في مجموعته القصصية الجديدة "كتاب الشتات اليمني" (كتاب "ميريت الثقافية"، القاهرة، 2022) يمارس الكاتب خالد اليماني، وزير الخارجية اليمني الأسبق، فعلين متشابكين. أولهما وأوضحهما: فعل الانغماس المباشر في لحم الواقع وتجاربه الحية المؤلمة، أي أزمة اليمنيين المهجرين قسراً بل هرباً من جماعة الحوثيين. أما الفعل الثاني، فهو الفعل السردي التخييلي، وذلك بالعزف الحزين على أوتار المآسي الإنسانية للنازحين والمشردين واللاجئين، والاشتغال الفني على مآزقهم اليومية والمواقف المؤسفة التي كابدوها في رحلات نزوحهم الدامية بسبب الأوضاع المضطربة التي يعيشها اليمن.
وعلى الرغم من حرص الكاتب على إحداث قدر من التوازن بين ما هو حقيقي وتسجيلي ومعلوماتي من جهة، في شأن هؤلاء الشخصيات/ الضحايا، وما هو مختلق من تفاصيل تفرضها العملية الإبداعية من جهة أخرى، فإن الذي لا يخفى هو أن بطولة هذا العمل تذهب في المقام الأول إلى قضيته الأم أو موضوعه المحوري "الشتات اليمني". بل إنه يمكن القول إن القصص الخمس التي تضمنتها المجموعة، المكتوبة أحياناً بضمير المتكلم، وبصوت الراوي العليم في أحيان أخرى، هي صرخات زاعقة من أجل لفت انتباه العالم إلى هذه الكارثة. فرحلات الهجرة، غير الشرعية في معظم الأحوال، ليس بإمكانها النجاة من الموت، السريع أو المؤجل، الجسدي أو النفسي، الحقيقي أو المجازي.
ويكاد يستوي في هذا "العدم" أو "اللا وجود"، أولئك الذين غرقوا في البحر أو لقوا حتفهم في الصحارى والغابات والأحراش الحدودية قبل وصولهم إلى مقاصدهم، والذين اقتيدوا إلى السجون أو إلى معسكرات اللاجئين بما تحويه من بؤس وإهانة، والذين بلغوا شواطئ الوصول والإقامة في بلدان غريبة تضطهدهم وتلفظهم وتنتهكهم معنوياً.
الانتصار للضحايا
منذ الوهلة الأولى، وعبر شواهد كثيرة، يجد المتلقي ذاته في خضم الويلات التي تجري على الأرض، وفي مرمى هدف المؤلف الأساسي من كتابة هذه المجموعة القصصية، وهو "الانتصار للضحايا، عبر نقل صورة أدبية، جمعت فيها خمس قصص متناثرة، وصنعت فيها شخوصاً وجدوا في واقع اللجوء المرير، على الحدود البيلاروسية مع بولندا، أو الهنغارية مع ألمانيا، أو المغربية مع إسبانيا، أو في كوريا الجنوبية، أو في ممرات الهجرة غير الشرعية عبر أميركا الوسطى، وصولاً إلى الولايات المتحدة وكندا"، بحسب كلمة اليماني في مقدمة الكتاب.
العنوان أيضاً، ولوحة الغلاف للفنان أحمد اللباد، كنافذتين على المحتوى، لا يدعان مجالاً للابتعاد عن ذلك التركيز المقصود على الغرض، وبكل قوة. يضع العنوان الدال القصص أمام مسؤوليتها في إثبات ذلك "الشتات اليمني"، وتوثيق رحلات الهجرة والتمزقات والجراحات التي انتابت الضحايا بسبب الحروب والنزاعات المسلحة والجبهات المتناحرة والانقسامات الداخلية منذ عام 2015، إلى جانب سيطرة الحوثيين على مناطق واسعة من البلاد، ونشاط عناصر الدواعش والتيارات المتطرفة. وتختصر لوحة الغلاف تلك الآلام والأوجاع الذي ذاقها الشعب اليمني في ملامح الوجه المنكسر المهشم، كحقل قديم تعرض للتفجير والتدمير ومحو مظاهر الحياة من قسماته.
