توقع البنك الدولي ارتفاع نسبة الفقر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حال استمر التضخم على النسق الراهن. وكشف عن أن معدل الفقر سيزداد بمقدار 2.2 نقطة مئوية في تونس تأثراً بأسعار السوق العالمية في الفترة المقبلة من 2022 إذا تواصلت بالوتيرة نفسها التي كانت عليها في النصف الأول من العام، مما سيؤدي إلى تفاقم التفاوت وعدم المساواة.
ومن المنتظر ارتفاع مؤشر "جيني" (وهو وحدة قياس الانحراف في توزيع الدخل بين الأفراد أو الأسر المعيشية داخل البلد انطلاقاً من توزيع متساو للثروة) من 32.82 إلى 32.9، وفق البنك. واعتبر خبراء تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" أن تنامي الفقر نتيجة حتمية لارتفاع مستويات التضخم في تونس، مع تراجع مخيف للادخار لدى العائلات، وارتفاع نسبة البطالة إلى 16.1 في المئة، مؤكدين أن تدخل الحكومة بطريقة مباشرة للحد من ارتفاع الأسعار وإيجاد حلول عاجلة أضحى ضرورياً بسبب تجاوز الفقر طبقة محدودة من التونسيين ليهدد كامل الطبقة المتوسطة المتآكلة أصلاً في السنوات الأخيرة.
الغذاء والحرب
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن زيادة أسعار المواد الجاهزة والأولية على حد سواء في السوق العالمية أدت إلى ارتفاع معدل الفقر في تونس بـ1.1 نقطة مئوية، ويتم التخفيف من أثر هذه الزيادة على العائلات بواسطة دعم المواد الغذائية ومنتجات الطاقة، في محاولة لاحتواء تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا على الاقتصاد التونسي، ومن بينها تفاقم الضغوط التضخمية القائمة بسبب الأزمة، إذ تأثرت واردات المواد الغذائية الأساسية وتسببت في زيادات في الأسعار، لا سيما أسعار المواد الغذائية، باعتبار أن أوكرانيا وروسيا توفران الحبوب والزيوت والأسمدة اللازمة للإنتاج الزراعي.
منظمة الأغذية والزراعة "فاو"، كشفت عن أن قرابة 50 بلداً تعتمد على أوكرانيا وروسيا في الحصول على 30 في المئة على الأقل من وارداتها من القمح، من بينها تونس ومصر وليبيا وجيبوتي واليمن ولبنان. وتبلغ حصة المواد الغذائية من الميزانية التي وضعتها الحكومة التونسية لسنة 2022 زهاء 26 في المئة. وعلاوة على آثار غير مباشرة على الاستهلاك جراء زيادة أسعار السلع أو المواد الأولية مثل منتجات الطاقة والوقود الذي يستخدم في توفير المواد التي تستهلكها الأسر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان البنك الدولي توقع في أبريل (نيسان) 2022 أن يتصاعد معدل الفقر بـ3.4 في المئة خلال 2022، و3.1 في المئة خلال 2023 باستخدام خط الفقر (3.2 دولار في اليوم) الذي يعادل القوة الشرائية لسنة 2011. ومن المتوقع أن تنخفض نسبة الفقراء والضعفاء عند خط (5.5 دولار في اليوم) من 18.9 في المئة عام 2022 إلى 17.7 في المئة خلال 2023. مع استبعاد العودة لمستويات ما قبل الأزمة حتى حدود 2024.
وبلغت نسبة التضخم في يونيو (حزيران) الماضي 8.1 في المئة بعد تسجيل نسبة 7.8 في المئة خلال مايو (أيار)، و7.5 في المئة خلال أبريل، و7.2 في المئة خلال مارس (آذار) 2022، وفق المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، ويعود تفاقم التضخم إلى زيادة أسعار الأغذية من 8.2 في المئة خلال مايو إلى 9.5 في المئة خلال يونيو 2022.
اتساع الفقر
وأدت جائحة كورونا إلى سقوط أكثر من 600 ألف تونسي تحت خط الفقر وفق البنك الدولي، وتسببت في ارتفاع نسبة الظاهرة إلى 21 في المئة من مجموع سكان تونس عام 2021 مقابل 15.5 في المئة قبل الجائحة. وزادت نسب الفقر بشكل رئيس في المناطق غير الساحلية وتحديداً بوسط البلاد وشمالها.
وانتقد البنك في وقت سابق استراتيجية البلاد في محاربة مختلف أوجه الفقر ووصفها بغير الواضحة وأنها تتسم بالضبابية فضلاً عن تشتتها. مستنكراً اعتمادها على المساعدة المالية الظرفية وعدم استهدافها أسباب الظاهرة الحقيقية، حيث يرزح مليونان و500 ألف تونسي تحت خط الفقر.
