منذ بدأ ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية حول العالم، وفي الدول ذات الاقتصاد المتقدّم أيضاً، منذ قرار الإقفال حول العالم بسبب انتشار فيروس كورونا، والآن بسبب نتائج الحرب الروسية على أوكرانيا، وهما دولتان تصدران وحدهما ما يقارب 20 في المئة من القمح العالمي، بدأت تخرج التقارير الدولية من مختلف المؤسسات المالية والمنظمات الدولية الاقتصادية أو تلك المعنية بأمور اللاجئين المنتشرين حول العالم، وتلك المعنيّة بالغذاء كمنظمة "الفاو"، ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة "السبع"، وبياناتها، ومجموعة "العشرين" وقراراتها، والأمم المتحدة بكل فروعها ومشتقاتها الكثيرة التي تتزايد دائماً بسبب ارتفاع الحاجة إليها في الحروب التي تشتعل هنا وهناك، كتلك التي تدور في الشرق العربي أو في إثيوبيا، أو في السودان وغيرها الكثير من البلدان. وجاء التضخم العالمي اليوم ليضيف على هذه المنظمات أعباء جديدة على كل الحكومات والتحالفات الدولية والمنظمات الأممية من أجل تأمين الاستقرار الغذائي بحد لا يُسقط مئات ملايين البشر في بؤرة الفقر التي يقفون فوقها.
البنك الدولي هو إحدى أولى المؤسسات أو المنظمات الدولية الكبرى ذات التأثير في الاقتصاد العالمي عبر تدخله لمساعدة الحكومات العاجزة. وقام هذا البنك أيضاً بإصدار عشرات التقارير والدراسات والأبحاث والتوقعات الاقتصادية والنصائح للدول والحكومات في مواجهة الأزمات المقبلة والمتوقعّة، ولو تناولنا التقارير التي أصدرها الباحثون في البنك الدولي، خلال الشهر الماضي والشهر الحالي حول ما سيصيب الاقتصاد العالمي من انكماش عموماً وما سيصيب اقتصاد كل دولة على حدة، سنجد الكثير من المعلومات المتوافقة بين تقارير الباحثين من مختلف الجنسيات، وكذلك في الاستنتاجات إلا القليل منها الإيجابي كالتفاؤل بالتوجّه الكثيف من الحكومات الأوروبية نحو قطاعات الطاقة المتجددة والنظيفة، الأمر الذي سرّعته العقوبات على النفط الروسي، ويقدمون مثالاً على ذلك ما بعد صدمة عام 1973 النفطية إذ ارتفعت متطلبات كفاءة استخدام الوقود بالنسبة للسيارات في الولايات المتحدة من 13 ميلاً (حوالى 21 كيلومتراً) للغالون (3.78 ليتر) إلى 20 ميلاً (حوالى 32 كيلومتراً) في العام 1990، لكن في الوقت ذاته، قد نحصل على نتيجة عكسية، إذ اختارت الصين في الأزمة النفطية الحالية زيادة إنتاج الفحم بمقدار 300 مليون طن وهو ما يعادل ثمانية في المئة من المستويات الحالية.
رأي البنك الدولي في كل أسبوع بالأزمة
وتحصي المؤسسة المالية الدولية ذات النفوذ القوي في الاقتصاد العالمي أنه بحلول عام 2030، سيعيش ما يصل إلى ثلثي فقراء العالم في فقر مدقع في البلدان الهشة والمتأثرة بالصراعات، ما يهدد بعكس مكاسب التنمية السابقة، وفي بداية شهر يونيو (حزيران) الماضي، نشر البنك تقريراً بعنوان "صدمة عالمية لا مثيل لها في قطاع السلع الأولية"، كتبه إندرميت جيل نائب رئيس مجموعة البنك الدولي، وأيهان كوسى نائب الرئيس ومسؤول قسم النمو المتكافئ، وبرأيهما أنه على مدار نحو 30 عاماً، عزز التوسع في التجارة والاستثمار والابتكارات حقبة غير مسبوقة من الازدهار، وجعل العالم أقرب إلى استئصال الفقر المدقع، لكن هذا التقدم اصطدم بأزمتين تعاقبتا بسرعة، فاندلعت الحرب في أوكرانيا قبل أن تسنح الفرصة للبلدان النامية للخروج من حال الركود التي سببها فيروس كورونا، ومن الواضح بالفعل أن الأضرار الاقتصادية ستكون شديدة وطويلة الأمد على حد سواء.
