ملخص
مسنون رفضوا النزوح ومغادرة قراهم على رغم الخطر وآخرون غادروا مرغمين وحملوا في قلوبهم حرقة وألم... ما سر هذه العلاقة الوثيقة بين المسن وأرضه؟
من منا لم تعلق في ذهنه صور وفيديوهات لمسنين غلبت عليهم مشاعر القهر والحرقة لمغادرة قراهم ومنازلهم بسبب ظروف الحرب والقصف؟ تلك الدموع التي تنهمر على خدي المسن النازح خير تعبير عن مدى تعلقه بأرضه، وتلك العلاقة الخاصة التي تربطه بها. وكأنه عندما يترك أرضه يترك الجزء الأكبر من حياته في الوقت نفسه، بكل ما يحمله من ذكريات ولحظات جميلة عاشها في "مكانه الآمن". وإذا بتعلقه بأرضه يزوده بصمود لا تزعزعه معاناة ولا مآس، فتجده مستعداً للتمسك بأرضه ولو وجد نفسه في مواجهة مع خطر الموت. فلا يخيفه الموت والهلاك ما دام أنه صامد فيها، يحتمي بها حتى الرمق الأخير، وللأسف من المسنين اللبنانيين من فقدوا حياتهم بعد أن رفضوا التخلي عن أرضهم في هذه الحرب.
تعلق بالأرض حتى الرمق الأخير
صورة المسنين الأربعة الذين تمسكوا بأرضهم في ميس الجبل (جنوب لبنان) حتى الرمق الأخير، آلمت كل من سمع تفاصيل قصتهم المؤثرة. رفضوا مغادرتها على رغم الخطر المحدق بهم، والدمار الذي أحاط بهم من كل صوب، والتحذيرات من غارات مدمرة قادمة، لتكون قصتهم شاهدة على أقصى حدود الصمود لمن يرفض التخلي عن أرضه. كان هؤلاء من المسنين الذين يحتاجون إلى رعاية خاصة وأدوية بسبب أعمارهم المتقدمة التي تجاوزت الـ80، إلا أنهم رفضوا مغادرة أرضهم وقريتهم، وتمسكوا بها ليواجهوا خطر الموت. اختاروا البقاء في منازلهم على رغم دعوات الإجلاء المتكررة، غير آبهين بالخطر وبالدمار الهائل الذي شهدته البلدة. قصتهم هذه تؤكد أن القرى الجنوبية لم تخل من أهلها تماماً، وقد تمسك بها بعض ممن يرفضون أن يسجلوا في عداد النازحين، وكأنهم بذلك يرغبون في تعليم العالم معنى الصمود.
كثيرون مثلهم اختاروا المكوث في قراهم على رغم الخطر وافتقادهم إلى أدنى مقومات العيش ووجودهم في ظروف صعبة للغاية بسبب القصف المتواصل ومحاصرتهم من الجهات كافة، ومنهم من أرغم على المغادرة بسبب القصف العنيف والمدمر تاركين وراءهم أجمل الذكريات وحاملين في قلوبهم حسرة صعبة الوصف.
يتحدث خليل عزيز بحرقة وعينين دامعتين عن بلدة الخيام التي اضطر إلى ترك منزله فيها مرغماً، هو يجهل مصير منزله اليوم في ظل القصف المتواصل والتدمير الهائل الذي طاول بلدة الخيام الجنوبية.
