فيما قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قبل أيام، إن بعض الأسلحة التي يقدمها الغرب لأوكرانيا وجدت طريقها إلى السوق السوداء وتنتشر الآن في الشرق الأوسط، تنفي أوكرانيا هذه الأنباء، وتعتبرها دعاية روسية تستهدف تشويه سمعة القيادة الأوكرانية، في حين يحذر رئيس الإنتربول من وصول الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا في النهاية إلى أيدي المجرمين، ولا يخفي بعض المراقبين في الغرب قلقهم من إمكانية تسرب بعض الأسلحة الغربية والروسية أيضاً إلى منظمات متطرفة أو غير نظامية حول العالم، فما حقيقة هذا الأمر، وما السبب وراء المخاوف المتزايدة؟ وإلى أي مدى يشكل وصول الأسلحة إلى السوق السوداء خطراً على العالم؟
اتهامات متكررة
دأبت روسيا منذ أسابيع عدة على التحذير من تسرب بعض المعدات العسكرية التي سلّمتها دول غربية لأوكرانيا إلى السوق السوداء، بل إن وزير الدفاع الروسي شويغو قال قبل نحو أسبوع في كلمة متلفزة، إن بعض الأسلحة التي تم تسليمها إلى كييف تنتشر في الشرق الأوسط، وانتهى بها الأمر في السوق السوداء، كما لفت وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قبل أسابيع إلى أن صواريخ "ستينغر" وصواريخ "جافلين" أميركية الصنع التي سلمتها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا توجد الآن في السوق السوداء، وظهرت كميات من تلك الأسلحة في ألبانيا وكوسوفو، غير أن كلا المسؤولين لم يقدما دليلاً ملموساً على تأكيداتهما.
في المقابل، تقول المواقع الرسمية الأوكرانية، إن الاتهامات الروسية ليست إلا دعاية تستهدف تشويه سمعة القيادة الأوكرانية من خلال نشر مزاعم كاذبة بأن أوكرانيا تبيع تكنولوجيا دفاعية غربية، وأن مركز مكافحة المعلومات المضللة في مجلس الأمن والدفاع القومي الأوكراني، رصد هذه المعلومات على تطبيق "تلغرام" التابع لروسيا، بخاصة بعد فشل محاولات روسيا في تعطيل وصول مزيد من إمدادات الأسلحة الغربية عبر قصف السكك الحديدية في أوكرانيا.
حقيقة أم خداع؟
وبينما يثير تسليم الدول الغربية مزيداً من شحنات الدبابات وقطع المدفعية وغيرها من الصواريخ والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا غضب روسيا، نظراً لأن ذلك من شأنه أن يطيل أمد النزاع، تنتشر معلومات غير مؤكدة عن بيع بعض الأسلحة الغربية التي تصل إلى أوكرانيا. ونشر موقع "مودرن دبلوماسي" الأوروبي، أن محامياً فرنسياً يدعى ريجيس دي كاستيلناو قال على حسابه الرسمي على "تويتر" في 20 يونيو (حزيران) الماضي، إن الروس تمكنوا من اقتناء مدفعي "هاوتزر" من طراز "قيصر"، فرنسيي الصنع سليمين، وإن مصادر فرنسية مجهولة، ادعت في ما بعد أن هذه المدافع باعها الأوكرانيون عبر وسيط إلى الروس، والسعر الذي تم التفاوض عليه بلغ 120 ألف دولار للمدفع الواحد، بينما سعر المدفع الرسمي قد يصل إلى 7 ملايين دولار.
وتنتشر معلومات أخرى على شبكة الإنترنت المظلمة "دارك ويب" عن بيع أسلحة غربية من أوكرانيا، فعلى سبيل المثال، ردد موقع عسكري بلغاري أنباء نشرت على تطبيقات مثل "تلغرام" عن بيع نظام صاروخي موجه مضاد للدبابات من طراز "جافلين" على "الويب المظلم" مقابل 30 ألف دولار، وأنه بينما كان البائع غير واضح، إلا أن المعلومات على "الويب المظلم" الذي يستخدم عادةً في عمليات البيع غير القانونية، تشير إلى أن مكان شحن الصاروخ هو كييف، عاصمة أوكرانيا.
