للشاعر البريطاني الكبير، بعد إذن النسويات بالطبع، تيد هيوز قصة قصيرة كتبها للأطفال عن بومة أرادت أن تتخفف إلى الأبد من عناء الصيد، وأن توفر لنفسها مدداً دائماً من الطعام اليسير يعفيها من الكمون للجرذان ومطاردة زملائها من كائنات الليل، فدبرت أن تنصِّب نفسها طاغية على مملكة الطيور لتفترس منها ما تشاء، مثل طغاة البشر العاديين.
أوهمت البومة إخوانها من الطيور بأنها تعرف طريقاً إلى فردوس سري للطيور، مليء بالحبوب والغلال، بلا مزارعين يدافعون عن محاصيلهم أو صيادين يكمنون بنبالهم. وقادت البومة الطيور ليلاً، وكان ذلك شرطها، إلى الفردوس المزعوم، فلم تقدهم إلا إلى المزرعة نفسها التي تسكنها الطيور بالفعل وتعاني فيها مصاعب حياة الطير العادية، لكن لأن أعين الطيور تكون كليلة بالليل، فإنها عميت عن تلك الحقيقة، وأدامت البومة عشى الطيور الليلي بالنهار أيضاً، إذ أوهمتها عند بلوغها الفردوس المكذوب بأن ضوء النهار في البلد الجديد قاتل فإن فتح طائر عينيه هلك.
فردوس وجحيم
تمخَّض الفردوس بمرور الأيام عن جحيم محقق، فالطعام نادر، وثمة قوة مجهولة تخطف من الطيور بعضها كل يوم، وبينما ازدادت الطيور كآبة ونحولاً وقلة، ازدادت الطاغية سمنة ورضا.
وحدث أن رأت الطيور أن الحياة التي باتت تعيشها تستوي بالموت، بل إن الموت ربما يكون أرحم، فقررت الانتحار جماعياً، وسهرت تغني وتزقزق في انتظار النهار القاتل المزعوم، بينما البومة مذعورة تهددها وتحذرها من النهار القاتل المقبل، ولما طلع النهار، تبينت الطيور حقيقة الخدعة، وهربت البومة لتسكن الليل إلى الأبد محرومة من بقية الطيور، فرائس أو رفاقاً، واستردت الطيور حريتها.
لم تكن الخطوة الأولى على الطريق إلى الحرية، والخلاص من القهر والاستغلال، إلا اليأس، اليأس التام الخالص الذي لم يترك للطيور ما يجعلها تجبن وتؤثر السلامة الذليلة على خطر السعي إلى التحرر، ويبدو أن بعضاً أو كثيراً من الشعوب لم يعد يملك أمام طغيان الحكومات، وفساد النخب، وبطش الجيوش، إلا هذا السلاح: أن تيأس.
وقد يظهر اليأس في بلد مثل أوكرانيا، فلا يظهر إلا في هيئة طوابير طويلة أمام صناديق الاقتراع، من مواطنين ناقمين قرروا في طيش حكيم أن يختاروا لمنصب الرئاسة محض ممثل كوميدي يدعى فولوديمير زيلينسكي، بعدما أقنعهم في ولايته الرئاسية الأولى (وإن تكن دوراً درامياً لعبه على الشاشة) بأنه يملك حلولاً خيالية لمشكلاتهم الواقعية. وقد يتمكّن اليأس من النفوس فتحتشد وراء الممثل المغامر وتمنحه من القوة والثقة ما يجعله يقول للرئيس الواقعي الحاكم بالفعل (بترو بوروشينكو) في مناظرة بينهما قبيل الانتخابات، "أنا لست خصمك يا سيدي، إنما أنا الحكم الصادر عليك"، ليصدق قوله، ويصل الأوكرانيون بالمهرج إلى الفوز في الانتخابات بنسبة ساحقة تتجاوز 70 في المئة.