صحيح أن منزله كان تضرر في حرب يوليو (تموز) 2006، إلا أنه بقي متمسكاً ببلدته وإن لم يتمكن من ترميمه فيها، ويتحدث بشوق عن اللحظة التي يتوقف فيها القصف ليعود لها. تدمع عيناه عندما يتحدث عن الدمار الهائل الذي طاول بلدته الجميلة التي تركها مرغماً أولاً، متوجهاً إلى حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، وعاد ونزح منها مع ابنته الوحيدة تحت القصف ليجد نفسه في أحد مراكز الإيواء. بصوته الهادئ الذي يخنقه الألم، يؤكد أن وجوده في مركز الإيواء بهذا الشكل لا يشبهه، ويسبب له كثيراً من الأسى. فهو ليس معتاداً على العيش بظروف مماثلة، وثمة حرقة في قلبه لأنه مضطر إلى القبول بها، بدلاً من العيش معززاً مكرماً في منزله. لا خيار آخر له حالياً إلا بقبول العيش حيث لا ماء ولا كهرباء ولا أدنى معايير النظافة، وفي ظروف لا تؤمن أساسات العيش الكريم. وعلى رغم القصف المتواصل على بلدة الخيام، يظهر حماسة للعودة لها لو تسمح له الظروف، وإن كان قد يواجه خطر الموت بذلك. في الوقت نفسه يندفع في حديثه عن التحديات التي يواجهها الإسرائيليون في التوغل في الجنوب، وعجزهم عن الدخول إلى بلدة الخيام وبقية القرى الجنوبية. كما يؤكد أن الخيام صامدة حتى اليوم وستبقى كذلك "لأنهم لن يتمكنوا من أخذ متر واحد منها"، معتبراً أنه في العمليات البرية لن يتمكن الإسرائيليون من تحقيق شيء، ويعود بالذاكرة بفخر واعتزاز عندما كان من الممكن تدمير 18 دبابة إسرائيلية في الخيام في حرب 2006.
من جهته يتحدث مختار بلدة طيردبا الجنوبية إبراهيم فقيه بوجع عن اللحظة التي اضطر فيها مرغماً إلى مغادرة قريته التي تعتبر أغلى ما في حياته، إذ ولد فيها وترعرع فيها ولم يفارقها يوماً، لذلك ثمة ارتباط عاطفي وثيق معها "بلدتي غالية جداً على قلبي، اضطررت إلى مغادرتها مرغماً لأنجو من القصف العنيف عليها. نزوحنا كان في غاية الصعوبة لأنني كثيراً ما كنت متمسكاً بتراب قريتي التي أفتقدها في كل لحظة. أفتقد إلى أهلي وأصدقائي وجيراني وأولادي، وقد تفرقنا الآن في مناطق مختلفة، ومنا من أصبح خارج لبنان. صرت أستيقظ في كل صباح متمنياً لو أجد نفسي في بلدتي، فالأسى في قلبي صعب الوصف لأنها المرة الأولى التي أغادرها فيها".
في الأرض الذاكرة والهوية
من وجهة نظر نفسية تشير المعالجة النفسية الاختصاصية سهير هاشم إلى أن التعلق العميق بأرضهم خلال فترات الحروب وفي أي وقت آخر نتيجة عوامل عدة، منها عاطفية وثقافية وتاريخية، فبالنسبة إليهم تمثل الأرض جزءاً من الهوية والذاكرة الشخصية والجماعية، وهذا ما يبدو واضحاً في الفيديوهات التي يعبرون فيها في الحرب عن وجعهم لأنهم اضطروا إلى التخلي عن أرضهم، والأسباب التي تسهم في تعزيز هذا الارتباط كثيرة وقد تفسر سر هذا التعلق الشديد:
-الذاكرة والتاريخ الشخصي: تحمل الأرض بالنسبة إلى كبار السن ذكريات من حياتهم، وفيها أيضاً تفاصيل علاقاتهم مع العائلة والجيران والأوقات السعيدة التي عاشوها هناك، هي تجسد مراحل حياتهم ومن الصعب عليهم التخلي عنها أو الابتعاد عنها مهما كانت الظروف، ولو كانوا عرضة للخطر.
-الانتماء والهوية: يرتبط كبار السن بمكان نشأتهم الذي يشكل جزءاً من هويتهم الثقافية والاجتماعية، وتمثل الأرض جزءاً من "الجذور" التي تعطيهم شعوراً بالانتماء، وإحساساً بالاتصال بالجذور العائلية والجغرافية.
-التعلق بالعادات والتقاليد والتمسك بها: في كثير من الأحيان، يكون لكبار السن دور كبير في الحفاظ على التقاليد والعادات التي تمارس في الأرض، وهي كثيرة، قد يكون لديهم ارتباط خاص بالأرض بسبب الزراعة أو طرق الحياة التي تربوا عليه، ونمط الحياة الذي كثيراً ما اعتمدوه.
