بمهارة عالية يتحكم الجد سيد في عجينة الطين الأحمر، وبيديه المجعدتين يضع حفنة منها على دولاب كهربائي يدور عكس عقارب الساعة ليشكل أواني فخارية بأشكال وأحجام مختلفة تجسد تاريخ وتراث سكان غزة.
كشاب في مقتبل العمر يعمل سيد برفقة ثلاثة أجيال من أبنائه وأحفاده في ورشة لصناعة الفخار، كان قد ورثها عن جده قبل نحو 75 عاماً، ولا يزال يحافظ عليها كما هي على شكلها القديم وأدواتها البالية التي تحتاج إلى صيانة دورية، فهي بالكاد تعمل.
حرفة تقاوم الاندثار
يقول الجد المشغول بالعمل، "حرفتي لم تندثر، ولن يحدث ذلك لأني علمتها لأبنائي وأحفادهم، وأخذت عهداً منهم بالحفاظ عليها وتعليمها لأحفادهم، هذه المهنة لا يمكن أن تصبح من الماضي على الرغم من التقدم الصناعي، فهي مرتبطة بالتراث والعادات والتقاليد، ولا يزال لها جمهور يحبها".
صناعة الفخار تعد من أقدم الحرف اليدوية في تاريخ الإنسان، ووصلت الأراضي الفلسطينية قبل أربعة آلاف سنة، وتحتل غزة المرتبة الأولى بين المدن الفلسطينية في صناعة الأواني التراثية من الطين الأحمر، ولا يزال الحرفيون يعملون على توريث المهنة لأبنائهم حفاظاً عليها من الضياع، فضلاً عن أنها مصدر رزق وطوق نجاة لهم.
منذ أن كان الجد سيد طالباً في المدرسة تعلم صناعة الفخار، ومنذ ذلك الوقت لم يمتهن أي حرفة غيرها. ويشير إلى أن الطين الأحمر لا يزال يحتفظ بمكانته التاريخية وسط انخفاض الطلب على اقتنائه، ومع ذلك ما زال يقاوم الاندثار، وعلى الرغم من الحصار لم تدفن هذه الحرفة التي أساسها التصدير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثمانية مصانع فقط
ثمانية من أصل 50 ورشة لصناعة الفخار هي الإرث التاريخي المتبقي منها في قطاع غزة، ووفقاً لإفادة كل أصحاب منشآت فإن معدل المهنيين لديهم لا يزيد على ثلاثة، ما يعني أن عدد العاملين في هذا القطاع لا يتجاوز 30 عاملاً. يرى سيد أنه على الرغم من ذلك فإن هذا المؤشر يعد دليلاً على قدرة هذه الحرفة على الصمود في وجه الانقراض والتوقف وسط كثير من التحديات والصعوبات التي تواجه العمل.
في منطقة واحدة وسط مدينة غزة تنتشر معامل الفخار الأحمر الثمانية، وتعد ورشة الجد سيد أقدمها، فهي بدأت العمل عام 1950، وتعاقب عليها أربعة أجيال، فيما يمكن وصف من يعمل فيها بالفنانين أكثر من حرفيين، فكل يعرف مهمته بدقة، يعملون في صمت، ولا يبالون باحتكاك الطين في أيديهم.
يقول سيد "مختار الفخار"، كما يسميه العمال، إن الطين الأحمر موجود بوفرة في أراضي غزة، ويتم تصنيع أشكال مختلفة منه بواسطة آلات متواضعة، حيث نعمل على تحويله إلى أواني منزلية للطهو، وأباريق الشرب، ويتم تصنيع قوارير زراعة الزهور، إضافة إلى تصنيع التحف والهدايا من الفخار.
في العادة، يجلب الطين الأحمر من المناطق الحدودية مع إسرائيل، ويتعرض العاملون أثناء وجودهم هناك لمضايقات عديدة، يشير سيد إلى أن صناعة الفخار تحتاج إلى مهارة وخبرة، وهي مهنة شاقة جداً لا يستطيع أحد أن يتحملها سوى عشاقها.
مراحل صناعة الفخار
وبحسب الجد سيد، يدخل صناعة الفخار في عدة مراحل، فبعد جلب الطين الأحمر يوضع في حوض كبير، ويضاف إليه الماء من أجل تذويبه لفرز الشوائب والحصى والقش منه، وبعد ذلك تبدأ مرحلة التصفية والعجن، إذ يوضع الصلصال في آلة خاصة لجعله متجانساً وجاهزاً لمرحلة التشكيل اليدوي بواسطة الدواليب.
بضربات تبدو عشوائية، لكنها محسوبة تتحرك يدا سيد المجبولتان بالطين لتشكل الجسم المراد تصميمه، وبانسيابية وليونة تتحرك قطع الطين بين يدي "مختار الفخار"، كأن بينهما تناغماً وفهماً مشتركاً بعد 40 سنة من العمل في هذا المجال. يقول إن لكل حركة وكل لفة ينفذها دوراً في تشكيل وتصميم الفخارة.
وبعد الانتهاء من صناعة الفخار تأتي المرحلة النهائية، وهي عملية حرقه داخل أفران خاصة على شكل أكواخ وفي درجة حرارة تصل إلى 900 درجة مئوية. ويوضح سيد أن الهدف من ذلك جعل الفخارة تتماسك.
وتحتاج الفخارة الواحدة إلى قرابة 20 يوماً حتى تجهز، فيما ينتج المصنع 500 قطعة باليوم من مختلف الأصناف، لكن الواحدة تباع بثمن لا يتجاوز ثلاثة دولارات. ويشير سيد إلى أن أرباح هذه الصناعة محدودة جداً، وبالكاد تفي ببعض المتطلبات اليومية.
يستذكر سيد المهنة قبل 10 سنوات في زمن ازدهار تلك الصناعة حين كانت تلك الأدوات تشق طريقها خارج قطاع غزة لتصدر لدول عربية إلى جانب إسرائيل، كما أنها كانت تباع للسياح القادمين إلى القطاع. ويلفت إلى أن ذلك توقف منذ عام 2011 تقريباً، وحينها اندثرت الحرفة جزئياً.