تلك هي الحكاية التي بدأتها أوكرانيا قبل سنوات قلائل، وهي أيضاً حكاية زيلينسكي، المولود عام 1978، الذي تحول من ممثل إلى رئيس دولة إلى بطل شعبي يقود مقاومة بلده لغزو قوة عظمى، ويحظى بدعم عالمي، وكل ذلك في برهة مارقة من الزمن. وتلك هي الحكاية التي يكذب من يزعم أنه يعرف إلام ستنتهي أو كيف ستكون فصولها القريبة التالية.
اجتياح روسيا أوكرانيا
فحتى 24 فبراير (شباط) الماضي، اليوم الذي بدأ فيه اجتياح روسيا أوكرانيا، لم يكن زيلينسكي غير رئيس عادي لدولة عادية، بل لعل اسمه لم يعلق في أذهان كثيرين من الناس حينما ذكر في ثنايا محاولة الكونغرس الأميركي محاكمة وعزل الرئيس دونالد ترمب عام 2021، إذ كان من جملة الاتهامات الموجهة إلى ترمب أنه اتصل في 2019 بالرئيس الأوكراني طالباً منه خدمة بسيطة هي عبارة عن إجراء تحقيق مع هانتر، نجل جو بايدن، بهدف تلويث الأب المنافس لترمب على الرئاسة. ثم ما كاد الاجتياح الروسي يبدأ، حتى تحول زيلينسكي إلى وجه مألوف في العالم كله، بلحيته الشبابية، وقمصانه الرياضية، ومواهبه المؤكدة في التواصل مع الجماهير، بل إنه تحول في نظر كثيرين، على حد وصف في صحيفة "الغارديان" البريطانية، إلى "داود حديث يقف في وجه جالوت روسي وحشي".
وقد صدر في الأيام الأخيرة كتاب يحكي حكاية زيلينسكي في 200 صفحة، عنوانه "سيرة زيلينسكي"، وهو من تأليف الصحافي الأوكراني سيرهي رودينكو، وترجمة مايكل إم نايدان إلى الإنجليزية، غير أن الكتاب الذي يلبي بالقطع احتياج صناعة النشر الماس في هذه اللحظة إلى مؤلفات عن هذا الرجل الذي يتابع كثيرون من الناس في أنحاء العالم خطاباته أمام البرلمانات وفي الاحتفالات وعبر مواقع التواصل الاجتماعي وقيادته البطولية لمقاومة شعبه، قد لا يلبي احتياج القراء إلى قصة حياة زيلينسكي، أعني القصة المتماسكة التي تسرد في ترتيب تاريخي نشأة الرجل وتكوينه وصولاً إلى اعتلائه المنصب السياسي الأرفع في بلده، ثم قيادته مقاومته للغزو. ومع ذلك، ربما يلبي الكتاب احتياجات أخرى، ويثير ويجيب على أسئلة من المهم التعرض لها.
يتألف الكتاب من 38 فصلاً، يتنقل الكاتب فيها عبر الزمان غير ملتزم بالتتابع التاريخي. وكان معظم تلك الفصول قد صدر في أوكرانيا من قبل في كتاب عنوانه "زيلينسكي بلا مكياج"، ثم أضيف إليها مفتتح بعنوان "جائزة أوسكار في السياسة لزيلينسكي"، ومختتم بعنوان "رئيس الحرب"، وبهذين الفصلين، وبعض التحديثات إلى بقية الفصول، خرج الكتاب بعنوانه الجديد، المضلل بعض الشيء، فهو لا يقدم سيرة حياة بقدر ما يركز على السنوات الثلاث الأخيرة من حياة زيلينسكي، وهي للحقيقة السنوات الحافلة حقاً بالأحداث، بين توليه الرئاسة وتعرض بلده للغزو واضطراره إلى قيادة شعب في مواجهة قوة عظمى بدلاً من فريق عمل من الممثلين.