-الاستقرار النفسي: خلال فترات الحرب يشعر كبار السن بالقلق والتهديد، وفي ظل هذه الضغوط توفر الأرض نوعاً من الاستقرار النفسي والراحة في مواجهة التغيرات الكبيرة في محيطهم، وإن كانت الظروف المحيطة تدعو إلى القلق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
-الاستقلالية والقدرة على السيطرة: يشعر كبار السن في بعض الأحيان أنهم قادرون على التحكم بمحيطهم داخل أرضهم، بينما تصبح الأمور أكثر تعقيداً في ظروف الحرب، إذ تؤدي إلى شعور بعدم الأمان أو العجز في حال تركوا أرضهم ونزحوا إلى أماكن آمنة، وهذا ما يسبب لهم شعوراً بانعدام الأمان.
-الشعور بالكبر والعمر: "لم يبق من العمر أكثر مما مضى"، هي عبارة يكررها المسنون غالباً ونسمعها مراراً على ألسنتهم، وفق هاشم "الأرض هي مكان الذكريات القديمة التي تمثل هوية الإنسان، وفي بعض الأحيان تكون بمثابة ولد للمسن. فمن الناحية النفسية يمكن أن تلعب الأرض في بعض الأحيان دوراً رمزياً مشابهاً لدور الطفل، بخاصة بالنسبة إلى كبار السن الذين يرتبطون بها بصورة عميقة. قد تكون بالنسبة إليهم مصدر العناية والرعاية، وكما يهتم الآباء بأطفالهم يرى كبار السن أنفسهم في بعض الأحيان راعين للأرض، يخصصون لها كل الوقت والجهد والحب للحفاظ عليها، ويعتنون بها كما لو كانت طفلاً لهم. فالأرض مثل الطفل تحتاج إلى اهتمام مستمر، ويمكن لهذا الدور أن يوفر شعوراً آمناً بوجود هدف في الحياة، فتؤمن نوعاً من الإشباع النفسي".
العاطفة
-الارتباط بالإرث والمستقبل: بالنسبة إلى كثيرين، لا تمثل الأرض الماضي فحسب، إنما أيضاً المستقبل. بالنسبة إلى المسن، قد تكون عبارة عن شيء قيم ترثه الأجيال المقبلة، تماماً كما يأمل الآباء في ترك إرث لأطفالهم. يصبح الحفاظ على الأرض وحمايتها وسيلة لضمان استمرارية جزء منهم، وكأن ذلك يعكس رغبة في رؤية الطفل يكبر وينمو.
-الإشباع العاطفي: بالنسبة إلى كبار السن، بخاصة أولئك الذين قد يشعرون بألم بفقدان الأسرة أو يعانون الوحدة، يمكن أن توفر الأرض شعوراً بالراحة العاطفية والاتصال، كما تضيف هاشم "مثلما يمكن أن يجلب الطفل الفرح العاطفي والإشباع للوالدين، تقدم الأرض نوعاً من الراحة العاطفية والرفقة".
-مصدر الهوية والاستمرارية: كما أن الأطفال يمثلون استمراراً للإرث العائلي، تصبح الأرض رمزاً للاستمرارية بالنسبة إلى كبار السن. هي الهوية التي تربطهم بإرثهم وثقافتهم، مما يوفر الاستقرار نفسه الذي قد يوفره الطفل للوالدين من خلال الاستمرار في خط العائلة.
-الارتباط النفسي: قد يكون الارتباط العاطفي العميق بالأرض مشابهاً للعلاقة بين الوالدين والطفل وما لها من أثر نفسي.
وقد يكون الارتباط بالأرض عاملاً من عوامل المقاومة النفسية التي تساعد المسن في تحمل المعاناة والضغوط النفسية التي تصاحب الحروب، وهذا ما يفسر تعلقه الزائد بها في ظروف الحرب، كما في أي وقت آخر. وهذا ما يفسر تمسك مسنين بأرضهم ورفضهم التخلي عن منازلهم، حتى عندما تكون حياتهم بخطر بسبب القصف المتواصل، وعلى رغم الإنذارات بالإخلاء.