عند الظهيرة، يفتح مطعم مدينة إسطنبول أبوابه ويبدأ الناس بالتوافد إليه. يرتاد المكان طلاب جامعيون ومتقاعدون وربات المنازل وموظفو المستشفيات وأصحاب الوظائف الإدارية وأصحاب المحلات. جميعهم يأتون إلى المطعم بسبب ما يقدمه من وجبات صحية وزهيدة الثمن، يقارب سعرها ما يعادل 1.40 جنيه استرليني، في محاولة لمواجهة معدلات التضخم الفلكية في تركيا.
"لقد تخرّجنا عند الظهيرة، وبالتالي، لم نعد نستفيد من بطاقات الوجبات" كما يقول إيجه أوريتمن، طالب في كلية الطب البالغ من العمر 23 سنة والذي يقف في الطابور وينتظر بصبر للحصول على وجبة تتألف من يخنة الدجاج والأرز والحساء والسلطة، إضافة إلى قطعة من الخبز وقنينة ماء مقابل 29 ليرة، أي ما يعادل ثمن كوب قهوة في المطاعم القريبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا عرض هائل، يذكّر بالمرحلة السابقة لبداية هبوط الليرة التي تراجعت قيمتها من خمس ليرات تقريباً لكل جنيه استرليني منذ خمس سنوات تقريباً، إلى أكثر من 20 ليرة اليوم. رسمياً، تضاعفت أسعار السلع الغذائية خلال السنة المنصرمة. ولكنها ارتفعت أكثر بكثير وفقاً للأرقام غير الرسمية.
ويقول أوريتمن الذي يعيش في شقة تزدحم بزملائه من الطلاب "الوضع الحالي صعب للغاية. والمشكلة الرئيسية هي الاقتصاد".
بلغ معدل التضخم في تركيا رسمياً الشهر الماضي أعلى مستوياته منذ عشرين عاماً، مع وصوله إلى 74 في المئة، مع أنّه بحسب تقدير خبراء الاقتصاد، بلغ معدلاً أعلى بكثير هو 160 في المئة - أي أعلى معدلاته منذ نحو ربع قرن. وقد تُرجم ذلك بارتفاع أسعار السلع الغذائية والمساكن والملابس والنقل والرعاية الصحية. وقضى التضخم على المدخرات وسحق أحلام الناس الذين يصبّون كل تركيزهم على استمراريتهم اليومية.
وتقول هاجر فوغو، الخبيرة في موضوع الفقر التي تقدم استشارات لحزب الشعب الجمهوري المعارض "منذ خمس سنوات، لم يكن شراء السلع الغذائية رفاهية، والآن الأشخاص الذين يعانون من الفقر ومن اضطراب أوضاعهم ما عادوا قادرين على دفع ثمن الطعام. لا يمكنهم تحمّل كلفة شقة عادية. ولا يمكنهم دفع ثمن الغاز الطبيعي. ولا يمكنهم شراء اللحوم أو الحليب؛ وهم يعيشون على المعكرونة وحدها".
خلق التضخم مجموعة من المشكلات الاجتماعية التي سوف تغيّر حياة الناس بلا أدنى شك لسنوات وسنوات آتية. فالأهل عاجزون عن شراء حليب الأطفال لصغارهم. والأطفال يُسحبون من المدارس لكي يعملوا. وتتكلم فوغو عن شقيقتين عمرهما 12 و16 سنة نزلتا إلى الشارع لبيع المياه من أجل المساعدة في تأمين قوت العائلة. صدمت دراجة نارية الفتاة التي تبلغ من العمر 16 سنة فأصبحت حبيسة الفراش، وزاد وضع عائلتها سوءاً بعد أن كان صعباً أساساً.
بدأ مظفّر غول بالعمل لدى شركة غاز طبيعي خلال الجائحة، في تركيب عدادات الغاز وقَطع الإمداد عن الأسر التي لا تدفع الفواتير المستحقة عليها. ويقول إن العمل كثيف من البداية ولكن وتيرته ترتفع باستمرار منذ مطلع العام. والعمل مضنٍ نفسياً وجسدياً على حدّ سواء، كما يضيف، فيما يعجز عدد متزايد من سكان إسطنبول عن دفع فواتيرهم.
ويقول "يشتكي الناس كثيراً على وسائل التواصل الاجتماعي، من الغلاء المعيشي ومن ارتفاع الأسعار طبعاً".
