لا يعد النيل مجرد نهر، إذ يحمل ثقافات وحكايات بشر عاشوا ويعيشون على ضفافه، تختلف ظروف حياتهم وتتنوع التحديات التي تواجه كلاً منهم، والتي غالباً ما يكون النيل طرفاً رئيساً فيها.
من هنا، انطلقت مبادرة "يوميات النيل"، Everyday nile، منذ ثلاث سنوات بهدف رسم خريطة بصرية معلوماتية عن مجتمعات دول حوض النيل، والتعرف على الآخر، لينتج منها مشروع شارك فيه تسعة مصورين من دول مختلفة تطل جميعها على النيل، وقدم كل منهم قصة مصورة تعرض واحدة من التحديات الأساسية المرتبطة بالنهر في بلاده، ليتم حالياً عرض القصص المصورة في معرض بمعهد غوته بوسط القاهرة تحت عنوان "يوميات النيل".
في البدء كان النيل
يشارك في المعرض مصورون من بلاد تتنوع بين دول المنبع ودول المصب، وهي السودان، وأوغندا، وكينيا، والكونغو الديمقراطية، وإثيوبيا، وبوروندي، وجنوب السودان، ومصر.
ويقدم المعرض قصصاً مصورة تحكي جوانب أغلبها يتيح معلومة جديدة للمشاهد، ويعكس قضية أساسية يعانيها سكان الدولة التي تمثلها، فمن المفارقات دائماً اعتبار أن الدول المطلة على النيل غنية بالمياه، لكن هناك أماكن تعاني فقراً مائياً، ولا يجد سكانها كوب ماء نظيف، ويسير أهلها مسافات طويلة للحصول على المياه، وقد يتم توزيعها عليهم بعربات مخصصة لذلك.
ودائماً ما ارتبطت وفرة الماء ووقت الفيضان بالخير والعطاء، لكن قد يكون لها جانب آخر مدمر، مثلما اجتاح الفيضان السودان في 2020، ليدمر آلاف المنازل ويلقى مئات الناس حتفهم.
يقول المصور روجيه أنيس، المنسق العام للمعرض، لـ"اندبندنت عربية"، إن المعرض يقدم قصصاً مصورة من دول مختلفة تقع جميعها على النيل، من المنبع إلى المصب، يميز كلاً منها شكل متفرد لعلاقة الإنسان مع النهر، ويقدم كل من المصورين المشاركين رؤيته لقصة محددة تميز دولته، وتلقي الضوء لزوار المعرض ومشاهدي القصص على جانب جديد غالباً يكون غير معروف تماماً بالنسبة إلى الآخرين، وهذه هي النقطة الأساس التي يهدف إليها المعرض، وهي أن يخرج المشاهد بمعلومة وشيء جديد مرتبط بالنهر.
ويضيف أنيس، "هذه القصص نتاج ورشتي عمل تم عقدهما خلال السنتين الماضيتين، وشارك فيهما المصورون ليقدم كل منهم قصته في النهاية برؤيته وبحسب طبيعة الدولة التي يمثلها من خلال مشروع تحت عنوان "إنفو نايل"، info nile، والهدف منه ليس فقط عرض الصور، بل وتقديمها مدعومة بالأرقام والبيانات لتقدم صورة متكاملة عن قضية معينة مرتبطة بالنيل تعكس جزءاً من ثقافة هذه الشعوب".
حكايا من وحي النهر
قدم المصور من أوغندا قصة عن ارتفاع منسوب المياه، الذي يؤدي إلى غرق الأرض، وانعكاسه على حياة الناس، وبخاصة في مجال الصيد الذي يعد حرفة أساسية لكثير من سكان المنطقة، وفي كينيا، تقدم القصة المصورة جانباً من استخدام الصيادين في جزيرة "روزينغا" الواقعة على بحيرة فيكتوريا مصابيح صديقة للبيئة تعمل بالطاقة الشمسية بديلاً من الكيروسين، ويتم إضاءتها ليلاً لاجتذاب الأسماك إلى السطح وصيدها بسهولة.
