تأخر ظهور الرواية في السعودية تاريخياً عن بقية البلدان العربية مثل مصر وبلاد الشام والعراق، إلا أنها في الفترة الأخيرة شهدت تطوراً ملحوظاً عبر مجموعة من الروائيين الذي أثبتوا جدارتهم على خريطة السرد العربي، وبخاصة الرواية النسوية التي خطت خطوات واسعة في هذا المضمار. هذا ما يناقشه كتاب "شعرية السرد في الرواية النسوية السعودية في ربع قرن" للباحث عمر محفوظ، الصادر عن جامعة الملك سعود، في نحو 400 صفحة، محتوياً خمسة فصول.
يقسم محفوظ تاريخ الرواية النسائية في السعودية إلى ثلاث مراحل. المرحلة الأولى من 1959 إلى 1979، ويصفها بأنها مرحلة التأسيس التي بدأتها سميرة خاشقجي بروايتها "ودعت أمالي"، وتلتها "وذكريات دامعة"، و"وداي الدموع"، و"بريق عينيك"، و"وراء الضباب". وشاركتها في هذه المرحلة كاتبات مثل هند باغفار، وهدى الرشيد، وعائشة زاهر أحمد. ويلفت محفوظ إلى أن "ودعت أمالي" هي أول رواية سعودية بالمعنى الفني، وهكذا فإن المرأة كان لها السبق على الرجل في كتابة الرواية في السعودية. أما رواية "التوأمان" لعبد القدوس الأنصاري (1930)، و"فكرة" لأحمد السباعي (1948)، و"البعث" لمحمد مغربي الصادرة في الفترة نفسها، فهي "إرهاصات لرواية سعودية وليست روايات بالمعنى الفني، بما أنها قصص طويلة". وبينما استمرت سميرة خاشقجي في الإنتاج فأصدرت 9 روايات حتى عام 1973، توقف الآخرون. ويرجع محفوظ استمرار خاشقجي في الكتابة الروائية إلى "معايشتها للرواية المصرية واحتكاكها بالمنتج المصري، ولأنها عاشت بين مصر ولبنان".
النضج والتجريب
أما المرحلة الثانية، ويطلق عليها اسم "النضج الفني وبداية التجريب" (1980 – 1999) فبدأت بعد الانفتاح على الثقافات المختلفة وأشكال الكتابة الجديدة والوعي الجديد، لمعنى الرواية ومكوناتها الفنية التي حوت الكثير من الأفكار والقضايا السياسية والاجتماعية، وشهدت على أزمة الصراع بين الحداثيين والمحافظين. وانطلقت مرحلة التجريب مع رجاء عالم في روايتها "4 / صفر" عام 1987 وشاركتها روائيات مثل صفية عنبر وسلوى دمنهوري وليلى الجهني. وأهم ما تميزت به هذه المرحلة هو الإحساس بالقضايا الاجتماعية والاهتمام بالمضمون الأسطوري واللغة المشحونة بالغموض والتعقيد، وبالشكل الكتابي والفني وفضاءات البياض وتوظيف الفني التشكيلي وخلق عوالم مدهشة والاهتمام بهندسة السرد. ويقسم محفوظ مُنتَج هذه المرحلة إلى قسمين، الأول كان امتداداً لجيل البدايات؛ لغة وطريقة وأسلوباً، واتصف بالوضوح في معالجة الأحداث. والثاني تميَّز بأسلوبه العميق في الكتابة ورسم الشخصيات وإنتاج العوالم المدهشة والتقنية السردية المغايرة.
جرأة الطرح
تشغل المرحلة الثالثة الفترة من 2000 إلى 2010، ويطلق عليها "مرحلة الثورة في الرواية السعودية النسائية". وتميزت هذه المرحلة بالجرأة في الطرح، واستخدام بعض التقنيات الحديثة، ودخول عالم المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، والصدام الثقافي مع الرجل والتمرد على العرف والعادة وإثبات الهوية الأنثوية. ومثلت هذه المرحلة رواية "بنات الرياض" لرجاء الصانع عام 2005، ورواية "غير وغير" لهاجر مكي. ويلفت محفوظ إلى أن أهم ما يميز هذه المرحلة هو علو صوت المرأة روائياً على الرجال الذين أصبحوا "مقلدين" خصوصاً لرجاء الصانع، فكتب طارق العتيبي في 2006 "شباب الرياض"، وإبراهيم بادي "حب في السعودية" في العام ذاته، وكتب أحمد الواصل "سورة الرياض" 2007.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبين الكتاب أنه في الفترة من 1990 إلى 2010 صدر عدد وفير من الروايات النسوية، وتعددت مذاهب النساء في كتابتهن إلى حد يجعل المؤلف يزعم بأن الرواية السعودية هي رواية نسوية بامتياز بسبب كثرة النصوص التي كتبتها مبدعات سعوديات. وهذه الكثرة هي نتيجة للطفرة الثقافية التي تحققت في الثمانينيات من القرن الماضي وانتشار التعليم وكثرة المدارس والجامعات وتفوق النساء في ميدان التعليم والتحصيل الدراسي ورغبة الأنثى في التحرر من القيود الاجتماعية والرغبة في الشهرة وفرض الذات شعورياً ولا شعورياً، ومواجهة الرجل بما لديها من طاقات في مجال الإبداع المختلفة.
