ملخص
تهديدات ترمب التجارية قد تدفع بريطانيا نحو تعزيز علاقتها بالاتحاد الأوروبي، الشريك الاقتصادي الأكبر لها.
ينظر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى العالم باعتباره لعبة ذات محصلة صفرية [أي يكسب فيها طرف ما خسره طرف آخر]، فهو يؤمن بأنه إذا كسب لا بد أن يكون طرف ما خسر. ويشكل هذا المنظور نهجه في التعامل مع التجارة العالمية، والدول الأخرى ولا سيما مع الصين، التي يرى أنها تستغل الولايات المتحدة. وللتصدي لهذا الأمر، فإنه يعتبر أن الحل يكون من خلال فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية، لكي تتضرر الصين وتكسب الولايات المتحدة.
هذه المعادلة نفسها تنسحب على الطريقة التي ينظر من خلالها إلى علاقته ببريطانيا وبقية دول أوروبا، إذ أكد ستيفن مور أحد مستشاري الرئيس الأميركي المنتخب هذا التوجه، عندما عبر عن موقف دونالد ترمب بقوله: "يتعين على بريطانيا أن تختار، إما أن تتحالف مع النموذج الاشتراكي الأوروبي، أو تتبنى نهج السوق الحرة الأميركي".
إذا ما اعتبرنا التصريح هذا بياناً أيديولوجياً، فإنه لا يعدو كونه تدخلاً في الشؤون السياسية لديمقراطية أخرى، ولا يقل سوءاً عن تطوع موظفي حزب "العمال" البريطاني للعمل في أوقات فراغهم لدعم حملة المرشحة "الديمقراطية" كامالا هاريس، لكن إذا صنفناه بياناً في السياسة التجارية، فهو وقاحة فاضحة وتتسم بالتضليل أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليس سراً أن دونالد ترمب ومستشاريه يساوون بين الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية و"الاشتراكية"، ويعتقدون أن على بريطانيا الابتعاد عنها. ومع ذلك فإن ادعاء ستيفن مور بأن الإدارة الأميركية المقبلة - التي عبر عنها بكلمة "نحن" - ستكون "أقل اهتماماً" بالتوصل إلى اتفاق تجارة حرة مع المملكة المتحدة بسبب "تحولها المتزايد نحو النموذج الأوروبي"، هو كلام مهين وخاطئ من الناحية الاقتصادية.
من المعروف بالنسبة إلينا جميعاً أن دونالد ترمب يميل إلى الإدلاء بتصريحات مثيرة للجدل وغير مقبولة، لكن إذا أردنا تجنب الاستقطاب المفرط، فقد نقر بأنه قد يكون على حق في بعض النقاط أحياناً. على سبيل المثال لا توفر ممارسات العمل في الصين فرصاً متكافئة لجميع مواطنيها، فالطريقة التي تتعامل بها حكومتها مع أقلية الإيغور [وهي مجموعة عرقية مسلمة في شينغيانغ، أصبحت محط جدل دولي بسبب تقارير عن انتهاكات لحقوق الإنسان في أوساطها من بكين]، وأهالي التبت [مجموعة عرقية في هضبة التبت تطالب بالحكم الذاتي أو الاستقلال، ووقف الضغوط الصينية على حرياتها الدينية والثقافية]، تطرح مخاوف أخلاقية، ناهيك بأن الإعانات التي تقدمها الحكومة الصينية لصناعات وشركات لديها، غالباً ما تكون غامضة.
مع ذلك فإن من غير المقبول على الإطلاق طرح فرض رسوم جمركية على بريطانيا، لمجرد اتخاذها قرارات سياسية لا تروق لأتباع ترمب.
ويبدو أن ما يلمح إليه مستشار الرئيس ترمب ستيفن مور هو الآتي: يتعين على المملكة المتحدة أن تقرر أين تقف بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في ظل تهديد ضمني بفرض رسوم جمركية أعلى على الصادرات البريطانية إلى الولايات المتحدة، إذا ما اتخذت لندن القرار "الخاطئ".
