ليست المرة الأولى الذي حذر فيها ملك الأردن عبدالله بن الحسين من الخطر الإيراني المحدق ببلاده. فمنذ عقد، حذر قائد المملكة الهاشمية من قيام "هلال شيعي" في الشرق الأوسط تصنعه إيران ما بين حدودها والبحر الأبيض المتوسط سيبتلع العراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية، وربما الأردن. وما كان يقصده الملك الأردني الشبكة الميليشياوية التابعة للنظام الإيراني تحت إشراف "الحرس الثوري" وفي داخله "قوة القدس" الضاربة، وعلى رأسها وقتها قاسم سليماني.
وقد تحققت منذ هذا الإنذار التاريخي فعلاً معظم الأهداف الإيرانية في الهلال الخصيب إلا هدفاً ونصف الهدف. فالعراق استراتيجياً، ما عدا كردستان في قبضة الحشد، وكتائب "حزب الله" العراقي، والميليشيات "الخمينية" الأخرى، ومعظم سوريا عادت ترزح تحت نظام الأسد والحرس الثوري (الباسدران)، ولبنان سقط نهائياً في قبضة "حزب الله"، بينما غزة تحكمها "حماس" المتحالفة مع طهران، هذا وقع، والهلال الخميني بات واقعاً عملياً، وإيران تتهيأ للانقضاض على دول خارج هذه المنطقة من الشرق الأوسط، لا سيما الجزيرة العربية. إلا أن دولة عربية واحدة من الهلال المذكور لا تزال خارج المظلة الإيرانية.
وهذا ما عناه الملك عبدالله عندما أعلن الأسبوع الماضي أن حدود بلاده باتت الآن تتعرض لهجمات ميليشيات مرتبطة بإيران، هذا التصريح الخطير إنما يفجر كثيراً من الأسئلة بالنسبة لدولة عربية لم تخض حرباً خارجية منذ 1970، عندما دخلت أرتال دبابات أقحمها الرئيس الراحل حافظ الأسد لتدعم منظمات مسلحة خلال اشتباكها مع الجيش الهاشمي. فالأردن نعم باستقرار غير مسبوق لعقود طويلة، وخرج مما سمي "بالربيع العربي" سالماً موحداً. فما هي هذه الميليشيات التي تعتدي على حدوده، ولماذا، وما هي استراتيجيتها، وأهدافها، وكيف يمكن وضع حد لها؟
الميليشيات الإيرانية
المجموعات المسلحة الموجودة على المقلب الآخر من الحدود الأردنية مع العراق وسوريا معظمها تابعة لإيران. فمن جهة العراق تنتشر "الحشد" والمجموعات المرتبطة بها، وتوجد الباسدران أيضاً. أما من جهة سوريا، فتوجد الميليشيات "الشيعية" الموالية لإيران، ومنها عناصر من أفغانستان وباكستان، إضافة إلى المجموعات المسلحة التابعة لنظام الأسد، كما تنتشر أيضاً وحدات من "حزب الله" اللبناني. وتوجد قوات "الحرس الثوري" الإيراني أيضاً وليس بالضرورة علناً، على طول الحدود الأردنية - السورية. بشكل عام، باتت إيران منتشرة عبر ميليشياتها على طول الخط الاستراتيجي من نقطة الحدود العراقية -الأردنية، على طول خط الحدود السورية - الأردنية، ابتداءً من نقطة جنوب التنف إلى مدخل الجولان. وقد سيطرت قبل ذلك عناصر تكفيرية (أو متطرفة بحسب الخطاب الغربي) على بعض هذه النقاط قبل أن تقضي قوات التحالف الغربي عليها. وتقوم الميليشيات المسيطرة في تلك المساحات بتسليح وتجهيز عصابات التهريب المحلية وتدفعها باتجاه الداخل الأردني لتعيث فساداً وفوضى، ولكن لماذا تتحرك هذه الميليشيات على الحدود الأردنية؟
الأهداف الإيرانية تجاه الأردن
لطهران أهداف استراتيجية واضحة في الشرق الأوسط تتلخص في السيطرة على الهلال الخصيب واليمن بمرحلة أولى كمقدمة للسيطرة على الجزيرة العربية بمرحلة ثانية. بالتالي يقع الأردن جيوسياسياً ما بين الهدفين الأساسيين، ما يعني في المنطق الاستراتيجي أنه بعد استكمال السيطرة على الهلال الخصيب، وقبل الشروع بالسيطرة على الجزيرة، يتحتم على "الإمبراطورية الخمينية" أن تضعف، ثم تسقط الأردن في شبكتها الإقليمية، ليكتمل الجزء الأول من توسعها. فالأردن على تقاطع تاريخي بين بادية الشام وبلاد النهرين وفلسطين والحجاز، وهو المبتغى التاريخي