"لقد تنبأ أرسطو بذلك باكراً حين قال إنه إذا كان بإمكان كل أداة أن تعمل من دون سابق إنذار، وبالتحديد من تلقاء نفسها، فإن وظيفتها ستكون الأكثر ملاءمة لراحة البشر. فإن كانت روائع دايدالوس تتحرك من تلقاء نفسها، أو كانت حوامل فولكان ثلاثية الأرجل تنطلق تلقائياً للقيام بعملها المقدس، فلماذا لا يتمكن النساجون، على سبيل المثال، وتبعاً لهذا المنطق، من أن ينسجوا مكوكاتهم بأنفسهم، فلن يحتاج رئيس العمال إلى مساعدين، ولا سيد العبيد إلى من ينفث النار، بأطراف فولاذية، لا تعرف الكلل، وبخصوبة رائعة لا تنضب، وبالتالي يتم إنجاز العمل المقدس دونما حاجة إلى قوة بشرية. مع ذلك، فإن عبقرية فلاسفة الرأسمالية العظماء لا يزال يهيمن عليها التحيز للعمل المأجور، وهو أسوأ أشكال العبودية. لم يفهموا بعد أن الآلة هي فادي البشرية، الكائن الذي سيقوم بدلاً من الإنسان بكل الأعمال العسيرة بحيث إن هذا الإنسان سيعود إلى غرائزه الطبيعية، ويعلن استعادته حقه المقدس هذا في الكسل، الذي هو في الحقيقة أكثر قداسة بألف مرة من حقوق الإنسان الاستهلاكية التي ابتدعها دعاة الثورة البورجوازية الميتافيزيقية، لو حقق الإنسان حلم أرسطو هذا سيجد نفسه وقد اضطر إلى العمل ما لا يزيد على ثلاث ساعات فقط في اليوم. أما في الأوقات الباقية فإنه يتوقف عن العمل ويعيش على هواه بقية النهار والليل... إذاً، دعونا نكون كسالى في كل شيء ما عدا في الحب والشرب".
هل هو حلم أرسطو حقاً؟
لسنا ندري إذا ما كان كاتب هذا الكلام أو قائله، ينهل حقاً مما يسميه حلم أرسطو. أو إذا ما كان الفيلسوف الإغريقي الكبير قد حلم بهذا حقاً. لكننا نعرف أن العبارات ترد في كتاب عنوانه "الحق في الكسل" أصدر بول لافارغ طبعته الأولى في عام 1880 ليحدث ضجة كبيرة في عالم الفكر الاشتراكي الذي كان منتشراً في ذلك الحين. والحقيقة أن الكتاب نفسه ما كان من شأنه أن يثير أي ضجة حقيقية لولا اسم مؤلفه ومكانته العائلية. فالمؤلف هو بول لافارغ صهر الثالثة بين بنات كارل ماركس، وأحد الناشطين في التحركات والمؤتمرات الاشتراكية مستنداً إلى قرابته عن كثب مع صاحب "رأس المال" ومؤسس العديد من الأمميات الاشتراكية والشيوعية، ما يعني بالتحديد أن المؤلف لا يكتب خارج سياق ارتباطه بعمه هو الذي لم يكن على خلاف معه على الإطلاق. لكنه كان يكتب في المقابل في نوع من الرد النظري على باحث اشتراكي فرنسي، أي أخ له في المواطنية، هو لوي بلان الذي كان ذا مكانة كبيرة في الحركة الاشتراكية، وكان معروفاً بتناحره مع كارل ماركس وشريك هذا الأخير في نضالاته وكتاباته فردريك إنغلز. وسواء كان لافارغ يكتب انطلاقاً من مناحرة بلان أو عن قناعة نظرية مطلقة، فإن "الحق في الكسل كان من شأنه أن يمر مرور الكرام ولا يلفت انتباه أحد، لولا وجود كارل ماركس نفسه في الصورة".
مغريات كتاب
مهما يكن من أمر فلا ريب أن كثراً من الباحثين قد وجدوا ما يغريهم في نص هذا الكتاب الذي اعتبروه بياناً فكرياً ودراسة اجتماعية واقتصادية تحلل البنية العقلية الكامنة خلف القيمة العملية المعطاة لمفهوم العمل في القرن التاسع عشر. بل أكثر من هذا رأوا فيه "نوعاً من إزالة الغموض" من حول فكرة "العمل نفسه وغموضه كقيمة بالنسبة إلى الحياة الإنسانية" خصوصاً أن لافارغ ينطلق من التأكيد على أن الكنيسة والاقتصاديين البورجوازيين وعلماء الأخلاق هم في جذور "هذا الغرام العبثي بالعمل". وهنا ينتقل لافارغ ليبحث كيف أن ذلك "الغرام" كان معدياً بحيث تمكن من أن يخلق "جنوناً غريباً" تمثل في "حب الطبقة العاملة نفسها للعمل" حباً يشبه حب الكلب لسيده" و"العبد لمستعبده". لكن لافارغ ينبهنا هنا إلى أن هذه العدوى ليست أزلية بل هي من بنات عالم اليوم، حيث إن "المجتمعات القديمة البدائية لم تعرف حب العمل"، وبالتالي لم يتمكن "دعاة التجارة من إفساد تلك المجتمعات". ومنذ تلك الأزمنة ولقرون تالية لم تكن للعمل تلك "القيمة المقدسة التي لا بد أن نلاحظ تغلغلها اليوم في كل مكان"!