ربما يكون عمل زيلينسكي السابق في التمثيل (وهو الذي أدى بصوته دور الدب بادنغتون في النسخة الأوكرانية من الفيلم الشهير) سبباً في تذكر بعض القراء لواقعة حدثت قبل أشهر عديدة على المستوى العربي. إذ حاول ممثل مصري مغمور أن يحرّض على ثورة شعبية لإسقاط النظام المصري الحاكم حالياً. بدا الرجل لوهلة عابرة أملاً داعب بعض المعارضين الصامتين، ولفتت خطاباته المتلفزة أنظار الحكومة، وأثارت قلقها بعض الشيء، مثلما لفتت أنظار الشعب. لكنه في النهاية صمت، لم ينجح في تحريض أكثر من آلاف عدة لم يبدُ أنهم يمثلون تهديداً ذا شأن، فانفقأت الفقاعة، ومع ذلك، يبقى منها أن الناس، في أوكرانيا أو مصر أو غيرهما، لم يعد ينتظرون القيادة ممن دأبوا على انتظارها منهم، فقد يرونها في ممثل كما حدث في أوكرانيا، أو في رجل أعمال مثلما حدث في الولايات المتحدة نفسها أو في إيطاليا قبل ذلك، أو في كاتب مسرحي، أو في غير هذه من النماذج التي رأيناها على مدار العقود الأخيرة.
ويبقى زيلينسكي مع ذلك حالة مختلفة، فهو لم يكن ممثلاً مغموراً كحال نسخته المصرية الفاشلة، ولم يكن رجل أعمال فاحش الثراء، وإنما كان بطل عمل درامي كوميدي تابعه الأوكرانيون بشغف، ولعله يمثل البداية الحقيقية لحكاية الرئيس الأوكراني.
يرد في النسخة الإلكترونية من موسوعة "بريتانيكا" أن مسلسل "خادم الشعب" عرض للمرة الأولى في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015، واستمر عرض أجزائه الثلاثة بحسب موقع IMBD بين عامي 2015 و2019. ولعب زيلينسكي فيه دور البطولة، وإن لم تعن البطولة هنا أكثر من دور شخصية رئيسة في الأحداث هي شخصية "فاسيلي غولوبورودكو" مدرس التاريخ في مدرسة ثانوية، إذ يتحول من مدرس عادي إلى نجم من نجوم مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن صوِّر له فيديو وهو يلقي خطبة حماسية، وبذيئة أيضاً، ضد الفساد الحكومي. حقق الفيديو الطلابي نجاحاً هائلاً، وفتح الطريق واسعاً أمام "غولوبورودكو" لرئاسة أوكرانيا فكان المسلسل، والكلام لم يزل لـ "بريتانيكا" وليس لـ "ويكيبيديا"، بمثابة خريطة طريق لزيلينسكي في الواقع.
الحكاية
تقول الحكاية، يا سادة يا كرام، إنه قبل خمس دقائق من منتصف ليلة رأس سنة 2018، وبينما يستأثر مسلسل "خادم الشعب" بمتابعة الملايين من الأوكرانيين، أوقف زيلينسكي البث التلفزيوني وظهر أمام جمهوره، الذي لم يكن تحول بعد إلى "شعبه"، ليعلن ترشحه للرئاسة، مستهلاً خطبته تلك بقوله، "مساء الخير يا أصدقائي".