غير أن مختبر دراسة المعلومات المضللة التابع للمجلس الأطلسي في واشنطن كشف عن رسالة قال إنها مزورة، تزعم أن أوكرانيا تبيع أسلحة غربية فائضة إلى دول أفريقية، وأن تطبيق "تلغرام" الموالي للكرملين، يعمل على ترويج قصص حول بيع أوكرانيا الأسلحة التي يقدمها الحلفاء الغربيون، وأنه خلال الأسابيع القليلة الماضية نشرت قناة تابعة لـ"تلغرام"، لقطة لشاشة من موقع "ويب مظلم" يُفترض أنه كان يبيع صاروخ "جافلين"، في كييف، إلا أن هذا الإعلان لا يؤكد أصل السلاح، كما أنه لا يوجد ما يشير إلى من يقف وراء الموقع، لذلك، هناك احتمال أن يكون الأمر كله مزيفاً، بخاصة أن القناة اختارت ذكر سعر "جافلين"، وحذرت من أن السلاح سينتهي في أيدي الإرهابيين من جميع أنحاء العالم، وبعد أيام عدة، نشرت القناة نفسها عنواناً من مقال في صحيفة "تورنتو ستار" الكندية لدعم مزاعمها بأن أوكرانيا تبيع الأسلحة الغربية، لكن الحقيقة هي أن المقال يذكر فقط أن أوكرانيا تعاني نقصاً في الذخيرة، وأن أي حالات إساءة استخدام للمساعدات الإنسانية أو العسكرية يعاقب عليها بالسجن.
تاريخ مثير للشكوك
ومع ذلك، فإن تاريخ أوكرانيا لا يوحي بالتفاؤل، إذ يعود تاريخ أوكرانيا كمركز لتهريب الأسلحة إلى تفكك الاتحاد السوفياتي، إذ ترك الجيش السوفياتي وراءه كميات كبيرة من الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة في أوكرانيا، من دون الاحتفاظ بالسجلات الكافية ومراقبة مخزوناته من السلاح، ووفقاً لمنظمة مسح ودراسة الأسلحة الصغيرة، وهي منظمة بحثية مقرها جنيف، فإن جزءاً من مخزون الأسلحة الصغيرة للجيش الأوكراني الذي بلغ عام 1992 نحو 7.1 مليون قطعة، وصل إلى مناطق النزاع حول العالم، ما يؤكد خطر تسرب الأسلحة إلى السوق السوداء المحلية.
وتفاقمت المشكلة بعد استحواذ روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، حيث شهد النزاع نهب المقاتلين الأسلحة ومرافق تخزين الذخيرة التابعة لوزارات الأمن والداخلية والدفاع في أوكرانيا، ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة مسح ودراسة الأسلحة الصغيرة عام 2017، فقد تمكن المقاتلون غير النظاميين من الجانبين تدريجياً من الوصول إلى مجموعة واسعة من المعدات العسكرية، بما في ذلك مجموعة كاملة من الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة، ونهبت أو فقدت الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة بين عامي 2013 و2015، ما وفّر ثروة جاهزة للسوق السوداء في أوكرانيا التي تديرها مجموعات على غرار المافيا في منطقة دونباس وشبكات إجرامية أخرى بحسب ما أشارت صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير لها، أوضحت فيه أن سوق الأسلحة غير المشروعة في أوكرانيا تضخم منذ عام 2014، مدعومة بفائض من الأسلحة غير المسجلة والقيود المحدودة على استخدامها.
تتبع ضعيف للأسلحة
وعلى الرغم من أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية يؤكد أن الولايات المتحدة أجرت فحصاً شاملاً للوحدات الأوكرانية التي تزودها بالسلاح، وأنها أجبرت كييف على توقيع اتفاقيات لا تسمح بإعادة نقل المعدات إلى أطراف ثالثة من دون إذن مسبق من الحكومة الأميركية، فإن وسائل إنفاذ مثل هذه العقود ضعيفة نسبياً، بل، وزاد ضعفها بسبب التاريخ المختلط لواشنطن في الالتزام بها، ومن غير الواضح قدرة واشنطن على تتبع الأسلحة عند دخولها أحد أكبر مراكز التهريب في أوروبا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويأتي هذا الواقع غير المريح للولايات المتحدة وحلفائها وسط نداءات لا تتوقف من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لتوفير الأسلحة الثقيلة اللازمة لمواجهة القوات الروسية في شرق البلاد وجنوبها، لكن التدفق غير المسبوق للأسلحة أثار مخاوف من وقوع بعض المعدات في أيدي خصوم الغرب أو الظهور مرة أخرى في صراعات بعيدة لعقود مقبلة بحسب ما تشير راشيل ستول، خبيرة الحد من التسلح ونائبة رئيس مركز "ستيمسون"، التي تؤكد أنه من المستحيل تتبع أين تذهب هذه الأسلحة ومن يستخدمها، بل وكيف يتم استخدامها.
تحديات وغموض
وفي حين تدرك الإدارة الأميركية جيداً التحديات التي تواجهها في ما يتعلق بانتشار الأسلحة، فإنها كانت غامضة في وصف الاحتياطات التي تتخذها، فبعد أسابيع من الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير (شباط)، اجتمعت مجموعة من المسؤولين بين الوكالات الفيدرالية في إدارة جو بايدن مع خبراء مختصين في الحد من التسلح لمناقشة خطر انتشار الأسلحة الصغيرة في الصراع، قدم خلالها المسؤولون الأميركيون تأكيدات في شأن فحص قوات الأمن الأوكرانية، لكن تفاصيل ضئيلة حول كيفية إجراء التدقيق أو المراقبة تم الكشف عنها وفقاً لخبراء الحد من الأسلحة الذين حضروا الاجتماع، ما يوحي بقليل من الثقة في إجراءات التتبع والمراقبة.
