كيفما انتهت الحرب في أوكرانيا -ولا بد للحرب من خاتمة- سيذكر رجل واحد باعتباره رائداً رفع راية وطنه بعد الغزو الروسي، وربما يذكره التاريخ باعتباره قائداً صنع الهوية المعاصرة لأوكرانيا.
أثبت الرئيس المبتدئ فولوديمير زيلينسكي الذي كان في منتصف ولايته الأولى أنه أهل لمواجهة التحدي الهائل الذي تمثله أعظم حال طوارئ قد تحل بأي بلد، ويعود الفضل إجمالاً في استمرار أوكرانيا بالمقاومة بعد خمسة أشهر على شن الروس هجومهم المتعدد الجوانب عليها، إلى القدوة الملهمة التي أرساها.
وقميصه الكاكي المميز ولحيته الخفيفة، كما بإطلالاته التلفزيونية الليلية والاجتماعات التي يعقدها مع العالم أجمع عبر تطبيق زوم، أصبح زيلينسكي وجهاً مألوفاً حتى في أصقاع بعيدة من الحدود الأوكرانية، ووضع بلاده على أنحاء خريطة العالم كلها. وفضلاً عن شجاعته الشخصية شبه العصية على الفهم، كشف زيلينسكي كذلك عما يتمتع به من قدرة -تتخطى موهبته الفطرية في التمثيل بأشواط- على عكس كل أوجه المزاج الوطني: من روح البهجة إلى الحزن الشديد، من الغضب الساطع إلى العزيمة والثبات. وقد خط النزاع آثاره على جبهته ليحوله من شخصية تلفزيونية استعراضية وشبابية إلى قائد حرب مخضرم في أقل من نصف عام.
ومن المنطقي أن نسأل كم من الوقت يمكن لرجل واحد أن يستمر على هذا الحال؟ وحتى لو ارتقى إلى مستوى المهمة مهما استغرقت من وقت، فماذا إذاً عن المحيطين به؟ وفيما تطول قائمة القتلى والجرحى، هل من حدود لقدرة البلاد على الاحتمال؟ أيعقل أن يشعر القائد بأن مسؤوليته تملي عليه طلب الهدنة، حتى بينما يعبر شعبه عن تصميمه -كما تفعل الأغلبية الساحقة في معظم استطلاعات الآراء- على مواصلة القتال؟ أم أن العكس صحيح: تضعف مقاومة الشعب قبل أن يضعف هو؟
إلى الآن، يبدو أن زيلينسكي يميل مع أهواء الشعب، إذ إن الشعور السائد هو الرغبة في المقاومة والإحجام عن تقديم أي تنازلات ميدانية. بعد بلوغ القتال هذه المرحلة يرغب بعض الأوكرانيين فيما يتجاوز العودة إلى الحدود التي سبقت غزو 24 فبراير (شباط)، فهم يريدون استعادة منطقة دونباس برمتها، ومعها شبه جزيرة القرم- وهو هدف يعتبره حتى أعتى مناصري أوكرانيا غير واقعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحق أن حروب الاستنزاف لا تسير وفق موازنة الحصول على كل شيء أو على لا شيء. فالوهن يتراكم على مراحل، ويظهر تصدع دقيق هنا، وشرخ أوسع هناك. ويمكن أن نرى أثر أول التصدعات التي ظهرت متأخرة، في جبهة الإدارة في كييف التي أظهرت إلى اليوم علامات الصلابة. ولا ريب أن زيلينسكي رممها بسرعة ومهارة، ولكن بانت فجأة للعيان لمحة من الضعف أثارت تساؤلاً عما إن كانت هذه استثناءات عابرة، أم إنها جزء من توجه أوسع وأكثر ضرراً.
أتى آخر التطورات وأكثرها درامية يوم الأحد 17 يوليو (تموز)، حين أقال زيلينسكي شخصين من دائرته المقربة، من منصبيهما. كان أحدهما، إيفان باكانوف، رئيس جهاز الأمن الأوكراني، "أس بي يو" (SBU). وتجمع الرجل بالرئيس صداقة تعود إلى أيام الطفولة، وتولى تنسيق حملته الانتخابية في عام 2019، وورد اسمه بين أول من عينهم زيلينسكي بعد توليه منصبه في يونيو (حزيران) من ذلك العام. وثانيهما، هي المدعية العامة إيرينا فنيديكتوفا، وتولت، بين مهام أخرى، مسؤولية قيادة التحقيقات في جرائم الحرب. وغني عن القول إن هذين المنصبين من المناصب الرئيسة في أي إدارة، وفي أي زمن، وتتعاظم أهميتهما حين يكون البلد في حال حرب.