الحق عليهم!
وهنا، يصب لافارغ جام غضبه على "الناطقين باسم العمال أنفسهم في أزمنتنا الحديثة هذه"، لا سيما منهم بالتحديد "البروليتاريا الفرنسية". لماذا؟ ببساطة لأن الثوريين الفرنسيين الأكثر تقدماً نادوا خلال انتفاضات عام 1948، في فرنسا كما في غيرها، بما سموه "الحق في العمل" ما عنى بالنسبة إليه أنهم ارتضوا أن يسلموا أنفسهم إلى بارونات الصناعة! وهكذا نراه يصرخ في مقدمة كتابه: "اعملوا... اعملوا أيها البروليتاريون، أنتم الذين بحقكم في العمل وشغفهم به لا تفعلون أكثر من تضخيم ثروات الأغنياء وآلامكم وفقركم في الوقت نفسه"! ولكن، ماذا يريد لافارغ من البروليتاريا ومفكريها أن يفعلوا والحال كذلك؟ لا يريد منهم أقل من أن يبدلوا السياق ويعكسوا الآية: يجب أن يطالبوا بحقهم في الكسل لا بحقهم في العمل. ولأن الكاتب الألمعي الذي من الواضح أن له محاججاته وليس مجرد شخص استفزازي يريد أن يسير عكس التيار، يورد في الفصول المتتالية من الكتاب أفكاراً تاريخية اقتصادية اجتماعية من الواضح أنه لم يقصّر في دراستها، حول تاريخ العلاقة بين الإنسان والعمل مستعيداً فكرة عمه عن "فائض القيمة" التي يخلقها العمل ويعرف البورجوازيون اليوم، كما عرف أسلافهم السادة والإقطاعيون والأرستقراطيون والصناعيون على مر التاريخ كيف "يشترونها بأرخص الأسعار ومن ثم يبيعونها للبائسين أنفسهم بأسعار تحقق للسادة الثروات فيما لا تكفي للبائسين، أصحابها الأصليين، لسد رمقهم".
مراجع مجهولة ومكتشفة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا يطلع الكاتب الشاب والصهر المدلل لماركس باستنتاجاته في هذا الكتاب الذي اشتغل عليه في لندن بدءاً من عام 1880 على هامش ترجمته لكتاب إنغلز عن "الاشتراكية الخيالية والاشتراكية العلمية" من الإنجليزية إلى الفرنسية وفي ما كان يمضي ساعات وساعات في رفقة عمه ما أتاح له الغوص في أوراق هذا الأخير من دون أن يبدو أن ماركس قد وجهه لوضع "الحق في الكسل". ولكن، في المقابل، يقول باحثون انطرح عليهم يوماً التساؤل عن المصادر الأساسية التي انطلق منها لافارغ في صياغة كتابه هذا، وهو الذي كان معروفاً ككاتب بيانات ومترجم لكنه كان غير معترف به كباحث متعمق في القضايا النظرية والتاريخ، يقولون إن ثمة كتاباً بالغ الأهمية عُثر عليه بين أوراق ماركس وكتبه عنوانه "عن الحق في أوقات الفراغ وتنظيم العمل العبودي في الجمهوريات الإغريقية والرومانية" كان قد صدر عام 1849 للفرنسي مورو كريستوف. ولسوف يتبين أن الفصول بالغة الأهمية التي يضمها هذا الكتاب حول ظروف العمل وأوقات الفراغ في الزمنين الإغريقي والروماني مستعيناً بإحالات لهيردوتس وأفلاطون وشيشرون وتيت – ليف وبلوتارخ وغيرهم تتعلق بالحياة اليومية للعبيد والعاملين في تلك المجتمعات، تلك الفصول تشكل المرجعية الأساسية لمعظم صفحات كتاب لافارغ! ولكن من دون أي ذكر للكتاب أو للاستعانة به من قبل هذا الأخير ولو في هامش من هوامش كتابه. والأكثر من ذلك أن لافارغ يستعين في نقاط أساسية من كتابه بست فقرات تحتوي معلومات حول الموضوع نفسه لا يذكر كونها مقتبسة عن ماركس إلا بالنسبة إلى واحدة فقط منها وحتى هذه يسهو عن باله أن يقول أين هي موجودة في سياق كتابات العم الشهير!
كتب عديدة قبل الانتحار
وبول لافارغ الذي ولد في كوبا عام 1842، كان ابناً لفرنسي موسر وهجينة من أصول هندية. وهو عاد مع العائلة إلى بوردو في فرنسا عام 1851 ليتوجه بعد سنوات إلى باريس لدراسة الطب، وهناك اختلط بالأوساط الاشتراكية والثورية من خلال صديقه شارل لونغيه الذي سيتزوج لاحقاً جيني ابنة ماركس الكبرى. وفي عام 1865 توجه لافارغ إلى لندن كممثل للحركة العمالية الفرنسية في المؤتمر العام للأممية وبات ملازماً لكارل ماركس ومرافقه بشكل يومي، ما جعل من الطبيعي له أن تقع لورا الثالثة بين بنات المعلم في غرامه ويتزوجها ليصبح من "أقطاب" الحركة الاشتراكية وحتى من قبل أن يكتب "الحق في الكسل" الذي سيكرسه مفكراً ولكن ليس لسنوات طويلة بالطبع! حتى وإن كان سينشر كتباً عديدة قبل أن يموت منتحراً عام 1911.