لم يكن مستغرباً انخفاض أسعار النفط في تعاملات أول أيام الأسبوع الأميركي في سوق نايمكس بنيويورك، إذ كانت السوق الأميركية مغلقة، الاثنين، بمناسبة عطلة عيد الاستقلال. فأسعار النفط تتراجع، وشهدت في آخر أيام الأسبوع الماضي، انخفاضاً بنسب أقل من 2 في المئة يومياً، لكن المفاجئ كان حجم الانخفاض الذي قارب نسبة 10 في المئة، وجعل سعر الخام الأميركي الخفيف (مزيج غرب تكساس) يهبط إلى ما دون 100 دولار للمرة الأولى منذ مطلع مايو (أيار) الماضي، بينما تم تداول العقود الآجلة لخام برنت القياسي بالكاد فوق ذلك الحاجز (102.77 دولار للبرميل بنهاية تعاملات الثلاثاء).
كان متوقعاً أن يواصل سعر النفط الانخفاض في ظل المخاوف من الركود الاقتصادي الذي سيعني تراجع الطلب على الطاقة، لكن هذه النسبة الكبيرة من الانخفاض، أمس الثلاثاء، تعكس ذعر المستثمرين والمتعاملين في الأسواق، الذي بدأت تشهده أسعار الأسهم التي هوت مؤشراتها في النصف الأول من هذا العام، المنتهي في آخر يونيو (حزيران) قبل أيام، بأعلى معدل انخفاض في تلك الفترة منذ نحو 50 عاماً.
لكن انتقال الذعر من أسواق الأسهم إلى أسواق عقود النفط، وسوق السلع عموماً، لا يبرر هذا الهبوط الكبير في يوم واحد، خصوصاً أن أساسات سوق النفط لم تتغير كثيراً من حيث العرض والطلب، وما زالت مخاطر استمرار الحرب في أوكرانيا وتشديد العقوبات على روسيا تهدد أسواق الطاقة. إلا أن عدة عوامل تجمعت معاً لتؤدي إلى هذا الانخفاض الكبير في أسعار النفط، الثلاثاء، مع فتح الأسواق الأميركية بعد العطلة.
عوامل مختلفة
العامل المباشر هو استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي الذي بلغ من القوة مستويات عالية. وبما أن أسعار النفط تحسب بالدولار، فإنها تتناسب عكسياً مع سعر صرف العملة الأميركية. أيضاً هناك عامل متعلق بتوقعات التراجع في المنتجات الزراعية، ما جعل المستثمرين يصفون مراكزهم في أسواق السلع عامة ومنها النفط. ولأن العامل النفسي يلعب دوراً كبيراً في سلوك المتعاملين، بخاصة في الأسواق الأميركية، شهدت عقود النفط عمليات بيع هائلة دفعت الأسعار للهبوط بهذا الشكل.
كل ذلك في ظل تصاعد احتمالات الركود الاقتصادي بأسرع وأعمق مما كان مقدراً من قبل. وتنقل صحيفة "وول ستريت جورنال" عن جيم ريتربوش، رئيس شركة الاستشارات النفطية "ريتربوش أند اسوشييتس" قوله، "إن الشعور العام بالسوق في غاية التشاؤم بسبب مؤشرات التباطؤ الاقتصادي". يضيف، "ضغط تسارع توقعات الركود في النصف الثاني من العام على عدد من السلع هو ما طال أسعار النفط أيضاً إلى حد كبير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبدا ذلك واضحاً في انخفاض أسعار عدد من المعادن في سوق السلع الأميركية، الثلاثاء، كما انخفضت أسعار القطن والذرة والقمح بنسبة 4 في المئة للعقود الآجلة. ووصف أحد المتعاملين الوضع في أسواق السلع بقوله، "المستثمرون يسحبون مراهناتهم من على الطاولة".
إلى جانب ارتفاع قيمة الدولار وتسارع توقعات الركود في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا هناك عامل آخر أسهم في انخفاض أسعار النفط. يتمثل في إلغاء الإضراب الذي كان متوقعاً أن يؤثر في إنتاج شركة الطاقة الحكومية النرويجية بعد تدخل حكومي. ويمثل إنتاج الطاقة من النرويج، بخاصة الغاز الطبيعي، مصدراً لكل أوروبا تزداد أهميته مع احتمالات تقليل الاعتماد على واردات الطاقة من روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.
العين على روسيا
رغم اضطرابات إنتاج النفط في ليبيا وبعض المناطق الأخرى، فإن ذلك لا يؤثر كثيراً في المعروض العالمي بالشكل الذي يخل باستقرار معادلة العرض والطلب، بخاصة أن تحالف دول "أوبك" وشركاءهم في "أوبك+" يواصل رفع الإنتاج شهرياً بالقدر الذي يضمن استقرار السوق، كما أن فشل أول جولة مفاوضات بين إيران وأميركا في الدوحة، والذي يعني إمكانية ألا يعود النفط والغاز الإيراني إلى السوق قريباً لم يؤثر كثيراً أيضاً.