ومن الكونغو الديمقراطية، وثق المصور في قصته تأثير انفجار بركان جبل "نيراغونغو" على حياة الناس بعد تدميره أنابيب المياه والخزان المائي، ليصبح نحو 60 في المئة من سكان سفح الجبل من دون مياه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن أبرز القصص في المعرض يقول أنيس، "حرصنا على أن تقدم القصة المصورة معلومة جديدة للمشاهد، فمثلاً في بوروندي التي يقع فيها أحد منابع النيل، وثق المصور هرماً مصغراً بناه المستكشف الألماني بوركهارت فالديكر عام 1937، عند منطقة يرتفع فيها ينبوع النهر كرمز للاتصال بين مصب النيل في مصر ومنبعه القادم من بوروندي، وعكست قصة المصورة من جنوب السودان كيف تتحول زيادة المياه وفيضانها إلى كارثة تدمر كل ما يقع في طريقها، وفي الوقت ذاته يعاني سكان نفس المنطقة التي تعرضت للفيضان عدم وجود المياه لاستخدامهم، إذ يعانون كثيراً للحصول عليها".
ويضيف، "الشائع هو أن الدول التي يمر النيل من خلالها لا يعاني سكانها مشكلات في الحصول على المياه أو الحاجة إليها للزراعة، في حين أن هناك أراضي تشققت بسبب الجفاف وقلة المياه، ودمرت كثير من الأراضي الزراعية لهذا السبب في كثير من الدول التي يمر النيل عبرها".
رحلة إلى الجذور
المصورة المصرية أسماء جمال، التي تعود أصولها إلى مدينة إدفو بأسوان (جنوب مصر)، ترصد في قصتها حكايات "أرض السكر" كما تحب أن تطلق عليها، نظراً إلى انتشار زراعة قصب السكر في صعيد مصر، واعتبار أعواد القصب ملمحاً رئيساً للمنطقة، لكنه مع الوقت هجر كثير من الناس الزراعة واتجهوا إلى العاصمة للبحث عن فرص عمل.
تحكي أسماء كيف حملت أمها اسم "المصرية" عندما سافر أبوها من الصعيد إلى القاهرة بحثاً عن عمل ليصله خبر مولد طفلته في الجنوب، ليقرر أن يطلق عليها هذا الاسم، لأنه علم بمولدها في العاصمة (يطلق سكان الأقاليم عادة على القاهرة اسم مصر).
تقول أسماء لـ"اندبندنت عربية" إن "علاقة الناس في جنوب مصر بالنيل أقوى بدرجة كبيرة من أهالي القاهرة، فهو أقرب إليهم، ويتعاملون معه من دون حواجز أو أسوار، والعلاقة بينهم والنهر يومية ووثيقة تمس كل مناحي الحياة، بخاصة أن الصعيد يعتبر مجتمعاً زراعياً، لكن بمرور السنوات بدأ كثير من الناس في هجرة الزراعة والبحث عن عمل في العاصمة وغيرها من المدن ليظل أبناء هؤلاء المهاجرين مثلي دائماً لديهم حنين للجذور".
وتضيف، "النيل في الصعيد له علاقة بالحياة الاجتماعية للأهالي، وحكت لي جدتي أنها كانت تخرج مع الفتيات لملء الماء من البحر (هكذا يطلق أهل الصعيد على النيل)، وشاهدها جدي فأعجب بها ليتزوجا بعد ذلك، ففي الصعيد ترتبط الزراعة والزواج والاحتفالات وكل شيء بنهر النيل".
وعن مشاركة مصورين من دول وثقافات مختلفة في مشروع واحد. تقول أسماء "مثل هذا المشروع الذي يقدم رؤى ووجهات نظر مختلفة حول موضوع واحد يكون شديد الثراء، لأنه يجعلنا نرى أبعاداً جديدة بعيدة عنا، فجميع المصورين المشاركين في المعرض يمثل النيل مصدراً رئيساً للحياة في بلادهم، لكن بأشكال مختلفة، والصورة المرئية تجعل المشاهد جزءاً من الحدث أو الفكرة التي يرغب المصور في التعبير عنها".