وإذا كان هذا هو ما يقترحه بالفعل كل من مور وترمب، فيتعين عليهما أن يدركا أيضاً أن بريطانيا ستميل حتماً نحو أوروبا في مثل هذا السيناريو. فالاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك اقتصادي لنا، بحيث يمثل ما نسبته 43 في المئة من تجارتنا الخارجية، في حين أن الولايات المتحدة لا تشكل سوى 18 في المئة فقط.
لحسن الحظ أن دونالد ترمب لا يقصد دائماً ما يقوله، ومن المرجح أن يأمل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ألا يكون ستيفن مور جاداً في ما يقوله أيضاً. إن خطاب ترمب المتعلق بالتجارة الخارجية هو معيب للغاية، فجوهر التجارة يكمن في أنها ليست لعبة محصلتها صفر، إنها عملية يحقق كلا الطرفين منفعة متبادلة منها. وغالباً ما تأتي الجهود التي يبذلها السياسيون، بهدف "حماية" ناخبيهم من تأثيرات التجارة الخارجية بنتائج عكسية.
لهذا السبب لم يلجأ دونالد ترمب إلى شن حرب تجارية شاملة خلال ولايته الرئاسية السابقة، ولم يقم ببناء جدار [على حدود المكسيك]، ولم يحظر دخول جميع المسلمين إلى الولايات المتحدة. وبالمثل لن يعين في نهاية المطاف روبرت إف. كينيدي المناهض للتطعيم بلقاحات "كوفيد"، وزيراً للصحة لأن "مجلس الشيوخ" الأميركي سيحول دون ذلك، لذا فإن ترشيح روبرت كينيدي ليس سوى لفتة رمزية من ترمب تجاهه، ومكافأة وهمية له على التخلي عن حملته الرئاسية، ودعوة مؤيديه إلى التصويت له.
لا شك في أن رئيس الوزراء البريطاني ستارمر سيجد أن التعامل مع ترمب غير مريح، ولهذا السبب قد يكون بيتر ماندلسون [شخصية سياسية مؤثرة داخل حزب "العمال" كان مفوضاً أوروبياً سابقاً للتجارة] خياراً جيداً لتولي دور سفير بريطانيا لدى واشنطن. ومن المرجح أن يسعى ترمب إلى إذلال ستارمر أكثر مما فعل مع رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي، لكن حتى بوريس جونسون وعلى رغم أوجه التشابه من حيث الإيديولوجيا أو الأسلوب لم يتمكن من إبرام صفقة تجارية معه.
انطلاقاً مما تقدم، يبدو أن التوصل إلى اتفاق بين لندن وواشنطن أصبح أكثر بعداً من أي وقت مضى، على رغم أن تحقيقه كان دائماً أمراً غير مرجح نظراً إلى العقبات التي تعترضه داخل الكونغرس الأميركي. إلا أن ما يهم في هذه المرحلة بصورة حاسمة، هو منع فرض رسوم جمركية شاملة، وهو ما سيكون كارثياً بالنسبة إلى كل من المملكة المتحدة وستارمر. لا شك في أن رئيس الوزراء البريطاني سيسعى إلى الموازنة في المصالح بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو محق في ذلك، لأن التجارة ليست لعبة ذات محصلة صفرية، إذ يمكننا تعزيز علاقاتنا مع كل من واشنطن وبروكسل في آن واحد.
في النهاية، أعتقد أن دونالد ترمب سيتأثر بالنظريات الاقتصادية التقليدية التي تشير إلى أن الرسوم الجمركية تؤدي إلى الدفع بالأسعار في الأسواق المحلية إلى الارتفاع، ونظراً إلى الأهمية التي اكتسبتها مشكلة التضخم في إعادة انتخابه، فيتعين على ترمب أن يتوخى الحذر لجهة عدم إذكاء هذه النار. ولنأمل أن يظل حديثه، مرة أخرى، مجرد كلام لا يترجم إلى أفعال.
© The Independent