بعد مؤتمر تأسيسي أول عقد في تونس قبل نحو أربعة أشهر، أطلق "ملتقى الأدب الوجيز" مؤتمره التأسيسي الثاني في بيروت، برعاية "وزارة الثقافة" اللبنانية، وبالشراكة مع "كلية الآداب والعلوم الإنسانية" في الجامعة اللبنانية، في سعي إلى منح الملتقى بعداً أكاديمياً يكون أشبه بـ"درع" يحتاج إليها إذا تعرض لحملات نقدية، خصوصاً أن "الأدب الوجيز" لا يملك شرعة أدبية راسخة ولا معايير أو مقاييس علمية يقوم عليها. ولعل ما يثير الاستغراب هو لجوء الملتقى الذي أسسه ويرأسه في لبنان الكاتب أمين الذيب، إلى جهات رسمية كي تكون داعماً له مثل وزارة الثقافة والسفارة التونسية، وكأنه مشروع إنمائي أو سياحي أو اجتماعي، يعني شريحة كبيرة من الناس، فيما هو مجرد ملتقى شاءت أن تطلقه جماعة من الشباب يحتاجون إلى المزيد من الثقافة والمراس والخبرة. وكانت مشاركة الشاعر الكبير أدونيس في المؤتمر مفاجئة جداً وكذلك الكلمة التي ألقاها ونمّت عن موقف نقدي عميق وعن رؤية إشكالية إلى ما يكتب اليوم من شعر ونثر. ويبدو أن أدونيس قبل الدعوة نزولاً عند إلحاح الداعين وخجلاً من إصرارهم، ولم يكن على بينة تامة مما سيضم المؤتمر. (راجع كلمته التي خصنا بها في هذا المقال). ومن يرجع إلى الكلمة التي ألقاها الذيب، وكانت بمثابة "البيان" التأسيسي، يدرك أن مقولة "الأدب الوجيز" كما يفهمها الملتقى لا تخلو من غموض والتباس ومن تخبط عشوائي في التعيين المفهومي لهذا الأدب الذي لا يوجد كأدب مستقل بذاته، بمقدار ما هو وصف جزئي لأنواع أدبية تجلت فيها صفة "الوجازة".
ويمضي الذيب في تأطير هذا الأدب الذي يكمن دوره في "تعزيز التفاعل الحضاري"، ويصفه بأنه "نوع جديد من الأدب له أسسه وركائزه الراسخة". ويرى أن هذا الأدب "حركة تجاوزيّة جديدة، تنظر إلى المستقبل المحفوف بالالتباس، بعينٍ رأت الماء الرّاكد، فاستحضرت حجرها لترميه في بركة الواقع الرّاهن، بمنطلقاتٍ فكريّةٍ تنظيريّةٍ تؤسّس لواقعٍ تعبيريّ". قد يكون مثل هذا الكلام الذي ورد في البيان التأسيسي، عفوياً، جميلاً في عفويته، لا سيما أن غايته إحداث خطوة جديدة في عالم الأدب، لكنه يحتاج حتماً إلى الكثير من المراجعة والتدقيق في المصطلح نفسه أولاً، ثم في تاريخية ما يسمى "الوجيز" في الكتابة ولن أقول الأدب، خصوصاً أن "الأشكال الوجيزة" قديمة قدم الأدب نفسه. ولو عدنا أولاً إلى الموسوعات والمعاجم النقدية والأدبية لما وجدنا البتة مصطلحاً يدعى "الأدب الوجيز" أو "الأدب المقتضب"، لكننا نجد حتماً هذا الوصف وأقصد "الوجيز"، ولكن في سياق واسع ومتعدد الوجهات. وقد ارتبطت هذه الصفة أكثر ما ارتبطت بـ"الأشكال" أو "الأساليب" التي تتسم بها عادة.