غالباً ما تتأثر أضعف فئات المجتمع بهذه التعقيدات، التي تخلق دورة من اليأس. ما عادت النساء الأفقر حالاً قادرات على دفع ثمن الفوط الصحية، فأصبح من الأصعب بالنسبة لهنّ بالتالي التوجه للعمل أو الدراسة. والعيادات التي كانت توزع وسائل منع الحمل بالمجّان ما عادت قادرة على ذلك الآن، مما يزيد من احتمال حدوث حمل غير مرغوب به. ويعزف السكان عن تلقي الرعاية الصحية الضرورية أو الحصول على الأدوية فتُهمل الأمراض ولا تُعالج. أما اللحوم والأسماك والدجاج فتصبح بعيدة من متناول الفقراء- ولكن معدلات التضخم طاولت الطبقة الوسطى كذلك.
ويقول تيموثي آش، الخبير الاقتصادي الذي يركّز على الشأن التركي في شركة بلو باي اللندنية المتخصصة في إدارة الأصول "هذا يعني أن مستويات المعيشة في تردٍّ فيما الفقر في ازدياد".
فاقمت التعقيدات التي تطاول سلاسل الإمداد كما ارتفاع أسعار الوقود مشكلات التضخم في كل أرجاء العالم. ولكن آش الذي يتابع الاقتصاد التركي عن كثب يحمّل إدارة رئيس البلاد، رجب طيب أردوغان، الجزء الأكبر من المسؤولية عن التضخم في تركيا. تحدّى أردوغان القواعد الأساسية في علم الاقتصاد الكلّي بإصراره على أنّ معدلات الفائدة المنخفضة من شأنها التخفيف من التضخم، وهو رأي لا يشاركه إياه علماء الاقتصاد إجمالاً. وجاءت النتيجة على شكل التركيز على إبقاء معدلات الفائدة منخفضة نسبياً، وتوفير الائتمان، في محاولة لتحفيز النمو.
ويقول آش "يؤثر التضخم في الجميع، والجميع يشعرون به. من الصعب أن تشعر بالفرق بين معدّل نمو من 3 أو 4 في المئة، ومعدل نمو 6 في المئة. ولكن الجميع يحسّ بتضخّم معدله 75 في المئة".
عمّت الفوضى أوساط العاملين المأجورين والمتقاعدين على حد سواء بسبب هذا الهبوط. رفعت الحكومة في الآونة الأخيرة الحد الأدنى للأجور الشهرية بنسبة 30 في المئة، وقد بلغ بالتالي 5500 ليرة، أي ما يقارب 276 جنيهاً استرلينياً. ثم رُفع الحد الأدنى للأجور مرة ثانية في ديسمبر (كانون الأول)، بنسبة 50 في المئة. ولكن لا يزال الحد الأدنى للأجور حالياً أدنى من خط الفقر، وفقاً لخبراء الاقتصاد.
لا تُطبّق قوانين العمل بشكل صارم في تركيا، والبطالة مرتفعة والشركات تشعر بأنها في موقع القوة. ويُرغم العديد من الموظفين على إعادة أي زيادات في الأجور إلى مديريهم ويترددون في المطالبة بحقّهم. سُمّي البلد في الآونة الأخيرة من بين أسوأ 10 بلدان في العالم في موضوع حقوق العمّال. وتقول آرزو شركيز أوغلو، رئيسة ديسك، مجموعة الاتحادات العمالية ذات الميول اليسارية في تركيا "يُصرف العمال يومياً من وظائفهم بسبب انضمامهم للاتحادات العمالية ومطالبتهم بالحصول على حقوقهم".
أمل أتراك كثر في أن يحفّز الهبوط في سعر الليرة الذي تُضاف إليه سهولة الحصول على الائتمان، الصادرات ويعزز قطاع الصناعة فيستحدث الوظائف ويعطي دفعة للاقتصاد. ولكن المنتجين الأتراك يعتمدون بشكل كبير على المواد والقطع الخام المستوردة التي ارتفعت أسعارها هي الأخرى.
فُتح مصنع باي تاناش لصناعة الأحذية السنة الماضية في إسطنبول، وكان يحسب كلفة المواد الخام لصناعة كل زوج من الأحذية نحو 70 ليرة تركية. ولكن هذه التكلفة ازدادت بمعدل أكثر من الضعف لتصبح نحو 150 ليرة لكل فردة حذاء. وفيما لا يمكن لباعة الجملة الأتراك أن يدفعوا أكثر من 140 ليرة تقريباً للحذاء، يبحث الزبائن عن أسعار أرخص حتى، كما تقول المالكة الشريكة للمصنع، عائشة تاناش. وقد توقفت عن تصنيع أحذية جديدة في الوقت الحالي.