وأحدثت الحرب أكبر صدمة في أسعار السلع الأولية منذ السبعينيات، وستكون لهذه التطورات تداعيات وخيمة بخاصة على أفقر بلدان العالم، إذ تلتهم أسعار الغذاء والطاقة المرتفعة حصة أكبر من دخل الأسر الفقيرة مقارنة بالأسر الأكثر ثراء، ويمكن أن يؤدي الارتفاع الكبير في أسعار الأسمدة، إلى تقليل استخدامها، ما يعني تقليص المحاصيل وانخفاض في توافر الغذاء، وبرأي هذين الاقتصاديين النافذين أنه "على مدى العامين الماضيين، لم تترك سلسلة الأزمات المتداخلة مجالاً كبيراً للمناورة ولا للخطأ. وقد تحدد الخيارات التي يتخذها واضعو السياسات خلال العام المقبل المسار الذي سيسلكه العقد المقبل، وحري بهم ألا يدخروا أي جهد لزيادة النمو الاقتصادي في الداخل، والتصدي لأي إجراءات قد تضر بالاقتصاد العالمي".
الخروج من المأزق
بعد أسبوع (16-6-2022) على التقرير السابق، نشر البنك الدولي دراسة شارك فيها كل من مارسيلو استيفاو المدير العام لقسم الاقتصاد الكلي والتجارة والاستثمار، ودييغو ريفاتي وهو أخصائي أول في قسم الديون، وديفيد ميهالي خبير في البنك الدولي بأمور التجارة والاستثمار، واتفق المشاركون الثلاثة على نصيحة إلى الدول المعنية معاكسة لما قد يتوقعه معارضو البنك الدولي وسياساته من جماعات الضغط واليسار العالمي الذين يتهمونه بالتبعية ومحاباة السلطات لا مصالح الشعوب عبر بيع القطاع العام، لكن في دراستهم الجديدة هذه حذروا الدول النامية من أن يدفعها ارتفاع الديون وأسعار السلع الأولية بشكل قياسي غير مسبوق إلى إغراء رهن مواردها الطبيعية لتأمين التمويل الذي تحتاج إليه الآن، أما سبب دعوتهم المفاجئة هذه، ما حدث في جنوب السودان الذي يتعثر في دفع قروضه بعد ضعف القطاع النفطي الذي بات وكأنه مرهون للشركات الدائنة، وهناك دولة تشاد التي تجاهد لإعادة هيكلة ديونها لكن المقرضين التجاريين لا يرغبون بتخفيف أعباء هذه الديون على الحكومة. ودخلت زيمبابوي أخيراً في مفاوضات مع شركة لتجارة السلع الأولية لتقديم إيرادات مناجم الذهب والنيكل المربحة لسداد ديونها للشركة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبرأي هؤلاء المقررين، فإن القروض المدعومة بالموارد الوطنية تعود إلى قرن من الزمان، لكنها لم تعد مجدية بسبب التنفيعات والعمولات والصفقات التي تعقد تحت الطاولة بين المقرضين والسلطات الحاكمة في الدول النامية. وغالباً ما تذهب هذه القروض الضخمة المرصودة لمشاريع البنى التحتية الكبيرة، في مزاريب الهدر والفساد بغياب الشفافية والمساءلة والمعاقبة في هذه الدول، وعلى الرغم من ذلك، باتت مستخدمة على نطاق واسع في البلدان النامية الغنية بالموارد في أثناء طفرة أسعار السلع الأولية في أوائل العقد الأول من القرن الحالي. وفي منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، على سبيل المثال، مثلت هذه القروض نحو 10 في المئة من إجمالي القروض بين عامي 2004 و2018، وتبلغ، بحسب البنك الدولي، 46.5 مليار دولار، ويعلن التقرير أنه، على الرغم من حجم هذه القروض الضخم، لم تكن هناك معلومات تذكر عن شروطها. وفي خلاصة هذا التقرير نصح المشاركون الاقتصادات النامية التي لديها احتياجات تمويلية متزايدة بأن تبقى حذرة من القروض المدعومة بالموارد الوطنية، منعاً لرهن مقدراتها وأرصدتها المستقبلية لدى سماسرة السلع الأولية.