خصوصية القضايا
وترصد الدراسة أن الرواية النسائية السعودية ركزت على خصوصية المرأة وهويتها وكينونتها باعتبارها أماً وزوجة وبنتاً ومعشوقة، ودافعت عن تعليم المرأة وتثقيفها وتنويرها، ورصد المآسي التي يتعرضن لها. وتطرقت كذلك إلى مواضيع الحجاب والزواج والعنوسة والطلاق والبنوة والمرأة المثقفة ومكانتها في المجتمع المحافظ. وعالجت هذه الروايات مجموعة من الظواهر الموضوعية والفنية كظاهرة الاكتئاب والحزن والقلق والوحدة والغربة الذاتية والمكانية، واستعمال ضمير المتكلم، والاستعانة بالمونولوغ والاسترسال في العواطف والتغني بقيم الحرية والحب والحياة والتمرد على الرجل المستبد.
ويكشف محفوظ أن بعضاً من المبدعات السعوديات لجأن إلى الألقاب والأسماء المستعارة مثل "وردة بنت عبد الملك"، و"سميرة بنت الجزيرة"، و"المهاجرة"، إلا أن هذا الأمر لم يتحول إلى ظاهرة، وقد لا تتجاوز هذه الأسماء المستعارة 8 كاتبات من 1958 إلى 2008.
يناقش المؤلف في الفصل الأول من الكتاب "مفهوم السرد النسوي وأشكاله وأساليبه"، وفي الفصل الثاني "اللغة ومستوياتها في السرد النسوي"، وفي الفصل الثالث يركز على فنيات الحكاية وأشكال الاستدعاء الديني والشعري ودلالة الاستدعاء البصري والسمعي واستدعاء الزمان والمكان والشخصيات والألوان داخل الروايات النسوية. ويتتبع في الفصل الرابع بنية السرد وتقنيات التلخيص والحذف والاسترجاع، والتسريع والإبطاء والحذف. ويناقش في الفصل الخامس شعرية السرد النسوي ودلالته في الهدم والبناء، والصدام الثقافي، والتمرد الفردي للأنثى، العابر للجماعة، والوعي في الخطاب الروائي النسوي، وسرد حكايات البنات، وصور الرجل داخل هذا السرد.
من الواقعية إلى الرومانسية
ويبرز الكاتب مجموعة من سمات ذلك السرد، ومنها التحول من الواقعية التي تحاكي المعيش إلى الرومانسية، والدفاع عن حقوق المرأة وإثبات ذاتها أمام الرجل، ثم الاتجاه إلى الفانتازيا الأسطورية. ويبرز تحولات طرق استخدام اللغة في الكتابة وصفاً وحواراً وسرداً. ففي الجيلين الأول والثاني، كان السرد يتسم بلغة تراثية معجمية إخبارية وصفية وإيحائية وتقريرية. أما الجيل الثالث فكانت لغته متحررة من القيود الشكلية والتقليدية، وعامرة في الوقت نفسه باللهجة المحلية ولغة وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن السمات المشتركة في السرد النسوي السعودي أنها سطرت ملحمة الوجود الأنثوي كبطلة في كل الأحداث الروائية، في مواجهة الرجل من أجل التخلص من هيمنة السلطة الذكورية عليها لتعيش بحرية ومسؤولية، أمام أعراف المجتمع وتقاليده. ويلفت الكتاب في نتائجه إلى أن عام 2006 كان فارقاً في الإبداع النسوي بحيث وصل عدد الروايات إلى 20 رواية نسوية من أصل 42 رواية صدرت ذلك العام بنسبة تكاد تصل إلى 50 في المئة أي موازية للإبداع الروائي لدى الرجال. ويُرجع سبب هذه الزيادة إلى الأحداث المتوالية من حرب الخليج الأولى والثانية، وزيادة تأثير العولمة وثورة الاتصالات وتدفق المعلومات التي أسهمت في تغيير بعض المفاهيم، مما أضعف دور الرقيب على أقلامهن فتشجعن حتى تصدرن المشهد الأدبي السعودي.
وفي الختام تلفت الدراسة إلى أن هناك الكثير من الظواهر الموجودة في الرواية النسوية وبحاجة إلى المزيد من الدراسات والأبحاث والمقالات النقدية لتتبعها بشكل مفصل، وفي جوانب مختلفة لإبراز أهم ما يميزها والإحاطة بهذه التجربة. ومنها مثلاً، تتبع اللغة والرسم والفن التشكيلي واستدعاء السير الشعبية وتوظيف المثل الشعبي والأسطورة والحكاية الخرافية، وذلك وفق نظرية النقد النسوي الحديثة.