هل نال حزب "المحافظين" البريطاني قسطه من الحكم؟ أم هو يتبنّى ثقافة التظاهر والادّعاء بأن الأمور تسير على ما يرام، فيما يقف موقف المتفرّج أمام انحدار البلاد وانزلاقها المضطرد نحو الجحيم، ربما آملاً في قرارة نفسه بأن يتولّى كير ستارمر (زعيم حزب "العمّال" المعارض) زمام الأمور لفترةٍ من الوقت، ويحلّ جميع المشكلات الصعبة التي أعرض عن التعامل معها؟
تلك كانت بعض التفسيرات الممكنة لردّات الفعل الناشئة حيال المناظرة التلفزيونية التي أجريت ليل الثلاثاء، التي اعتقد أعضاء في حزب "المحافظين" أن وزيرة الخارجية ليز تراس قد فازت بها، في وقتٍ رأى فيه الناس أن المرشّحَين لزعامة الحزب قد تعادلا. أنا شخصياً كنتُ مع ناخبي حزب "العمّال"، الذين يميلون إلى الاعتقاد بأن ريشي سوناك كان أكثر حيويةً وأشدّ فصاحةً وصدقية.
لكن ربما قد يكون الأوان قد فات الآن، فإذا لم يُكشف عن معلومات مضرّة بسمعة ليز تراس، يبدو أن سوناك لن يكون في مستطاعه تضييق الفجوة بينه وبين المرشّحة الأوفر حظّاً. لذا يجب أن نبدأ في التفكير بالشكل الذي ستكون عليه حكومة تراس.
الاعتقاد السائد حتى الآن، هو أنها ستنطوي على تصوّرٍ خيالي في تشكيل الحكومات. فقد أضافت تراس ليل أمس عنصراً جديداً إلى التخمينات السائدة، من خلال إطلاق وعدٍ لسوناك بأن يكون له موقعٌ في حكومتها. من الناحية العملية، ليس ذلك إلا مجرّد وعدٍ بمركز، بحيث إن المنصبَين الوحيدَين اللذين من المحتمل أن يقبلهما، نظراً إلى أنه يبدو من البديهي أنها لن تعيده إلى وزارة الخزانة، هما وزير الخارجية أو وزير الداخلية.
ويُعدّ إسناد إحدى هاتين الحقيبتين إلى سوناك تعييناً لا بأس به، ومن شأنه أن يفي بتعهّدها تشكيل حكومةٍ موحّدة تضمّ مختلف المواهب، على عكس رئيس الوزراء الراهن بوريس جونسون، الذي قدّم لمنافسه المهزوم جيريمي هانت عرضاً ما كان ليقبله، بأن يكون وزيراً للدفاع .
وسواءٌ عاود ريشي سوناك الانضمام إلى الحكومة أم لا، فإنني أتوقّع أن يبقى في "مجلس العموم". وفيما يفترض بعض الناس أنه سيرغب في العودة إلى جني الأموال، نظراً إلى كونه شخصاً ميسوراً، إلا أنني أعتقد أن هذا التفكير ينمّ عن فهم خاطئ. فهو يطمح إلى أن يكون رئيساً للوزراء، وفي سن الثانية والأربعين أرى أن هذه لن تكون فرصته الأخيرة، خصوصاً إذا ما كانت الاضطرابات التي ستحملها السنتان المقبلتان، ستثير في البلاد ما أتوقّعه من بلبلةٍ وأعمال شغبٍ مختلفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربّما أن مردّ توقّعي هذا، هو الحالة المرتقبة للوضع الاقتصادي في البلاد خلال السنتين المقبلتين، التي تجعلني أعتقد أنها هي التي دفعت بـ "المحافظين" إلى التنصّل من الواقع. فنحن نواجه تضخّماً مرتفعاً، وأزمة طاقة، وتراكماتٍ في قائمة انتظار المرضى لتلقّي العلاج في مرافق "خدمات الصحة الوطنية" (أن إتش أس) NHS إلى حدّ مخيف يعجز فيه العقل عن الإدراك. هل يريد حزب "المحافظين" شخصاً مسؤولاً سبق أن تمّ اختباره في خضمّ الأزمات، وهو على الرغم من أن استجابته لم تكن مثالية، إلا أنه تمكّن من اتّخاذ القرارات الصحيحة على نطاق واسع؟ أم أنهم يريدون شخصاً تمثلّت أعظم إنجازاته مع الحكومة في تحويل اتفاقات الاتّحاد الأوروبي التجارية مع دول أخرى إلى اتفاقاتٍ بريطانية؟
