بعد أكثر من شهرين ونصف الشهر على القتال المستمر جنوب العاصمة الليبية طرابلس، بين قوات الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر وقوات "حكومة الوفاق" بقيادة فايز السراج، وما أنتجه الصراع من معطيات جديدة على الصعيد السياسي، يبدو الموقف الدولي في طريقه للحلحلة بعد مدة من الانقسام، نحو بلورة مواقف موحدة.
أهم مؤشرات ذلك التحول يتمثل في التقارب الإيطالي- الفرنسي، بعد أشهر من الخلافات التي ظهرت بشكل واضح في تصريحات مسؤولي الدولتين، لكن اجتماع مجموعة العمل الإيطالية- الفرنسية في روما الأربعاء 19 يونيو (حزيران) 2019، وما أعقبه من تصريحات لكبار قادة البلدين، بحسب وكالة "آكي" الإيطالية، تشير إلى بدء تعاون وثيق بين روما وباريس للتوصل إلى حل مستدام للأزمة في ليبيا، يأتي ضمن سلسلة تغييرات في المواقف الدولية.
خلافات متصاعدة
وعاشت باريس وروما خلافات متصاعدة بشأن التنافس على قيادة الملف الليبي أوروبياً، وصل لحد اتهام روما باريس بتعمد إثارة الفوضى في ليبيا، وقول وزيرة الدفاع الإيطالية إليزابيتا ترينتا لنظيرتها الفرنسية فلورنس بارلي، على هامش الاجتماع الوزاري بمقر الناتو في بروكسل ديسمبر (كانون الأول) 2018، "لنكن واضحين القيادة في ليبيا لنا".
وخلال أعوام من وجود "حكومة الوفاق"، المنبثقة من اتفاق الصخيرات الموقع نهاية عام 2015، كانت إيطاليا تدعم "حكومة الوفاق"، لكن فرنسا كانت على اتصال دائم أيضاً بقائد قوات الجيش المشير حفتر، وتميل لدعمه في حروبه ضد الإرهاب في ليبيا، ليصل التنافس منتهاه بتنظيم باريس لقاء لقادة أبرز أربعة أطراف في ليبيا في أغسطس (آب) 2018، أعقبه تنظيم إيطاليا للقاء مماثل في مدينة باليرمو منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2018. وأقر مراقبون للشأن الليبي بأن التنافس بين الدولتين أثر بشكل كبير في تأخر التوصل إلى حل سياسي للأزمة الليبية.
ولم يخف رئيس البرلمان الأوروبي أنطونيو تاياني، تأثير الخلاف الفرنسي- الإيطالي على تأخير الحل في ليبيا، فخلال تصريحات صحافية له الجمعة 21 يونيو 2019، قال "ما لم تعمل فرنسا وإيطاليا معاً لحل الأزمة الليبية، فلن نتمكن من إيجاد مخرج من الوضع الحالي".
بوادر التقارب
وبدأت ملامح التقارب الإيطالي- الفرنسي تتبلور منذ اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الإيطالي إينزو موافيرو ميلانيزي، منتصف مايو (أيار) 2019، بنظيره الفرنسي جان إيف لودريان، حين بحثا مستجدات التطورات العسكرية في طرابلس. وأشارت تغريدة للبعثة الدبلوماسية الدائمة لإيطاليا لدى الاتحاد الأوروبي إلى أن "اللقاء شهد تقارباً واسعاً في وجهات النظر حول ليبيا".
لكن السؤال الذي يطرح نفسه وسط هذا التقارب، هو "ما الجديد حتى يتقارب طرفا الصراع الأوروبي حول ليبيا؟"، ويحاول منصور سلامة رئيس الجمعية الليبية لدراسة السياسات (أهلية) تلمّس الإجابة، لافتاً إلى أن "مخاوف إيطاليا منذ بدء عمليات تبددت، لا سيما بعد تأكيد حفتر لقادة روما وعلى رأسهم جوزيبي كونتي خلال لقائه الأخير به، أن "عمل الجيش يسير بمعزل عن المسار السياسي، الذي لا يزال حفتر يؤكد ضرورة أن يكون الحل من خلاله"، وقال سلامة متحدثاً لـ "اندبندنت عربية"، إن "تضارب المصالح بين الدولتين لا شك هو السبب الأول، فكلاهما يستثمر في الطاقة الليبية، لكن أسباباً أخرى للخلاف يبدو أن لها علاقة بالماضي التاريخي للدولتين في ليبيا، وأسباباً أخرى تتعلق بالظروف السياسية التي تحكم المجال الأوروبي وتنافس كليهما على القيادة"، مرجحاً أن "تكون العاصمتان الأهم أوروبياً في الملف الليبي، قد أدركتا أن الأزمة في ليبيا وصلت منتهاها وأن الجيش قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على آخر مدن البلاد وهي العاصمة، بالتالي لا مناص من التقارب، واستمرار الصراع ليس في مصلحة كليهما"، مضيفاً أن "الدولتين أقرّتا بأن الصراع لن ينتهي بفوز أي منهما، فكلاهما يملكان حلفاء على الأرض، والاستمرار في دعمها قد يقود إلى تدخل مباشر تكون فيه الحرب ليس بالوكالة، كما هي الحال الآن، لذا يتوجب التفاهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدور الأميركي
لكن هناك عاملاً دولياً يبدو أنه ليس إضافياً بين الأطراف المتنفذة في الملف الليبي، بقدر ما هو أساسي، وهو الاقتراب الأميركي من الملف الليبي.
