قمة أو قمم جدة أكدت، من بين أمور، عدة ثلاثة أمور أساسية. أولها، أنه لا مهرب لأميركا من الشرق الأوسط، مهما تكن الاعتبارات والحسابات الاستراتيجية على المستوى النظري. وثانيها، أنه لا بديل من أميركا مهما قلت الثقة بالتزاماتها وكثرت ضرورات الانفتاح على الصين وروسيا. وثالثها، أنه لا قبول لأن تكون مصالح القوة العظمى فوق مصالح الشركاء، وقيمها تتقدم على قيم الحلفاء.
وليس أهم من بيان القمة الذي عكس كثيراً من الاهتمامات والقضايا سوى الترجمة العملية للشراكة الاستراتيجية في مواجهة الأخطار. تجديد الشراكة الاستراتيجية الأميركية مع السعودية التي صار عمرها 80 سنة، ومع دول المنطقة، والشراكة بين هذه الدول. فالرئيس جو بايدن كان شجاعاً في "الاعتراف بالأخطاء وضرورة تصحيحها". فهو التزم بوضوح إنهاء "سياسة الانكفاء" عن المنطقة والتي أدت إلى خسارة واشنطن، وفتحت الطريق أمام "الصين وروسيا وإيران لملء الفراغ"، من حيث كان المبرر هو التفرغ لمواجهة الصين وروسيا. والسؤال هو: هل استعادت أميركا صدقيتها وصدقية رئيسها، أم أن هناك حاجة إلى امتحانات عملية في الأيام المقبلة؟
الانكفاء الأميركي كان جزءاً من خطة استراتيجية، لا غلطة، في رأي الذين نظروا له، ولا مجرد سياسة رئيس في البيت الأبيض. ففي مقال نشرته "الفورين أفيرز" يقول إليوت كوهن، العميد السابق لمدرسة الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز: "الحرب الروسية جاءت وسط العمل باستراتيجية أميركية عظمى هي التركيز على العداء للصين وترك أوروبا والشرق الأوسط يدبر كل منهما رأسه بالوسائل الخاصة، لكن الصواريخ والقنابل الروسية دمرت لا فقط مدن أوكرانيا، بل أيضاً هذا المفهوم".
ويرى روبرت كاغان من "مؤسسة بروكنغز" أن "أميركا قوة عظمى أحبت ذلك أم لا، لكن مشكلتها هي التزلج بين الخندقة والتدخل. تدخل باباً وتضع قدماً خارجه، ولذلك تسهم في تشويش الحلفاء". أما مايكل سينغ الذي خدم كمدير للشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي خلال رئاسة بوش الابن، كشف التناقض قائلاً، "أميركا تريد كتلة دول متحالفة في المنطقة تضمن مصالح الولايات المتحدة وتسمح لها بالتوجه نحو الشرق الأقصى، لكن هذا يقلل قدرة أميركا على التأثير في سياسات حلفائها بأحداث اليمن وليبيا والعلاقات مع إيران". وهذا ما أكدته مجريات قمم جدة ومخرجاتها وما لم يتحقق فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والامتحان الأول هو الموقف من الخطر الإيراني، لا فقط في موضوع السلاح النووي بل أيضاً في مسألة الصواريخ الباليستية وتمدد النفوذ الإقليمي والسلوك المزعزع للاستقرار. هل الحماية الأمنية تعني دوراً أميركياً مباشراً أم تقديم أسلحة للشركاء الذين يضمنون حماية أنفسهم، وماذا يعني "أمن الطاقة العالمي" في ظل الأمن الإقليمي المهتز؟ مستشار الأمن القومي جايك سوليفان الذي كان ضمن الوفد الأميركي قال ببساطة للصحافيين المرافقين على الطائرة، إنه "لا عودة إلى العمليات العسكرية الأميركية البرية في المنطقة كما كانت الحال على مدى عقدين".
أما العنوان البارز، فإنه "التكامل الاقتصادي" والربط بين الأمن والتنمية وشيء من "التنسيق الدفاعي ضد الصواريخ". وأما ما كان الجميع بحاجة إلى سماعه، فإنه نفي وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان أي بحث في ما سمي "ناتو إقليمي" أو "ناتو عربي"، ذلك أن الظروف السياسية والأنظمة العسكرية المختلفة لا تسمح بهذا الأمر. والحل أمام العرب من زمان هو تفعيل ميثاق "الدفاع العربي المشترك" في إطار الجامعة العربية. ولا مجال لتحقيق ما يتمناه بايدن وتطلبه إسرائيل وهو توسيع "اتفاقات إبراهام" من دون تسوية النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي على أساس "حل الدولتين". وحل الدولتين مؤجل، وسط حديث بايدن عن "أفق سياسي" يراه الفلسطينيون و"لن نسمح لليأس بسرقة المستقبل".
وليس أكثر من الأوهام والمبالغات التي سقطت من حول قمم جدة، سوى الحقائق الواقعية التي ظهرت على الطاولة، وممارسة السعودية السيادية لدورها القيادي المتوسع.