وتقول "كان هذا الشهر برمّته موسماً ميتاً بالنسبة إلينا. عندما يعجز الناس عن تحمّل كلفة الطعام، لا تعود الملابس من أولوياتهم".
قد يُباع زوج الأحذية بحوالى 12 جنيهاً استرلينياً في الخارج، في دول مثل الجزائر أو أذربيجان والبلقان، ولكن الحرب الدائرة في أوروبا الشرقية قطعت عن تركيا سوقين من أكثر أسواق التصدير التي تدر الأرباح على قطاع صناعة الأحذية- روسيا وأوكرانيا- فيما تقلّل تكاليف النقل والمعاملات البيروقراطية المتعلقة بالتصدير من الأرباح.
وكما في القطاعات الأخرى، تهيمن التكتلات الصناعية الكبيرة التي لديها علاقات سياسية على الصادرات في تركيا، فتضيّق على اللاعبين الصغار مثل باي تاناش، الذين يجاهدون من أجل دفع رواتب موظفيهم.
وتقول عائشة "كلما تواجه الشركات الكبرى المشكلات، تحصل على إعفاء ضريبي وإعفاء من الديون، ولكن الشركات الأصغر لم تُمنح هذه الميزات".
ضرب التضخم المرتفع ثقة الرأي العام في المؤسسات الحكومية. وفقاً لأحد استطلاعات الآراء، نحو ربع الأتراك فقط يصدّقون الإحصاءات الرسمية، فيما لدى نحو ثلثيهم ثقة أكبر بالأرقام غير الرسمية التي ثبتت التضخم عند نسبة 160 في المئة تقريباً. وخلق ارتفاع الأسعار تداعيات سياسية، حيث تُظهر استطلاعات الآراء تخلّف أردوغان عن عدة شخصيات سياسية بارزة من المعارضة، ومن بينهم رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، قبيل الانتخابات التي من المزمع عقدها عام 2023.
بدأ مكتب رئيس بلدية إسطنبول الشهر الماضي تجربة المطاعم المدعومة، وهي تقع ضمن نطاق مجموعة مشاريع ربما تحركها دوافع سياسية تهدف إلى تعزيز وبناء السمعة الطيبة قبل موعد الانتخابات. وتشمل المشاريع الأخرى فتح روضات أطفال قليلة الكلفة للوالدين العاملين ومهاجع مدعومة لطلاب الجامعات.
يعطي رواد مطعم سيتي داينر المدعوم خلال فترة الغداء فكرة عن مدى اتساع رقعة الأزمة في تركيا. إذ تجد بين الحشد عائلات مع أطفالها، وسيدة مسنّة ترتدي الحجاب التقليدي، ومحامياً أثناء استراحة الغداء، وشاباً محباً للموضة يرتدي تي شيرت سوداء لفرقة ميتاليكا.
ويقول مراد يزيجي، أحد نواب رئيس البلدية الذي يشرف على المطعم "إن الفئات السكانية الني نستهدفها هي الطلاب والأشخاص الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور أو يتقاضون أقل منه". ويضيف بأن مكتب رئيس البلدية يأمل في أن يفتح تسعة مطاعم إضافية على الأقل بحلول نهاية العام، ويوزعها على أحياء المدينة التي تضم 16 مليون نسمة.
ويعترف يزيجي بأن المطاعم والمساكن ورياض الأطفال المدعومة قد تزيد على ميزانية البلدية ولكنه يعتقد بأن تكلفتها في النهاية ستكون أقل من تكلفة المشكلات الاجتماعية والصحية التي يخلقها التضخم.
"لا نعتقد بأننا سنحلّ مشكلة الفقر من خلال مطاعمنا ولكننا نحاول الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس عن طريق خدماتنا المختلفة. نعلم بأننا لن نقضي على الجوع. ولكننا فتحنا المطاعم في المدينة من أجل التخفيف من وطأة الجوع، ولو مؤقتاً، إضافة إلى المشكلات الأخرى التي تنبثق منه".
ساهمت نعومي كوهين في هذا التقرير.
© The Independent