وسائل إعلام أميركية كشفت عن استعداد الإدارة الأميركية لإرسال سفير جديد إلى طرابلس، ما يشير إلى نيتها في استعادة المبادرة، لا سيما أن ريتشارد نورلند الذي يعتبر المرشح الأول لشغل منصب السفير، ذكر خلال حديثه أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي الخميس 20 يونيو 2019، أن مهمته في ليبيا السعي لوقف إطلاق النار ومساعدة الليبيين على إقامة حكومة مستقرة تتمتع بشرعية واسعة.
وربما يكون الميل الإيطالي لمهادنة الجانب الفرنسي، مبعثه البروز الأميركي الجديد في الملف الليبي، فكثيراً ما تُعتبر إيطاليا الحليف الأوروبي الأول لواشنطن، وتحركات ساستها تعكس تغير اتجاهات بعض المواقف الأميركية، ومن هنا يمكن القول إن "التقارب الإيطالي- الفرنسي بشأن التوصل إلى حل، مرهون بالموقف الأميركي الذي تؤشر تصريحات السفير الأميركي المقبل، إلى أنه لا يزال في طريق البلورة".
كما عكس اتصال الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحفتر، منتصف أبريل (نيسان) 2019، أولى مؤشرات عودة الاهتمام الأميركي بالملف الليبي. وهو يؤشر أيضاً إلى ميل البيت الأبيض لتأييد عمليات الجيش في طرابلس، التي جاء الاتصال الهاتفي في أتون اندلاعها. ويمكن الاستئناس في ذلك بمؤشرات عدم الرضا عن حكومة "الوفاق"، التي تمثل الخصم العسكري للجيش، خلال تقرير نشرته وزارة الخارجية الأميركية الجمعة 21 يونيو، اتهمت فيه حكومة السراج بالتورط في الإتجار بالبشر.
وأثناء الحديث عن التوافقات الدولية وتأثيرها في التعجيل بالتوصل لحلول للأزمة المتصاعدة في ليبيا، لا يمكن إغفال الدور الأممي الذي مثل مظلة التحركات والمبادرات الدولية، لكن السفير الأميركي الجديد تجنب على الرغم من ذلك، الحديث عن دور الأمم المتحدة، أثناء عرضه لمهامه الجديدة في ليبيا.
وسبق أن طالب عدد من النواب، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، خلال مذكرة حملت توقيعاتهم، متهمين غسان سلامة بأنه "فاقد الحيادية والاستقلال، وأصبح طرفاً من أطراف الصراع".
توقيت الهجوم
وبينما يعتبر مراقبون أن "توقيت هجوم الجيش على طرابلس، كان الهدف منه ضرب صدقية سلامة، الذي كان يستعد لعقد آخر مرحلة في خريطة الطريق الأممية، للحل في ليبيا من خلال ملتقى غدامس"، يرى يوسف القماطي الناشط السياسي والحقوقي الليبي، من جانبه، أن "عملية الجيش جاءت في وقتها، فالملتقى كان يهدف إلى إعادة تدوير الميليشيات وقادتها وإشراكهم في الحكم مجدداً، بصيغ ومسميات أخرى"، مؤكداً أن "العملية جاءت في وقتها، ولو تأخرت قليلاً لكان من الصعب إطلاقها".
وتساءل القماطي خلال حديث لـ "اندبندنت عربية"، "هل كان هؤلاء الذين يقاتلون الجيش، وأثبتت تقارير عدة أمام العالم انتماءهم للإرهاب، سيشاركون في طاولة غدامس؟"، مضيفاً "لقد انكشف سلامة وعليه الرحيل وإلا فليفسر لنا الفرق بين مبادرة السراج التي دعت لملتقى ليبي وبين ما كان يدعو إليه في غدامس، فالأهداف يبدو أنها واحدة".
ويضيف القماطي، وهو أحد الموقعين على المذكرة الموجهة لغوتيريش، قائلاً "لن نقبل بسلامة وسيطاً، فبوجود وسيط أممي محايد يمكن أن نفرز القوى السياسية في طرابلس التي يمكن أن تكون شريكاً في بناء المسار السياسي المقبل، والقوى المتورطة في علاقات مع الإرهاب يتوجب استبعادها"، مشدداً على أن "التقارب الدولي سواء في واشنطن أو أوروبا، أصبح أكثر وعياً بشكل كبير، بأن عدم حياد البعثة وسلامة على الخصوص، أهم أسباب تعقد الأوضاع، ووصولها إلى مرحلة المواجهة العسكرية".