البنك الدولي يغفر للجائحة فجأة
وبعد أسبوع على التقرير الثاني، نشر البنك الدولي بحثاً اقتصادياً يخالف في نتائجه ما أشار إليه التقرير الأول بأن ديون الدول بدأت بالتراكم مع وصول جائحة كورونا. وجاء البحث تحت عنوان، "عندما تعصف أزمات الديون، لا تلوموا الجائحة"، ونشر في (28-6-2022)، وشارك في تحقيقه مارسيلو استيفاو المدير العام لقسم الاقتصاد الكلي والتجارة والاستثمار، والخبير الاقتصادي الأول في البنك سيباستيان إيسل، ويرى هذان الاقتصاديان بأن ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، وتباطؤ النمو، أديا إلى تهيئة التحول نحو أزمات مالية من النوع الذي اجتاح الاقتصادات النامية في أوائل الثمانينات، ولكن برأيهما، من الخطأ إلقاء اللوم على الجائحة بتفجّر الأزمات، فبذور هذه الأزمات قد نُثرت قبل جائحة كورونا بمدة طويلة، وما دفع إلى تراكم الديون قبل الجائحة، لم تكن المفاجآت الاقتصادية بل السياسات السيئة، بحسب استيفاو وإيسل، ويشير تحليلهما لـ 65 بلداً نامياً إلى أن العجز الأولي المستمر كان أكبر محرك منفرد للدين العام في تلك البلدان التي تنفق على نحو يتجاوز إمكانياتها، ويستنتجان أنه "قد حان الوقت لواضعي السياسات كي يعتمدوا القول المأثور: إذا وجدت نفسك في حفرة، توقف فوراً عن الحفر".
هيكلية البنك الدولي وتاريخه
بحسب التعريف المنشور على موقع البنك الدولي الإلكتروني، فإنه يشبه مؤسسة تعاونية، وتعتبر البلدان الأعضاء، وعددها 189 مساهمة فيها، ويمثّل المساهمون من خلال مجلس المحافظين، وهم كبار واضعي السياسات في البنك الدولي. وبصفة عامة، يكون المحافظون من وزراء المالية أو وزراء التنمية في البلدان الأعضاء، ويجتمعون مرة واحدة في السنة، ويفوض المحافظون واجبات محددة إلى 25 مديراً تنفيذياً في مقر البنك الدولي، وتعيّن البلدان الخمسة التي تمتلك أكبر عدد من الأسهم المدراء التنفيذيين الذين يمثلونها، في حين يتم تمثيل البلدان الأخرى عن طريق مدراء تنفيذيين منتخبين، أي يقومون بدورهم بانتخاب رئيس البنك لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد.
ويجتمع المديرون التنفيذيون، مرتين كل أسبوع، للإشراف على عمل البنك والموافقة على القروض والسياسات الجديدة والميزانية الإدارية واستراتيجيات المساعدة القطرية، وقرارات الإقراض والقرارات المالية، ويرى راسمو سياسة البنك، بحسب بياناته المنشورة على الموقع الرسمي، بأنه كان ضرورة لا بدّ منها خلال التغييرات الهائلة التي أصابت الاقتصاد العالمي في السنوات الـ 70 الماضية. وقامت مجموعة البنك الدولي بمساعدة أكثر من 100 دولة نامية، والتي تسير على طريق التحول إلى اقتصاد السوق، وتعمل المجموعة مع حكومات البلدان والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، وبنوك التنمية الإقليمية والمراكز البحثية حول قضايا كثيرة على رأسها المناخ والصراعات والأمن الغذائي والتعليم والزراعة والتمويل والتجارة.
وحين تأسس كان اسمه البنك الدولي للإنشاء والتعمير في العام 1944، وكانت قروضه الأولى تستهدف إعادة بناء البلدان التي دمرتها الحرب، وبمرور الوقت، تحول محور تركيز عمله من إعادة الإعمار إلى التنمية والبنية التحتية والسدود وشبكات الكهرباء وشبكات الري والطرق. وفي المقارنة التي تفيد بتطور تقديمات البنك الدولي الذي قدم أربعة قروض بقيمة إجمالية بلغت 497 مليون دولار في 1947، مقارنة بما بلغ 302 قرض بقيمة إجمالية بلغت 60 مليار دولار في 2015.