العقائدي لدى الخمينيين. فمن يسيطر على الأردن يكتسب حدوداً بالتالي ممرات إلى كل تلك الدول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دفاعياً القيادة الإيرانية تريد إسقاط "الجبهة الأردنية" التي بإمكانها أن تتواصل مع "السنة" المعارضين للهيمنة الإيرانية في العراق، لا سيما أن الولايات المتحدة وبريطانيا والتحالف الغربي له قواعد مهمة في شمال وشرق المملكة الهاشمية، قد تتحول بنظر طهران إلى نقاط انطلاق ضد تحركات ومواقع الباسدران في الدولتين-المستعمرتين لإيران. إذاً فإن حماية الجسر بين إيران والبحر المتوسط يحتاج إلى إخراج الأردن من المعادلة الإقليمية. أما هجومياً، فالأردن جيوسياسياً امتداد لعمق الجزيرة كما هي الأنبار شرقاً. وهو بنظر الفكر الاستراتيجي العسكري الإيراني، البوابة الشمالية للحجاز، بالتالي لمكة والمدينة، كما يعتبرون اليمن، بوابة جنوبية إلى الحرمين الشريفين، هذا نظرياً، أما على صعيد فلسطين، فالأردن بنظر طهران دولة قد تؤمن الوصول جغرافياً إلى العمق الإسرائيلي - الفلسطيني، إلى الضفة الغربية، فالنقب، فغزة.
الحواجز الأردنية
لكن في الوقت نفسه الاستراتيجية الإيرانية ستواجه عدة مطبات بالنسبة للأردن.
أولاً: تكوين شعبه أكثريتها الساحقة من العرب السنة ولا وجود لمجموعة شيعية بحجم يمكن طهران من أن تخترق طائفة لتقيم تنظيماً شبيهاً بـ"حزب الله" أو "الحوثي".
ثانياً: للحكم قاعدة قريبة من العائلة المالكة وداعمة للقوات المسلحة.
ثالثا: هنالك تعاطف غربي خاص مع المملكة الأردنية وعلاقات تاريخية وثيقة مع بريطانيا والولايات المتحدة. والتحالف الغربي سيتحرك فوراً إذا تعرضت الحليفة العربية إلى عمل عدواني إيراني.
رابعا: إن أي تحرك إيراني أو موالٍ لطهران باتجاه الحدود مع إسرائيل عبر الأردن، سيدفع الإسرائيليين لشن عمليات كما يفعلون في سوريا وأحياناً في العراق.
أهداف عملياتية
لذلك هنالك سد منيع أمام إيران أو ميليشياتها داخل الأردن، ولكن السؤال يبقى ما هو الهدف المباشر لعمليات موالية لإيران عبر الحدود الأردنية، علماً بأن تحركاً معادياً واسعاً ضد المملكة الهاشمية في هذه المرحلة سيفشل. الجواب مبني على نهج النظام المفضل، وهو الإرهاب. "فالجمهورية الإسلامية" لم تستعمل جيشها النظامي ولا حتى قوات الباسدران في مواجهات مباشرة تقليدية منذ حربها مع الجيش العراقي في الثمانينيات. فالقيادة الإيرانية تعرف أن التحالف الغربي-العربي من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى، قادران على منازلة وحسم على القوات الإيرانية، لا سيما خارج طهران، ولكن النظام أثبت قدرته على تحقيق أهدافه في أربع دول عبر حروب ميليشياوية وعمليات إرهابية، لذا عندما حذر الملك عبدالله من عمليات عبر الحدود، كان يشير إلى تحرشات قد تتحول إلى إرهاب منظم.
وإيران تستهدف الاقتصاد الأردني قبل كل شيء. فهذا الأخير مر ولا يزال، عبر أزمات متتالية. ومن أهم القطاعات التي بإمكانها تزويد البلاد بالسيولة هي السياحة من ناحية، والاستثمارات الأجنبية من ناحية أخرى، وهذا ما قد تستهدفه الأجهزة الإيرانية، وما حاولت المجموعات "الإسلاموية المسلحة" أن تفعل في عقود سابقة. أي شن هجمات إرهابية ضد أهداف مدنية واقتصادية وسياحية، أو استثمارية أجنبية، لترهيب الزوار والشركاء الاقتصاديين، لذا فانتشار الميليشيات الممسوكة إيرانياً على طول الحدود العراقية والسورية مع الأردن، والبدء بخروقات وبعدها اعتداءات، هو بداية لحملة تدار من طهران في المنطقة. لذلك من المهم أن تتضامن دول التحالف العربي والدول الغربية مع عمان، عندما تتكثف الأعمال التخريبية على طول الحدود الأردنية مع الدول التي تسيطر عليها إيران.