في الأدبيات السياسية التي سيطرت على مواقف قيادات الثورة الإيرانية، بخاصة التيار الممثل والمقرب لمؤسس النظام الإيراني روح الله الخميني، سواء قبل الانتصار في فبراير (شباط) عام 1979 أو في ما بعد، كان التأكيد على أن السياسة التي سيعتمدها النظام الجمهوري المنبثق من هذه الثورة، هي سياسة "لا شرقية ولا غربية"، وما تعنيه من الابتعاد عن الاستقطابات القائمة والمسيطرة على الساحة الدولية وتوزيع الانتماءات بين المعسكرين الغربي والشرقي أو بتعبير مباشر بين المعسكرين الأميركي والسوفياتي.
أسهمت الحركة التي قامت بها مجموعة من الطلاب "السائرين على خط الإمام" باحتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز أكثر من 54 شخصاً من طاقمها الدبلوماسي لمدة 444 يوماً، أسهمت هذه الحركة في قطع الطريق على كل المساعي التي كانت تبذلها الحكومة المؤقتة برئاسة مهدي بارزكان وفريقه لبناء علاقة متوازنة مع الإدارة الأميركية. وقد أدى احتلال السفارة إلى نقل العلاقة المتوترة بين الطرفين إلى مواجهة مفتوحة وصراع على المصالح.
في المقابل، رد الفعل السوفياتي، على التغيير الذي أحدثته "الثورة الإسلامية" وتغيير النظام الملكي في المشهد الجيوسياسي في منطقة غرب آسيا، ترجمها قرار الدخول إلى أفغانستان واحتلال هذا البلد عام 1979 دعماً للحكومة الموالية لموسكو والتي شكلها حزب الشعب الديمقراطي الماركسي. بخاصة أن هذا النظام وبحسب السردية السوفياتية كان يتعرض لتهديد من جماعات إسلامية مدعومة من أميركا والصين والسعودية وباكستان.
هذا الوضع الجيوسياسي، المواجهة مع واشنطن من جهة والتي تتهمها طهران بدعم الحرب العراقية - الإيرانية، ومن جهة أخرى الوجود السوفياتي على حدودها الشرقية، والمعلومات الاستخباراتية بمحاولة موسكو لدعم انقلاب عسكري - حزبي على القيادة الدينية للثورة والنظام الإسلامي، وذلك بالتزامن مع الكشف عن محاولة انقلاب أميركية "نوجة" بقيادة عدد من ضباط الجيش، انطلاقاً من القاعدة الجوية العسكرية في محافظة همدان. هذا الوضع دفع النظام للتمسك بشعار "لا شرقية ولا غربية" ومحاولة إعادة إحياء تجربة منظمة دول عدم الانحياز التي كانت لا تزال على قيد الحياة في تلك المرحلة، وعمل حكومة طهران للانضمام إليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من التوترات التي هيمنت على علاقات النظام الإسلامي مع العواصم الدولية وممثلياتها الدبلوماسية في طهران، بخاصة السفارتين الروسية والبريطانية، إلا أن الأمور لم تذهب لتكرار تجربة ما حصل في السفارة الأميركية، التي انتقلت من حالة التوتر إلى المواجهة المفتوحة والمباشرة على خلفية الكثير من الملفات والأزمات المتوالية، مع وجود رغبة دفينة لدى الطرفين في إعادة ترميمها كل بالشروط التي تناسبه، حتى أن الخميني لم يقفل باب الحوار مع الإدارة الأميركية، والذي برز من خلال رد فعله الهادئ وغير المتوتر على الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي إلى طهران روبرت ماكفرلين والتي عرفت بفضيحة "إيران غيت" أو "إيران- كونترا". وهذا لم يلغ من الحسابات خلفيات الصراع بينهما، بخاصة ما يتعلق بالدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط والحرب العراقية والدعم الذي تقدمه لإسرائيل، بعد أن تبنت طهران شعار دعم القضية الفلسطينية ودخول طهران على خط الأزمة اللبنانية مباشرة والعمل على تشكل تنظيم "حزب الله" الموالي لها، بحيث يكون المدخل لتكريس دورها في أي تفاهمات قد تحصل في أزمة الشرق الأوسط والصراع العربي - الأسرائيلي والقضية الفلسطينية، وهذا البعد يتوضح في التوصيات التي طرحها الخميني على المسؤول الذي تولى مهمة متابعة بناء الخلايا الأولى لـ "حزب الله" في لبنان، وقد أشار لها في مذكراته سفير إيران في سوريا بداية ثمانينيات القرن الماضي علي أكبر محتشمي بور الذي يعتبر عراب تشكيل الحزب اللبناني.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت قيادة النظام الإيراني، التي انتقلت إلى يد المرشد علي خامنئي يعاونه في ذلك رئيس الجمهورية علي أكبر هاشمي رفسنجاني، من أكثر الجهات الإقليمية إدراكاً لأبعاد وتداعيات هذا الانهيار. إذ وجدت نفسها أمام تحدي التعامل مع الأحادية الأميركية وتداعيات هذا التحول الاستراتيجي على معادلات الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا التي تعتبرها طهران مجال مصالحها الحيوي. بخاصة أن هذا الانهيار سبقه انسحاب سوفياتي من أفغانستان، وانهيار الإدارة السياسية التي أنشأتها التنظيمات القريبة أو المتحالفة مع إيران "تحالف الشمال" أمام ضربات قوات حركة "طالبان" التي اجتاحت هذا البلد مدعومة من حلفاء واشنطن بخاصة باكستان.
وقد ارتفعت حدة القلق الإيراني من إمكانية إخراج النظام من المعادلات الإقليمية، مع انعقاد مؤتمر مدريد للسلام بين الدول العربية وإسرائيل برعاية أميركية. والذي جاء كأحد نتائج الاحتلال العراقي الذي قام به صدام حسين لدولة الكويت، والتي سمحت بتواجد أميركي عسكري وأمني كبير وواسع على حدودها الغربية والجنوبية. ثم الإعلان عن توقيع اتفاقية السلام الإسرائيلي - الفلسطيني في أوسلو. وهي التي دفعت النظام لإعطاء الضوء الأخضر لفتح الجبهة اللبنانية في حرب عام 1993 بين "حزب الله" و"إسرائيل"، الأمر الذي أعاق المخططات التي رسمتها الإدارة الأميركية لمسار السلام الشرق أوسطي، وأعاد طهران كفاعل ومؤثر في خريطة الأحداث في المنطقة إلى جانب النظام السوري بقيادة الرئيس حافظ الأسد.
وعلى الرغم من الجهود والاتصالات والتواصل الذي قامت بها إدارة رفسنجاني وبمعرفة المرشد الأعلى مع الإدارة الأميركية، والتي أسهمت إلى حد ما في كبح مسار التوتر بينهما، إلا أن التفجيرات التي حصلت في ألمانيا "ميكونوس" وقبلها في بوينس أيرس الأرجنتينية ضد الكنيس اليهودي، دفعت العلاقات الإيرانية - الأوروبية إلى مرحلة القطيعة بعد أن أعلنت دول الاتحاد الأوروبي سحب سفرائها من طهران.