هكذا، ببساطة من يخاطب أصحابه عبر صفحته في "فيسبوك"، أو أسرته الكبيرة عبر "غروب" عائلي في "واتساب"، أعلن "الكوميدي" أنه سيكمل عرض مسلسله في الواقع، وأن مدرس التاريخ الذي أحبه الناس وتابعوه وآمنوا به سوف يخرج من الشاشات إلى الشوارع، ثم إلى قاعات الحكم. وكذلك كانت بداية الحكاية الأسطورية، في زمن يئس أكثرنا من قدرته على إنتاج الأساطير. لكن، من يكون حقاً بطل هذه الأسطورة؟ من فولوديمير زيلينسكي، وبماذا يؤمن، وماذا يمثل؟
ولد زيلينسكي لأبوين يهوديين في عام 1978، ونشأ في مدينة "كريفي ريه"، جنوب وسط أوكرانيا، وكانت في ذلك الوقت مدينة صناعية قاسية الظروف تعد من أكثر مدن الاتحاد السوفياتي تلوثاً، وقضى أولى سنوات عمره في بلدة "إردينيت" المنغولية، حيث كان والده مسؤولاً عن منشأة تعمل في استخراج المعادن ومعالجتها. وكان، بحسب رواية سيرهي رودينكو، تلميذاً محبوباً في شتى المراحل الدراسية، إذ يجمع معلموه "بلا استثناء، على تذكره بوصفه ولداً ذكياً مجتهداً طموحاً إلى أن يقف على خشبة المسرح". وكان والده شديد الحرص على أن يتفوق الابن في العلوم لدرجة أن حصوله على درجة "جيد" في الرياضيات كان كفيلاً بتحويل يوم النتيجة إلى يوم للحداد في البيت. وفي المرحلة الجامعية درس زيلينسكي القانون بناء على رغبة أبيه، لكنه أثار الانبهار على نطاق واسع حينما شارك في مسابقة تلفزيونية للكوميديا والغناء، فلم يعمل بالقانون، بعد إنهائه دراسته الجامعية، وإنما أسس فريق "كفارتال 95" للمسرح الارتجالي، وقد تألف ذلك الفريق من زملاء فولوديمير في الدراسة، أما اسمه، أي "كفارتال"، فهو اسم الحي الذي نشأ فيه زيلينسكي.
وسيبقى من أهم الأعمال التي قدمتها فرقة "كفارتال 95" التمثيلية مسلسل "خادم الشعب"، ليس فقط لتحقيقه نجاحاً كبيراً كعمل درامي كوميدي، وإنما لأنه تحول في عام 2018 من اسم عمل درامي إلى اسم حزب سياسي رسمي في أوكرانيا، ويقول رودينكو في كتابه الذي نشرت "نيوزويك" مقتطفاً سخياً منه في 30 يونيو (حزيران) الماضي:
"في البدء كانت الكلمة، أو بالأحرى كلمتان. ولمزيد من الدقة، كانت الكلمتان عنوان مسلسل هو: خادم الشعب. ثم كان حزب سياسي يحمل الاسم نفسه. حزب بلا أيديولوجية. بلا خلايا حزبية محلية. بلا أعضاء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إيهور كولومويسكي
لكن بأمل كبير، أو بيأس تام، جعله الحزب الحاكم، وإن انعدمت جدارته لأن يكون كذلك. والحق أن إعلان زيلينسكي ترشحه لم يؤخذ على الفور مأخذ الجد، فقد ظنه كثيرون مزحة دعائية للمسلسل، فلما تبين أن الرجل جاد في ما قاله، لم يسلم من غاضبين استنكروا وقاحة مهرج يجترئ على منصب رفيع، لكن زيلينسكي بدأ يجمع الأنصار، بإعلانه الحرب على فساد الحكم ومحاباة المسؤولين للأقارب والأصدقاء وشتى أشكال الخلل التي ضاق الأوكرانيون بها ذرعاً، وبإعلانه اعتزامه إنهاء حال الحرب مع روسيا التي بدأت باجتياح جنوب أوكرانيا في 2014 وسط سخط كبير، وتقاعس كبير أيضاً، من العالم.
صحيح أن صعود زيلينسكي السياسي يدين ديناً كبيراً لإحساس اليأس الذي استشعره معظم الأوكرانيين من فساد نخبتهم السياسية، إذ كان الرؤساء يتتابعون على السلطة، فيستوي الموالون منهم للروس بالمناهضين لهم، في أن الجميع مدعومون من الطغمة الحاكمة الحريصة على مصالحها الشخصية الضيقة، وأنهم جميعاً كانوا يستعينون بمستشارين ومقربين باحثين جميعاً عن الثراء الشخصي، وصحيح أن زيلينسكي قدَّم نفسه باعتباره رجلاً نظيفاً منقطع الصلة بكل ذلك الوضع السياسي الفاسد، لكن يبقى صحيحاً أيضاً أن صعوده مدين ديناً كبيراً لإيهور كولومويسكي الملياردير الأوكراني القبرصي الإسرائيلي مالك قناة "1+1" التلفزيونية، الذي ناصر حملة زيلينسكي الرئاسية (وأصبح محاميه الشخصي من أهم مستشاري المرشح ثم الرئيس وأقربهم إليه). وعلى الرغم من أن كولومويسكي يؤكد نصوع صفحة ممارساته الاقتصادية والسياسية، لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أنه ممنوع من دخول أراضي الولايات المتحدة للاشتباه في تورطه في "فساد كبير".