ويشعر خبراء الأسلحة بأن هناك معلومات كثيرة غامضة على الرغم من أن بعض التوصيات تتضمن إنشاء محقق خاص كما فعلت الحكومة الأميركية في أفغانستان، للتأكد من أن أي عمليات نقل للأسلحة سوف تشمل إجراءات تتبع قوية، وإضافة التزامات حقوق الإنسان في شروط البيع، وإدراج تفاصيل حول الوحدات التي يمكن السماح لها بتلقي الأسلحة مثلما منع الكونغرس عام 2018، كتيبة "آزوف" الأوكرانية، وهي جماعة قومية يمينية متطرفة مرتبطة بالنازية الجديدة، من تلقي الأسلحة الأميركية.
مخاوف الطرف الآخر
وعلاوة على المخاوف القائمة في الجانب الغربي، تصاعدت مخاوف إضافية بين مجموعات المراقبة في شأن انتشار الأسلحة الناجم عن الطرف الروسي بسبب تقارير عن أنها جندت مرتزقة من ليبيا وسوريا والشيشان، إضافةً إلى مجموعة "فاغنر" الروسية بخاصة بعد اجتماع متلفز لمجلس الأمن الروسي في مارس (آذار) الماضي، قال فيه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، إن 16 ألف متطوع في الشرق الأوسط على استعداد للقتال إلى جانب القوات المدعومة من روسيا في شرق أوكرانيا، وفي الاجتماع نفسه، اقترح شويغو تسليم صواريخ "جافلين" و"ستينغر" الأميركية التي استولى عليها الروس، إلى الانفصاليين الموالين لروسيا في منطقة دونباس، ومع ذلك، هناك تقارير متضاربة حول وجود مقاتلين أجانب في دونباس، ومن غير الواضح على وجه التحديد عدد الذين سافروا بالفعل إلى أوكرانيا.
ويؤدي إدخال المقاتلين الأجانب، إلى أخطار تتمثل في عدم عودة الأسلحة إلى بلدانها الأصلية عند انتهاء القتال في أوكرانيا، حيث يستبعد جيف أبرامسون، الخبير في رابطة الحد من الأسلحة أن يتم العثور على بعض الأسلحة التي تم توفيرها في الصراع داخل أوكرانيا لسنوات عدة، وربما لعقود أخرى مقبلة.
ولا تعد صواريخ "ستينغر" المحمولة على الكتف، القادرة على إسقاط الطائرات التجارية، سوى واحد من أنظمة الأسلحة التي يخشى الخبراء أن تصل إلى أيادي الجماعات الإرهابية التي تسعى إلى تنفيذ أحداث تؤدي إلى قتلى وإصابات جماعية.
تحذير "الإنتربول"
لم تقتصر التحذيرات على الخبراء، بل امتدت إلى منظمة الشرطة الدولية (الإنتربول)، إذ حذر رئيسها يورغن ستوك، من وصول الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا إلى أيدي المجرمين، ولهذا، حثّ الدول الأعضاء على التعاون في تعقب الأسلحة النارية الصغيرة والأسلحة الثقيلة التي يمكن أن تنتشر عبر الاقتصاد الخفي عند انتهاء الحرب، مشيراً إلى أن الجماعات الإجرامية تحرص على استغلال هذه الفوضى لتهريب الأسلحة، ليس فقط إلى البلدان المجاورة، ولكن إلى القارات الأخرى.
وكانت أوكرانيا قد تلقت في عام 2022 كميات من الأسلحة تزيد على إجمالي ما قدمته الولايات المتحدة لأفغانستان أو العراق أو إسرائيل في عام واحد، وحوّلت دول أخرى في "الناتو" أسلحة ومعدات عسكرية بمليارات الدولارات منذ بدء الأعمال الحربية.
وبحسب وليام هارتونغ، خبير الحد من التسلح في معهد "كوينسي" للأبحاث، فإن المساعدات الأميركية لأوكرانيا، تتجاوز ذروة المساعدة العسكرية الأميركية لقوات الأمن الأفغانية خلال الحرب التي استمرت 20 عاماً، وبينما كان للولايات المتحدة وجود كبير في البلاد، خلق على الأقل إمكانية تتبع الأسلحة، إلا أن حكومة الولايات المتحدة تتجاهل ما يتعلق بمراقبة الأسلحة للميليشيات المدنية والجيش في أوكرانيا.