وليت الذيب يعود إلى كتاب رئيس في هذا الحقل هو "الأشكال الوجيزة" للناقد الفرنسي ألان مونتادون، وهو كتاب أكاديمي صادر عن دار "هاشيت سوبيريور" في باريس (1992) ويستحق فعلاً أن يترجم إلى العربية، ناهيك عن دراسات أخرى لا سبيل إلى ذكرها هنا. ولا بد من الإشارة إلى أن مؤتمراً مهماً بالفرنسية عقد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة صفاقس التونسية بعنوان "الوجازة" (أو الاقتضاب) عام 2017 تطرق المشاركون الأكاديميون فيه إلى "الأشكال الوجيزة" قديماً وحديثاً. وليت أعضاء المنتدى في تونس يعودون إلى الأوراق التي قدمت فيه، فهي غنية ومتعددة المشارب الأدبية. وفي إحدى خلاصات كتابه يقول الناقد مونتادون إن "الأشكال الوجيزة لا تخص نوعاً أدبياً من دون آخر، بل هي تعني كل الأنواع الأدبية تقريباً"، ويقصد الرواية والشعر والمسرح والمثل والشذرة والتأمل والمذكرات... وفي دراسته يتطرق الناقد الفرنسي إلى التعدد الكبير في "الأشكال الوجيزة"، لا سيما في الكتابة الشذرية التي تكتسب في اللغة والأدب الفرنسيين مظاهر كثيرة وتندرج تحت مسميات عدة لا يمكن ترجمتها كلها إلى العربية. في العربية لدينا: المثل والحكمة والشذرة والمقطع... وقد ركز العرب قديماً على مقولة "المثل" التي تختصر كل مظاهر "الشذرة"، وقام أبو الفضل الميداني بجمع جمهرة كبيرة من الأمثال العربية القديمة في كتاب من أربعة أجزاء هو "مجمع الأمثال" (دار الجيل)، ويُعد هذا الكتاب موسوعة تضم كنزاً من الأمثال العربية الفريدة، الموزعة بين ميادين عدة، دينية وأخلاقية وأدبية وشعرية... وأنقل عن السجستاني في "صيوان الحكمة" تعريفاً بديعاً للمثل البليغ يختصر كل عناصره: "أما بلاغة المثل فأن يكون اللفظ مقتضباً والحرف محتملاً والصورة محفوظة والمرمى لطيفاً والبلوغ كافياً والإشارة مغنية والعبارة سائرة".
وعودةً إلى "الشذرة" في مفهومها الفرنسي فإن لها مترادفات عدة تختلف بعضها عن بعض، على خلاف العربية التي ركزت على "المثل"، ففي الفرنسية هناك: المثل (بروفرب)، الحكمة (ماكسيم)، المثل (سانتانس)، الشذرة (أفوريسم)، الشذرة (فراغمان)، وسواها... كل هذه المترادفات سواء بالعربية أم بالفرنسية (والإنجليزية أيضاً) تمثل جوهر الكتابة الوجيزة أو خلاصة "الأشكال" الوجيزة التي وجدت منذ قرون بعيدة، في الأدب والفلسفة اليونانية والرومانية (هيراقليط، زينون، سينيك، كاتول ...)، وأوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن روادها: لاروشوفكو، بومارشيه، باسكال، نوفاليس، نيتشه، بودلير، مالارميه وسواهم، والقرن العشرين: سيوارن، موريس بلانشو، بول فاليري، رينيه شار، مالكوم دوشازال وسواهم. ويجب عدم نسيان الأدب والفلسفة في آسيا: بودا، كونفوشيوس، لاوتسو، عطفاً على الشعر الصيني الوجيز والهايكو وقصائد باشو... وأصلاً لا تحصى الأعمال التي اعتمدت "الأشكال الوجيزة" في كافة آداب الشعوب، نثراً وشعراً، وتكفي قصيدة الهايكو التي غزت أقطار العالم وجذبت آلاف الشعراء. وفي أدبنا العربي من الشعراء والناثرين من اعتمدوا هذه الأشكال وهم لا يحصون: جبران، ميخائيل نعيمة، أمين نخلة، أدونيس، أنسي الحاج (خواتم)، شوقي أبي شقرا، راجي الراعي، بول شاوول، هاشم شفيق...
موقف أدونيس النقدي
بدا الشاعر أدونيس مصيباً جداً في كلمته التي ألقاها في المؤتمر، وهي كلمة مرجعية تصف بعضاً من أحوال الشعر العربي الراهن. وهنا نص الكلمة: "لا يحتاج الأستاذ أمين الدّيب صاحب هذه المبادرة التي تجمعنا الآن إلى المدْح، فهو يقوم بها كما أظنّ، تحقيقاً لنوعٍ من الواجب الثقافي. ليس من الثقافة إذاً أن نسارع أو يسارعَ بعضنا إلى رفض هذه المبادرة، أو التشكيك فيها أو هجوها.هكذا ينبغي على المعنيين بالكتابة، شعراً ونثراً، أن يساندوا هذه المبادرة، خصوصاً أنّها تجيء في مرحلةٍ زمنيّةٍ مُرْهَقَةٍ ومُرْهِقَةٍ، عدا أنّها تحاول العبور إلى المستقبل على جسورٍ واهنةٍ جدّاً، وملتبسةٍ جدّاً.