صحيح كذلك أن زيلينسكي محاط بثلته الخاصة من المقربين الذين تحيط بهم أقاويل تتراوح ما بين انعدام الكفاءة وتصل إلى التربح والانتفاع الشخصي من المنصب العام. وإذا كانت هذه التفاصيل لا تظهر حالياً في الإعلام الغربي الذي يركز جهوده على دعم أوكرانيا ممثلة في رئيسها لتخرج منتصرة من حربها مع روسيا التي يراها الغرب حرب حياة أو موت، وليس مستعداً بأي حال لاحتمال أن يخرج منها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محققاً انتصاراً حقيقياً، لكن هذه التفاصيل لا ترقى إلى أن "تطارد زيلينسكي" كما تذهب الكاتبة لايس داوسيت في استعراضها للكتاب (نيوستيتسمان ـ في 28 يونيو 2022)، إذ إن زيلينسكي، في تقدير الكاتب أندرو أنتوني، لم يعد بحاجة أصلاً إلى صورته الناصعة التي يحظى بها الآن في الخيال الغربي.
ويقول أنتوني في استعراضه للكتاب، (الغارديان في 26 يونيو 2022)، إن زيلينسكي بوضعه الحالي، وعلى الرغم من الاتهامات التي توجه إلى المحيطين به، "هو الشخص الذي تحتاج إليه أوكرانيا وتجد فيه ما تتحد عليه، وما يجسد نضالها، وما يقدر على تحفيز وحشد الشعب في ظل الهجوم الروسي"، ويستعرض كثيراً من الاتهامات الموجهة لرجال زيلينسكي، والمآخذ عليه هو شخصياً، ثم يقول إن "ما يخرج به القارئ من كتاب رودينكو هو أن الديمقراطية في أوكرانيا معيبة، وأن زيلينسكي، على الرغم من خطابه الإصلاحي، هو نتاج النظام الذي يحاربه"، لكنه يستدرك بأن زيلينسكي يبقى أفضل بصورة ضخمة من خصمه بوتين، وبأن أوكرانيا "لو استطاعت أن تقاوم محاولة بوتين لجذبها مرة أخرى إلى الإمبراطورية الروسية فسيكون ذلك بفضل غير قليل لزعيم ذي شخصية قوية مكنته من أن يقف في مواجهة لحظة عصيبة".
حلم قديم
والحق أن الفضل في صعود زيلينسكي إلى السلطة في بلده لم يكن لليأس أو للمال المسيس وحسب، فهناك حلم قديم لدى الأوكرانيين سرعان ما تجدد وكان دافعاً من دوافعهم إلى تنصيب زيلينسكي رئيساً عليهم، مثلما يدفعهم الآن إلى الاستمرار في المقاومة على الرغم من فارق القوة الهائل لصالح الدب الروسي في مواجهة الدب "بادنغتون". إنه الحلم بكسر أنف الجغرافيا، أو الجغرافيا السياسية بالأحرى، والانتقال من الشرق إلى الغرب، من التبعية لروسيا والعيش في فلكها، إلى الانضمام للغرب، والليبرالية، والسوق الحرة، والاتحاد الأوروبي، وربما حلف شمال الأطلسي أيضاً، لتقطع نهائياً ما بينها وبين ماضيها السوفياتي، أو حتى ماضيها في الحقبة ما بعد السوفياتية الذي اعتراه فساد الساسة وغياب الحدود الواضحة بينهم وبين رجال الأعمال، أو لعله الحلم بذهب بولوبتوك.