وصدر لاحقاً توضيح يقول إن مهمة الاثنين علقت، ولم يفصلا نهائياً، وإن كليهما استبدل به على الفور تقريباً، مؤقتاً، أرفع نواب الرئيس مستوى: إذ حل محل باكانوف فاسيل ماليوك، الذي كان يشرف على وحدة مكافحة الفساد والجريمة المنظمة في جهاز "أس بي يو"، واستبدلت بفنيديكتوفا أوليكسي سيمونينكو. وصرح البيان أن سبب إزاحتهما تقني إجمالاً، والهدف منه -وفقاً لأحد مستشاري زيلينسكي (الكثر)- هو "قطع الطريق على احتمال تأثير هذين المسؤولين على سير الدعاوى الجنائية التي تخضع للتحقيق…".
ويمكن القول، بعبارات أخرى -إذا شئنا التنميق- إنهما أزيحا لتفادي أي شكل من أشكال تضارب المصالح، ولكن طبيعة الدعاوى الجنائية المقصودة لم ترح قلب أي أحد. فهي، على قول المستشار نفسه، "متعلقة بموظفين في (أس بي يو) يشتبه في تعاملهم مع الدولة المعتدية"، أي روسيا.
والقضية المقصودة بالتحديد هي قضية أوليه كولونيتش، أحد كبار مسؤولي "أس بي يو" الذي سبق أن عهد إليه مهمة رصد الحوادث الجارية في شبه جزيرة القرم (وهي تحت الاحتلال الروسي). وهو عين في عام 2020، وقدم استقالته في فبراير (شباط) بعد الغزو الروسي، ثم اعتقل بتهمة الخيانة العظمى قبل الإعلان عن تعليق باكانوف وفنيديكتوفا عن العمل بمدة وجيزة. وقال زيلينسكي للأوكرانيين، في إحدى إطلالاته التلفزيونية المسائية، إن "كل شخص كان عضواً معه في مجموعة مجرمة عملت لصالح روسيا الاتحادية سيحاسب على أفعاله"، مشيراً إلى أن الاتهام مرتبط بـ"نقل معلومات سرية إلى العدو ووقائع أخرى من التعاون مع الأجهزة الروسية الخاصة".
لكن المشكلة الأوسع مزدوجة. أولاً، قد يكون هذا المسؤول استثناءً، من حيث مرتبته الرفيعة، والإدارات الحساسة يشتبه في أنها تضم متعاونين مع العدو. وزعم زيلينسكي بأن "أكثر من 60 موظفاً في مكتب المدعي العام و(أس بي يو) لازموا المناطق المحتلة ويعملون ضد صالح دولتنا"- وهو أمر "يثير تساؤلات خطيرة جداً" في شأن رؤساء إداراتهم، كما قال. وأضاف، في منشور على قناة تلغرام للتواصل الاجتماعي، أن 651 قضية خيانة مفترضة قيد التحقيق حالياً.
والمشكلة الثانية هي أنه فيما قد يكون لتعليق باكانوف وفنيديكتوفا عن العمل مؤقتاً تبرير محدد وضيق، بات انطباع الوحدة والصلابة داخل إدارة زيلينسكي أقل إقناعاً من السابق.
ويجدر التشديد على أنه لم يلمح أبداً إلى الاشتباه في تعامل أي من باكانوف أو فنيديكتوفا مع روسيا، فهما متهمان بعدم التحرك ضد الأشخاص الذين ربما تعاونوا معها داخل إدارتيهما. إنما لا شك في جسامة الأذى اللاحق بمصالح أوكرانيا، إن كان هذا العدد الكبير من موظفي الدولة تعاون مع المحتل في مناطق البلاد الواقعة تحت سلطة الاحتلال بالفعل أو تلك المهددة بالاحتلال.
ويبدو أن زيلينسكي كان يحاول، عن طريق تسليط الضوء على مزاعم العمالة مع العدو، أن يغلق فجوة حيوية في دفاعات بلاده غير العسكرية. لم يرحل باكانوف، مثلاً، بشكل مفاجئ وغير متوقع، بل أعقبت مغادرته منصبه أسابيع من الإحاطات المتقطعة والسرية ضده، ونفى زيلينسكي -وهذا دليل ثابت على وجود اضطرابات سياسية- قبل ثلاثة أسابيع أن يكون منصبه مهدداً بأي شكل من الأشكال. وقال في إحاطة إعلامية في 27 يونيو "لو أردت أن أطرده لكنت قد طردته بالفعل".
