلمات". بينما في نص "ورشة الحياة" يقول: "اسحبيني نحوك كي لا أقضي ما تبقى من عمري في عري الوقت".
بخبرته في الكتابة وقدرته اللافتة على تشكيل المعنى، يلجأ حسن نجمي إلى السرد والوصف والاستطراد والتمثيل والتفصيل ومختلف أنواع القول، لينقل إلينا تجربة تتخذ هيئة الإروس، لكنها تنطلق من الحب وتنتهي إليه. فالجسد ليس مركز الكتابة وحده، بل إن الروح التي تسكن فيه تتقاسم معه هذه المركزية، وبالتالي فالمشاعر التي تشكل خلفية التجربة الإروسية، ترفعها بالمقابل من أرضية الحسّ إلى سقف الرمزيات.