فلندع هذا الخيار جانباً. إنهم يريدون الاقتراع لمرشّح يستطيع الوعد بإجراء تخفيضاتٍ ضريبية، ويصطبغ بنهج ثاتشري أكثر تطوّراً، ويُعرف بـ"ولائه" لبوريس جونسون. إن حزب "المحافظين" ليس شديد التأثّر بالثاتشرية، بل بشخصيةٍ أسطورية تُدعى ثاتشر، وهي أسطورة ذات بعدين، فقد عملت على تخفيض الضرائب من جهة، وتمكّنت من إنقاذ البلاد من الخلل الاقتصادي المزمن الذي ضرب مفاصل الدولة من جهة أخرى، وذلك من خلال شخصية حديدية صلبة. وكلّما حاول ريشي سوناك أن يشرح فضيلة الأيديولوجية الثاتشرية لناحية إرساء منظومةٍ مالية صلبة ومتماسكة، كلّما قلّت رغبتهم في الإصغاء إليه.
لعلّ ما يثير الاستغراب فعلاً هو أن الحزب بات على وشك الانزلاق نحو أسطورةٍ أخرى، ظهرت معالمها في الأيام القليلة الماضية. إنها أسطورة بوريس المغدور المرتبطة بالأسطورة القديمة لمارغريت ثاتشر، ومفادها بأنها تعرضت للخيانة من جانب حكومتها، عندما تم إسقاطها في الواقع على يد النوّاب "المحافظين" ككل، خوفاً من أن تجعلهم يخسرون الانتخابات العامّة التالية.
المعتقَد الجديد الذي يقف خلفه بيتر كروداس العضو في "مجلس اللوردات" من حزب "المحافظين"، الذي من غير المرجّح أن يمتّ إلى القديس بولس بصلة، يشير إلى أن جونسون أسقطه متآمرون داخل الحكومة، كانوا يسعَون إلى أخذ منصبه، ومنهم بشكلٍ أساسي ريشي سوناك.
المفارقة أن في الماضي كان حزب "العمّال" هو الذي يطارده كابوس الخيانة، لكن من جانب زعيم يطعن أتباعه. وهي أسطورة تعود في الزمن إلى عهد رامزي ماكدونالد في العام 1931. أما أسطورة حزب "المحافظين" التي يعود تاريخها إلى العام 1990 فهي مختلفة، بحيث بات الزعيم هو الذي يتعرّض للخيانة من داخل صفوف مؤسّسته. والآن يبدو أن النسخة الجديدة التي تعصف بحزب "المحافظين" تضيف إلى قائمتها ضحيةً أخرى.
سيحاول جونسون التلاعب بتجاذبات هذه الأسطورة بما أوتي من قوّة، كما حذّر ويليام هيغ (رئيس الوزراء البريطاني الأسبق) الذي يفهم سيكولوجية الحزب، في حديثٍ مع صحيفة "تايمز" أمس. وبالفعل كشف اللورد كروداس أمس عن أن جونسون أبلغه بأنه "لا ينوي الاستقالة" من منصبه رئيساً للوزراء، ويأمل في أن يتمكّن من الاستمرار لخوض الانتخابات المقبلة.
استطلاعات الرأي في المملكة المتّحدة لأعضاء حزب "المحافظين"، تشير إلى أن نحو ثلثهم يتّفقون معه، وهذه النسبة تكفي لتوجيه بوصلة نقاش القيادة نحو اللاواقعية. ويعني ذلك أنه بدلاً من التطرّق إلى نقاشاتٍ تتناول سبل النهوض بالاقتصاد البريطاني وإعادة "خدمات الصحة الوطنية" إلى سكّة التعافي، وهو كلّ ما يجب أن يشكّل الهمّ الأول لحزب يطمح بالفوز بانتخابات خامسة متتالية غير مسبوقة، نجدنا أمام استعراض سياسي مرعب، يطاردنا فيه شبحا ثاتشر وجونسون.
© The Independent