وبعد مرور خمسة أسابيع على الغزو الروسي، أعلن زيلينسكي إقالة رئيس "أس بي يو" في خيرسون من الخدمة. وكانت المدينة أول المدن الأوكرانية التي وقعت بيد القوات الروسية، وقد حدث ذلك بسرعة أدت إلى توجيه اتهامات بوجود خائن في صفوف القوات. وحينها، قال زيلينسكي إنه لا يملك ما يكفي من الوقت للتعامل مع كل الخونة، ولكنهم سيعاقبون في الوقت المناسب. وربما حانت ساعة الحساب الذي يشمل التراخي في الانضباط.
وخلال شهر يوليو وحده، عزل زيلينسكي أكثر من عشرة سفراء تقريباً، منهم مبعوثو أوكرانيا في ألمانيا والنرويج والهند، في خطوة وصفت إجمالاً بأنها دورة تناوب اعتيادية مع أنه كان من الصعب عدم اعتبار تغيير السفراء في ألمانيا والهند انعكاساً لفشلهما في تعزيز الرسالة الأوكرانية بفاعلية.
كما ظهرت إشارات على وجود توتر بين الرئيس من جهة، وقائد القوات الأوكرانية المسلحة، فاليري زالوجني، من جهة أخرى، على خلفية إصدار الأمر بتقييد حركة الرجال الذين قد يستدعون للالتحاق بالقوات- أي معظم الرجال الأوكرانيين الذين يبلغون عمر الخدمة. وتذمر زيلينسكي علناً من أن الأمر قد صدر من دون مشاورته وتسبب بارتباك على الأرض. وقال للأوكرانيين خلال البث الليلي إنه يعمل على تسوية الموضوع. ولاحقاً، خرج زيلينسكي ليقول إنه لم يحدث أي "سوء تفاهم" مع زالوجني، مضيفاً "إن بلادنا في حال حرب وعلينا العمل كفريق".
كما وقعت حادثة غريبة في نهاية شهر مايو (أيار)، حين أقيلت ليودميلا دينيسوفا، مفوضة حقوق الإنسان في أوكرانيا، من وظيفتها في أعقاب تصويت برلماني بحجب الثقة عنها. ولم تكن هذه الخطوة في حد ذاتها غير مسبوقة وحسب، فالمفوضة واجهت كذلك معارضة من حزبي "عملاقي" البرلمان الأوكراني: الرئيس السابق بيترو بوروشينكو، وزعيمة المعارضة السابقة يوليا تيموشنكو، اللذين حافظا إلى الآن على وحدة برلمانية خلف زيلينسكي وحزبه، حزب خادم الشعب. وجاءت إقالة دينيسوفا في أعقاب اتهامها بالفشل في مهمة الإشراف على فتح ممرات إنسانية في مناطق الحرب، والعجز عن الحيلولة دون اختطاف الأوكرانيين من المناطق المحتلة ونقلهم إلى روسيا، وقصور الجهود من أجل حماية أسرى الحرب وتبادلهم.
وعموماً، سجل الشهر الماضي ظهور أول إشارات حقيقية على بداية الانقسامات داخل فريق زيلينسكي -وهو أظهر تماسكاً لافتاً خلال الأشهر الأولى التي تلت بداية الحرب- وبين احتمال وجود نقطة ضعف لدى الرئيس، ليس أقلها أهمية التعاون بين أوكرانيين وروسيا.
لكن أسباباً كثيرة قد تجعل الوضع الحقيقي أكثر تعقيداً، وتفسر تمكن زيلينسكي من تجنب أي ضرر حقيقي إلى الآن -سواء على قيادته أو سمعته- واحتمال استمراره على هذا الحال.
هذا بينما لا شك في أن طرد مسؤولين وفصلهم مؤقتاً عن العمل، واستقالاتهم واعتقالاتهم، كلها أمور حقيقية، تثير تحركات كل القادة السياسيين تساؤلات عما إذا كانت الاتهامات بانعدام الكفاءة لا تتستر على خلافات شخصية وسياسية اعتيادية.
ومن ناحية أخرى، طالما زيلينسكي وفريق إعلامه اللامع مستمران في السير بثبات على الطريق الذي يتبعانه منذ بداية الهجوم الروسي، قد لا يكون لهذه الأسئلة أي أهمية. وربما قلص زيلينسكي من خطاباته المصممة ببراعة أمام البرلمانات الخارجية وغيرها من المجموعات المؤثرة -ويعود جزء من السبب إلى أنه لم يعد يجد جمهوراً وافياً، ولكنه يستمر في مخاطبة القادة الأجانب- ومنهم بوريس جونسون بالطبع- والمشاركة في الفعاليات الدولية لجمع التبرعات والمكالمات الجماعية مع الممثلين الغربيين.