وقبل وصول القارئ إلى متون القصص الخمس، ثمة عتبة مفتاحية ثالثة يصادفها، بعد العنوان والغلاف، تكثف الضوء أكثر على المقصود بهذا الكتاب. هذه العتبة هي توطئة المؤلف المعنونة بـ"الانتصار لضحايا الحرب، انتصار لليمن الذي نحلم به". وفيها يشير اليماني، مندوب الجمهورية اليمنية الأسبق لدى الأمم المتحدة، إلى حصاد المأساة الإنسانية في اليمن مع نهاية سبع سنوات من الحرب والقتل والدمار والمجاعة.
ويوضح اليماني في مقدمته أن "وقع المأساة جلل على الآلاف من أبناء اليمن ممن تقطعت بهم السبل في مشارق الأرض ومغاربها، وهم يسلكون الغابات ويجتازون الصحارى، ويخوضون في البحار والأنهار، يتعرضون خلالها لأسوأ أشكال الإذلال والقهر والعوز، في محاولاتهم المستميتة للجوء إلى أوطان بديلة، توفر لهم الحد الأدنى من العيش الكريم، بعد أن استحال وطنهم مقبرة جماعية، وأصبح ماؤه غوراً". ويتوجه المؤلف بالحب والوفاء إلى شخوص قصصه، الذين يقصد من ورائهم أولئك الشخوص الحقيقيين في "واقع اللجوء المرير"، الذي هو أشد قسوة من أي خيال.
وجوه لمحنة واحدة
على هذا النحو، تنطلق القصص الخمس، بمشاهدها ولقطاتها الإنسانية، من خلفية مكانية وزمانية محددة، وأحداث واقعية وشخوص حقيقيين. وقد جاءت عناوين القصص بدورها مستمدة من أسماء الشخصيات والبلدان والأمكنة والجسور والمعابر الحدودية، "من غابة داريين إلى معبر الباسو... الموت يقتفي أثرنا"، "عائشة على الرغم من الموت!"، "من يكلا إلى مليلة"، "يا هارب من الموت... يا ملاقيه!"، "ابن ريمة... ابن بوهونيكي".
وهنا يأتي دور الفعل الثاني الذي يمارسه المؤلف، بوصفه قاصاً، وهو الفعل السردي التخييلي. ويتحقق ذلك من خلال المعالجة الفنية وفق آليات هذا القالب الإبداعي، وهي معالجة لا تخلو كذلك من فلسفة الحدث، واستشفاف عبثية ما تسفر عنه نتائج هذه المعارك الضارية "ربما أدرك بعض المسافرين أو جلهم، أنهم ليسوا سوى قطعان بشرية تساق إلى المجهول في صراعات السياسة بين الدول. كان مصطفى وآخرون يعلمون أنهم بيادق في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وأن في الأمر مخاطرة جسيمة، ولكن كيف السبيل بعد أن آلت أوطانهم لقوة طاردة لهم، وهذا الطريق الذي يسلكونه، على الرغم من خطورته، أهون عليهم من البقاء في أوطان غير قابلة للعيش!".