تقول الحكاية الواردة في مواقع كثيرة على الإنترنت، لكنني حريص أن أنقلها عن مقال نشرته "أوديسا جورنال" في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، إن بولوبتوك كان مواطناً أوكرانياً وطنياً، وحدث يوماً ما أن بعث ولده أياكيف في حراسة ثلاثة مرافقين إلى ميناء أرخانغلسك الشمالي، ليبحروا من هناك إلى لندن في مهمة فائقة السرية حاملين برميلاً خشبياً مملوءاً حتى حافته بالذهب (وفي رواية برميلين). قيل إن ذلك الذهب بلغ 200 ألف روبية ذهبية، وقيل إنه بلغ مليوناً من روبيات الذهب. ذهب الولد ومرافقوه لإيداع الكنز في بنك إنجليزي اختلفت الروايات على تحديده، فمنها ما قال بنك "إنجلترا"، ومنها ما حدد بنك "لويد"، ومنها ما يقول إنه بنك شركة "الهند الشرقية". تقول الحكاية إن بولوبتوك كان يعلم أن القيصر الروسي سوف يعتقله عقاباً له على دفاعه عن قضية استقلال أوكرانيا. ولم يمض الكثير من عام 1723 الذي بعث فيه الرجل ذهبه حتى صدق توقعه وتعرض بالفعل للاعتقال ثم الموت في غضون عام واحد (مات جوعاً أو خنقاً على يد سجانيه، بحسب ما يقال)، لكن الذهب كان قد وصل إلى البنك، وأودع فيه بفائدة سنوية تبلغ 7.5 في المئة، مصحوباً بتعليمات واضحة من المودع بأن يكون الذهب وفوائده إرثاً لورثته الشرعيين وللشعب الأوكراني كله، على ألا يوزَّع الميراث إلا بعد تحقق استقلال أوكرانيا، أو فور الوصول، على حد تعبيره، إلى "أوكرانيا الحرة"، فحينئذ، يحصل ورثة بولوبتوك الشرعيون على 20 في المئة من التركة بأرباحها الهائلة، ويحصل شعب أوكرانيا على 80 في المئة.
أسطورة
هي أسطورة، محض أسطورة، هكذا تؤكد المصادر المختلفة، لكن "يجب القول"، مثلما يكتب سيرهي رودينكو، إن "الأوكرانيين معتادون على الإيمان بالأساطير، فهم مؤمنون بذهب بولوبتوك، وبأن حلول جميع مشكلاتهم سوف تظهر على يد زيلينسكي".
عن نفسي، لست ممن يتعالون على الأساطير، وأرى الإيمان بها، ما لم يؤد إلى التواكل والتقاعس، جزءاً من إنسانيتنا، وتعبيراً عن احتياجنا إلى الخيالي والروحاني والغيبي بمثل احتياجنا إلى الواقعي والمادي والعلمي. فضلاً عن أن ذهب بولوبتوك ربما بدأ يصل إلى الشعب الأوكراني فعلاً، صحيح أنه لا يصل في هيئة روبيات ذهبية، ولكن لا أحد ينكر أنه يأتيهم في شكل أسلحة وأنظمة دفاع جوي وطائرات مسيرة وذخائر. صحيح أنه لا يأتي من قبو بنك في عاصمة غربية، ولكنه يأتي من قباء بنوك وترسانات أسلحة في عواصم غربية كثيرة. وقد لا يكون كنز بولوبتوك الموعود برميلي ذهب مدفونين في عاصمة غربية، بقدر ما هو أفكار سارية في هواء الغرب تطمح أوكرانيا كلها إلى تنسمه، وربما تنال ذلك يوماً حينما يتحقق شرط بولوبتوك، أي الاستقلال الحقيقي، أي "أوكرانيا الحرة" التي ربما يقود زيلينسكي شعبه إليها الآن.
عنوان الكتاب: Zelensky: A Biography
تأليف: Serhii Rudenko
الناشر: Polity Press