فالمفترض أن كل تلك الأحداث ضاغطة على جانب العرض ما يعني منطقياً ارتفاع الأسعار، لكن حدوث العكس وانخفاض الأسعار بهذا الشكل يعود في الأساس إلى أن العالم لم يعد متخوفاً من غياب النفط الروسي عن السوق العالمية. ويكاد يجمع المحللون والاقتصاديون على أن اقتراح دول مجموعة السبع بفرض "سقف سعر" للنفط الروسي غير قابل للتحقيق، وأنه محكوم بالفشل. ولم يبق من الاقتراح سوى ما عكسه من انزعاج الدول الصناعية الكبرى من تبعات أي عقوبات على النفط الروسي لأنها تضر باقتصادات الغرب الرئيسة أكثر مما تضر بالاقتصاد الروسي.
حتى مع استمرار المخاوف من قطع إمدادات الطاقة الروسية عن دول أوروبية، فإن روسيا بدأت بالفعل زيادة صادراتها لمستوردين آخرين في آسيا وغيرها، خصوصاً الصين والهند. ويعني ذلك ببساطة أن النفط والغاز الروسيين لن يخرجا من معادلة العرض والطلب في السوق العالمية.
التأثير الآخر المتعلق بروسيا هو أن حربها في أوكرانيا والعقوبات الغربية غير المسبوقة عليها زادت من تباطؤ النمو الاقتصادي عبر الأطلسي. وتعدل أغلب المؤسسات والشركات الاستشارية توقعاتها بحدوث الركود ربما بنهاية هذا العام وليس العام المقبل 2023. وهذا هو ما يضغط سلباً وبقوة، ليس على أسعار النفط فقط بل على أسعار الأسهم وغيرها.
توقعات متضاربة
تلك المخاوف المتصاعدة من احتمالات الركود الاقتصادي العالمي، مع استمرار الصادرات الروسية من الطاقة، هي التي دفعت المحللين في "سيتي غروب" لإصدار مذكرة، الثلاثاء، يتوقعون فيها أن تنخفض أسعار النفط إلى مستوى 65 دولاراً للبرميل بنهاية هذا العام مع استمرار قوة العرض في السوق وتراجع الطلب نتيجة تباطؤ النمو الاقتصادي. وأضاف محللو "سيتي غروب" أن الأسعار يمكن أن تهوي إلى مستوى 45 دولاراً للبرميل العام المقبل.
وحتى إذا لم تدخل الاقتصادات الرئيسة في ركود، فإن المذكرة قدرت أن تنخفض أسعار النفط إلى مستوى 85 دولاراً للبرميل مع استمرار استيراد الصين والهند للنفط الروسي. ويلاحظ أن العامل المشترك في أغلب التحليلات والتقديرات هو صادرات الطاقة الروسية على الرغم من استمرار الحرب في أوكرانيا وتشديد العقوبات على موسكو.
وفي الوقت الذي توقعت فيه "سيتي غروب" انخفاض أسعار النفط، قدرت مذكرة لبنك "جيه بي مورغان" ارتفاعاً صاروخياً في أسعاره لتصل إلى 380 دولاراً للبرميل. وتظل صادرات الطاقة الروسية والعقوبات على موسكو محط الأنظار والعامل المحوري في تلك التوقعات المتناقضة لأسعار النفط.
وبحسب السيناريو الذي اعتمده المحللون في جيه بي مورغان، فإن محاولة الولايات المتحدة وحلفائها تحديد سقف سعر للنفط الروسي قد تدفع موسكو لاتخاذ إجراءات عقابية تجاه محاصريها. وفي أسوأ الحالات يمكن لروسيا وقف إنتاج وتصدير ما يصل إلى 5 ملايين برميل يومياً، من دون أن يضر ذلك كثيراً باقتصادها، لكنه سيرفع أسعار النفط إلى ما يقارب 400 دولار للبرميل.
وحتى في السيناريو الأقل تشاؤماً، إذا قررت روسيا وقف إنتاج وتصدير 3 ملايين برميل يومياً، فإن سعر النفط سيقفز إلى ما يقارب 200 دولار للبرميل (190 دولاراً للبرميل من خام برنت). ويرى المحللون الذي أعدوا مذكرة جيه بي مورغان أن ذلك إجراء أسرع بالنسبة لموسكو، ويمكن أن يضر بشدة بالغرب والدول المستهلكة للطاقة.
تبقى كل هذه السيناريوهات والتوقعات المتضاربة مرهونة باستمرار الحرب في أوكرانيا وتشديد العقوبات على روسيا وآفاق النمو، أو الانكماش، الاقتصادي العالمي.