يفسح الفضاء القصصي المجال للوجوه المتعددة (أبطال القصص الخمس من الذكور والإناث الذين أجبروا على الهجرة من اليمن فيما بعد عام 2015)، لكي تشكل تنويعات متباينة الحيثيات والتفاصيل لمحنة واحدة، هي محنة الشتات اليمني بطبيعة الحال. وتبرز كل قصة خصوصيات أبطالها المأزومين عبر المراحل المتتالية للأزمة، بداية من وجودهم في بؤرة الخطر ومناطق النزاع في اليمن، مروراً بخطوات النزوح عبر التحايل "الزواج الصوري من جنسيات أجنبية" أو عبر المهربين والسماسرة وقوارب الهجرة غير الشرعية، نهاية بالموت في أثناء الرحلة أو السقوط في أيدي السلطات والترحيل إلى السجون أو المخيمات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما لا تغفل القصص الجذور العائلية للشخوص، وعلاقاتهم العاطفية والاجتماعية، وسماتهم النفسية والسلوكية، والصراعات التي خاضوها أو تورطوا فيها رغماً عنهم داخل اليمن قبل إقدامهم على الهجرة "ردد مصطفى "الحمد لله" كثيراً لأنه غادر عدن، على الرغم من أن غصة كانت تعتصر فؤاده لأنه ترك في عدن أحب إنسان إلى قلبه، أميمة، وترك معها عهوداً، ويميناً مغلظة بالزواج وتكوين عش يجمعه مع بنت الجيران، التي كانت تعشعش في كيانه بجمالها الأخاذ".
وفي حالة "النجاة الظاهرية" لبعض النازحين، وبلوغهم جهة الوصول، فإن القصص ترصد كذلك المصير المحتوم لهؤلاء المهجرين الحاصلين على الإقامة بالخارج. وهو مصير تستوي عنده الحياة والموت، فهم يواجهون في أحوال كثيرة بالتمييز والاضطهاد، ويصنفون كإرهابيين ومتحرشين، وقد يصابون بالأمراض النفسية القاتلة "ليس هناك كثير مما يمكن قصه عن السنوات الأربع التي قضاها مصطفى في مدينة أوبسالا الواقعة إلى الشمال الغربي من العاصمة ستوكهولم، حتى تحصل على الإقامة الدائمة. وكانت العزلة والاكتئاب هما العناوين الأبرز لتلك السنوات، والكوابيس لم تفارقه يوماً، ولم تدعه يهنأ بعيشه الجديد. وتردد على عديد من الأطباء النفسيين الذين ما استطاعوا إزاحة واحدة من كوابيس حياته. كانت الكوابيس تداهمه على شاكلة تفجر شرايين الدم من أجساد رفاقه في وجهه، فيصحو مرعوباً منها".
ما بين السطور
إن رهانات الاشتغال القصصي منعقدة في هذه المجموعة على التقاط مثل تلك الثنايا والزوايا الإنسانية، وتوسعة ما بين السطور، والهوامش، والمسكوت عنه، في الوقائع المعروفة، التي ربما تحدثت عنها وسائل الإعلام من قبل، كحادثة موت الطفلة في أحضان أمها اللاجئة على المعبر الأوروبي، وذلك لتحويل الحقيقي الجاف إلى طقس فني حاشد، ومنح كل شخصية حقها في الإفضاء بانفعالاتها وشحناتها النفسية عند كل منعطف في حياتها. ومن هؤلاء الشخصيات، مصطفى الذي سقط في أحراش الحدود البولندية، ودفن في قرية بوهونيكي، وعائشة المعلمة التي فرت ميليشيات الحوثيين قاصدة ألمانيا، وعبدالله الذي فر عبر الصحراء الأفريقية إلى الجزائر أملاً في الوصول إلى إسبانيا، وغيرهم من ضحايا الحرب والتدمير والتشريد في اليمن، فيما يغض العالم طرفه.
ولعل القاسم المشترك أيضاً في قصص هؤلاء المهجرين، الباحثين عن وهم النجاة والعيش في مجتمع بديل، هو أنهم استمدوا حماسهم الساذج لمغامرة الرحيل، من خلال شبكة الإنترنت العنكبوتية. فالإغراء بالهجرة يتسلل إلى بطل القصة عادة أو بطلتها، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي "كان فيسبوك صديقي في رحلة البحث عن فرص اللجوء في شمال أفريقيا وأوروبا الشرقية"، وليس بناءً على خبرات حياتية ومعلومات جادة موثوق بها، ومن ثم فإن رحلات الأحلام الفجة تنتهي عادة نهاية كابوسية.