وأدت أزمة كورونا إلى ارتفاع مستويات العوز الذي طال ما بين 28 و30 في المئة من الأسر التونسية وفق وزارة الشؤون الاجتماعية بسبب تراجع المداخيل وارتفاع نسبة البطالة، مما دفع بالدولة إلى التدخل للتخفيف من وطأة المعاناة عبر توفير مساعدات مالية، كما تم تخصيص اعتمادات بقيمة 700 مليون دينار (233.3 مليون دولار) في ميزانية 2021 لتوفير مساعدات اجتماعية ظرفية للأسر الفقيرة، ويبلغ عددها 800 ألف أسرة تم تحديدها من قبل الوزارة، بينها 285 ألفاً تتحصل على تحويلات شهرية ثابتة ما بين 180 ديناراً (60 دولاراً) و240 ديناراً (80 دولاراً) شهرياً، في حين تمتعت بقية الأسر، وتفوق الـ500 ألف، بمساعدات ظرفية وعلاج مجاني.
العجز عن الاقتراض
وأرجع لطفي الرياحي رئيس منظمة "إرشاد المستهلك" (مستقلة) الزيادة في عدد الأسر الفقيرة في تونس إلى عدم سيطرة السلطة على الأسعار، إذ يرتع الوسطاء بالسوق ويتسببون في ارتفاع أسعار جميع السلع من دون استثناء، وبخاصة المواد الغذائية ومواد التنظيف، إضافة إلى الخدمات وأهمها النقل الذي يعكس ارتفاع أسعار المواد الطاقية في العالم، والذي أثر كذلك على تكلفة الكهرباء، ما أدى إلى تقشف الأسر التونسية في فترة سابقة إلى حد العجز على مواصلة التقشف حالياً بفعل تدني المقدرة الشرائية ومستويات المعيشة المتدهورة، وأضاف، أن غلاء الخدمات البنكية التي تسجل ارتفاعاً بنسبة 11 في المئة سنوياً زاد من معاناة العائلات التونسية التي تعجز عن اللجوء لقروض الاستهلاك لمواجهة الأسعار الملتهبة بسبب تراجع الادخار وارتفاع أسعار الفائدة. ونتج عن هذه التطورات تآكل الطبقة المتوسطة التي التحق الفقر بجزء كبير منها، وقال الرياحي، إن مناطق الشمال الغربي والوسط الغربي لتونس تشهد تنامياً للخصاصة بصفة أكبر من بقية المناطق. ودعا الحكومة لوضع استراتيجية للسيطرة على الأسعار بتشجيع الاقتصاد التضامني وتقليص الوسطاء بالسوق وتكريس التنافسية لتخفيض الأسعار والنأي بالسوق عن اللوبيات التي ارتهنت بطون التونسيين وأفقرتهم.
أما المتخصص في الشأن الاقتصادي وسيم بن حسين، فاعتبر أن المؤشرات الحالية للفقر نتيجة بديهية لتداعيات الحرب الأوكرانية لكنها لا تزال أولية وفق تقديره، إذ من المنتظر تسجيل انعكاسات مباشرة على الاقتصاد التونسي ومنحى الأسعار والتضخم في السنة المقبلة حال تواصل الحرب، وقال بن حسين، "لا يتمتع غير 30 في المئة من التونسيين بالزيادات في الأجور بمقتضى مفاوضات الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) مع الحكومة، وهم الشريحة التي تنتمي إلى القطاع المنظم غير الهش، حيث لا يمنع عمل الآلاف من التونسيين بالقطاع المنظم من وضعيتهم الهشة التي تحول دون التمتع بالزيادات، في حين لا تطال المشتغلين بالقطاعات الموازية أو الأنشطة الحرة في ظل أزمة اقتصادية خانقة أدت إلى الزيادة في نسب البطالة وتراجع مداخيل الناشطين".
وتابع، "بخصوص الموظفين المتمتعين بالترفيع في الأجور، فإن نسبة الزيادة التي تتراوح بين 5 و6.5 في المئة تبدو ضئيلة للغاية مقابل الضغوط التضخمية، ما أدى إلى وصول الفقر إلى العائلات التونسية التي توفر 1500 دينار (500 دولار) في الشهر، بينما تعتبر الأسر المتمتعة بمداخيل تساوي 2500 دينار (833 دولاراً) شهرياً متوسطة. والحال أن الوظائف بالقطاعين العام والخاص لا توفر هذه الأجور. وتبدو الحكومة التونسية في وضعية لا تحسد عليها بين فكي الملف الاجتماعي الحارق باتساع رقعة الفقر وانهيار المقدرة الشرائية، ومطالب المانحين برفع الدعم عن المواد الأساسية".
وبخصوص الإصلاحات العاجلة المطلوبة منها على المدى القصير، وفق بن حسين، فهي تتعلق بتخفيض الأسعار عن طريق السيطرة على مسالك توزيع السلع والضغط على الوسطاء الذين يستغلون رخص التجارة بطريقة غير قانونية للسيطرة على مسالك التوزيع والوساطة والتحكم في الأسعار، وبمقدور السلطات سن قوانين لهذا النشاط تخفض هيمنة هؤلاء، إضافة إلى العمل على جذب القطاع الموازي للقطاع المنظم، ما من شأنه ضخ أموال بالدورة الاقتصادية والتخفيف من الضغوط التضخمية.