لكنْ لا بُدَّ من أن تكون هذه المساندة مشروطةً بأمرين: الأول هو الوعي بأنّ الكتابة الأدبيّة، نثراً وشعراً، لا تأخذ قيمتها من الإيجاز لذاته وبحدّ ذاته، أو من الإطالة لذاتها وبحدّ ذاتها، وإنّما تأخذ قيمتها من فرادتِها الإبداعية، ومن طاقاتِها المتنوّعة في الكشف والمعرفة، ومن جماليّة هذا كلّه. هناك إيجازٌ فارغ مبتذل، كما أن هناك إطالةً فانيةً مُبتذَلة.ومن غير الجائزِ، على نَحْوٍ أخصّ، أن يتكرّر ما وقعت فيه ما سمّيناه اصطلاحاً بقصيدة النّثر. فقد وصلت في مستواها الكتابيّ إلى درجةٍ امْتُهِنَتْ فيها الكلمات حَتّى لو أَنّها تقدرُ على الغضب والسُّخط، لكانت تصرخ في وجوهنا جميعاً: اتركوني وشأني.
أمّا الأمر الثاني فيرتبط جذرياً بالأوّل، وهو الكتابة في أفقٍ يُخرِج الأدب، شعراً ونثراً من العالم الخيطيّ، الخَطّي، ذي البُعْدِ الواحد، إلى عالَمٍ مركّبٍ، متعدّد الأبعاد. آملُ إذاً أن تكون الدّعوة إلى "الأدب الوجيز" تعني الدّعوة إلى إبداع ينهض على رؤية خَلاّقةٍ، بَصراً وبصيرةً، عمقاً وعلوّاً، إضافةً إلى الجهات الأربع في جغرافية المعرفة، بحيث تنشأ أشكال جديدة من طرق التّعبير، وتنشأ علاقاتٌ جديدةٌ بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمة والشيء، وبين الإنسان والعالم.نشأ الأدب الوجيز، حركة تجاوزيّة جديدة، تنظر إلى المستقبل المحفوف بالالتباس، بعينٍ رأت الماء الرّاكد، فاستحضرت حجرها لترميه في بركة الواقع الرّاهن، بمنطلقاتٍ فكريّةٍ تنظيريّةٍ تؤسّس لواقعٍ تعبيريّ".
ازمة الاشكال الوجيزة
ينطلق "ملتقى الأدب الوجيز" في مرحلة يعاني فيها الأدب القائم على الأشكال الوجيزة، شعراً ونثراً، أزمة واضحة المعالم، في الأدب العالمي والأدب العربي. ويشير الناقد الفرنسي مونتاندون إلى هذه الأزمة مركزاً على أن بعض الكتّاب يجدون نفسهم غير قادرين أو عاجزين عن الكتابة في مفهومها الشائع، فيلجأون إلى هذه الأشكال الوجيزة التي يجدون فيها مهرباً من أزمتهم وحلاً منشوداً. ونتاج هؤلاء ينعكس سلباً على هذه الكتابة الوجيزة التي تصبح معهم على مقدار من الخفة والركاكة والنقصان... وقد تكون الكتابة الوجيزة- برأيي الشخصي- أصعب من الكتابة المتعارف عليها، فالإيجاز فن يفترض الكثير من الحذاقة والرهافة والدُربة. هذا فن الاختصار، فن قول الكثير عبر قول القليل. فالشذرة كما يقول الكاتب الفرنسي الكبير موريس بلانشو "تدمر لامرئياً الظاهر والعمق، الواقع والممكن، الفوق والتحت، الجلي والخفي". وهي كما يعبر الناقد رولان بارت "ديمومة صغيرة ممتلئة تماماً". ويقول بول فاليري في هذا الصدد: "بين كلمتين، يجب انتقاء الأقل". وإذا عدنا اليوم إلى قصيدة الهايكو الحديثة التي تُكتب في العالم وفي اليابان، نجد أنها وقعت في شرك الاستسهال والخفة، علماً أنها غاية في الصعوبة والإحكام. وقد خرج شعراء هايكو يابانيون أخيراً، عن تقاليد الهايكو الراسخة فكتبوا ما سموه "الهايكو خارج الفصول"، مواجهين الأزمة التي لم ينجوا منها.
وتتبدى الأزمة أيضاً في ما يسمى القصة القصيرة جداً (وهي من "الأشكال الوجيزة") التي وقعت في النمطية، فيما هي تحتاج إلى قدرة فنية عالية. فالإيجاز هنا في السرد أو في بناء اللقطة، يتطلب براعة لغوية شديدة. حتى القصة القصيرة جداً ليست جديدة أو حديثة على غرار "الأدب الوجيز" كما يفهمه أمين الذيب وجماعة الملتقى، فالكاتب فينيون من القرن كتب ما سماه حينذاك "قصصاً بثلاثة أسطر".
ليس كل أدب اعتمد الإيجاز أو الاقتضاب وارتكز إلى "الأشكال الوجيزة" هو أدب مهم وجديد، فالوجازة ليست شرطاً من شروط الكتابة بل هي شكل من أشكالها أياً تكن هذه الكتابة، شعراً أو رواية أو قصة أو مذكرات أو تأملات، والأدب لا يقاس بوجازته أو بقصرة أو إطالته، بل بإبداعه وفرادته وعمقه.