وهو يواصل بث خطاباته التلفزيونية الليلية التي يتوجه فيها إلى الأوكرانيين فيعلمهم بأحدث تطورات النزاع ويطلب دعمهم. وبما أن كل القنوات الإعلامية الأوكرانية متحدة الآن، وفي حال حرب، يبقى البث التلفزيوني الأداة المثالية التي يمكن للممثل السابق والخطيب المحترف أن يوصل رسالته عبرها. ويستمر هذا الحال حتى عندما لا تكون الرسالة أمراً يرغب الأوكرانيون في سماعه. ويحافظ زيلينسكي على مظهر الصدق ومصارحة شعبه حتى عندما تكون الأخبار سيئة.
كما يعقد إحاطات إعلامية دورية للصحافيين وغيرهم، كانت من بينها إحاطة داخل محطة مترو في كييف تعبرها القطارات. وهو يستقبل الزعماء الأجانب- ويتنزه معهم أحياناً، كما فعل مع بوريس جونسون في شوارع العاصمة. ويقلد الجنود الميداليات، ويعود الجرحى في المستشفيات، ويزور الجبهة بين الفينة والأخرى.
ويتوسل بكل ظهور له إلى تقديم صورة القيادة الهادئة، من جانب، ويعكس من جانب آخر، مخاوف الشعب الآنية والمتغيرة. وهو كان أول من أعلن، من موقعه كرئيس، عن مقتل ما بين 50 و100 مواطن أوكراني يومياً على الجبهة الشرقية، مقابل إصابة 500 آخرين. وحدث هذا في أواخر مايو، وكانت هذه أول مرة تكشف فيها أوكرانيا عن عدد خسائرها.
وظهرت على زيلينسكي علامات الصدق نفسها عندما حذر من خطر العملاء، في الليلة التي أقال فيها -أو أوقف مؤقتاً- رئيس الجهاز السري والمدعية العامة من منصبيهما. وتمكن من إذاعة نبأ هو فعلياً من أكثر الأنباء التي صدرت من مكتب الرئيس منذ بداية الحرب درامية، باعتباره أمراً منطقياً تماماً، ويصب في صالح الجميع. وحتى المصطلح الذي استخدمه -وهو قال إنه يمكن "حقيقة" النظر إلى الأمر على أنه برنامج "تطهير ذاتي"- مر مرور الكرام تقريباً مع أن ترجمة كلامه بعبارة "تطهير" دقيقة.
وبسبب ما يتمتع به الرئيس الأوكراني من طلاقة لسان و"غلاسنوست" (شفافية)، بقي الأوكرانيون متحلقين حوله إلى اليوم، فلا تزال نسب تأييده في استطلاعات الرأي تتجاوز الـ90 في المئة منذ اندلاع الحرب. وقدم لقادة وطنه -أو لقادة الأوطان عموماً- المقبلين دروساً في كيفية التواصل في زمن الحرب، في عالم معاصر، ولا شك في أن هذه الدروس باقية بعده. وفي مساعدة فريق -سمي جيش العلاقات العامة- مستعد لعرض القضية الأوكرانية والدفاع عنها في أي وقت، وفي أي منطقة من العالم، وعبر أي وسيلة كانت، أرست أوكرانيا، في ظل حكم زيلينسكي، معايير جديدة في خوض إعلام الحرب. ولا شك في أنها هزمت آلة الدعاية الروسية الخرقاء التي عفى عليها الزمن.
ويلقي سيرهي رودينكو، المعلق السياسي الأوكراني المستقر في مدينة لفيف الغربية، الضوء على نجاح زيلينسكي، ولا سيما على كيفية تطويره قدرته على التعبير السلس ومهاراته كمؤد، في أول سيرة شخصية للرئيس الأوكراني تنشر باللغة الإنجليزية*. ويعطي كتاب رودينكو، الذي قسم إلى 39 "مرحلة" قصيرة في حياة الرئيس، وليس إلى فصول، انطباعات متفرقة بدلاً من أن يقدم سرداً زمنياً متسلسلاً للأحداث. ويفترض الكتاب معرفة وثيقة بتعقيدات السياسة الأوكرانية- وهو أمر لا أتمتع به لا أنا ولا معظم الغرباء، بكل بساطة.
ولكن يجدر بنا التوقف عند بعض النقاط التي تسلط الضوء على بروز زيلينسكي على الساحتين المحلية والدولية، ومواضع القوة في شخصيته (وبعض مواضع الضعف)، والأهم من ذلك، المرحلة الاستثنائية التي عاش في أثنائها.
نشأ زيلينسكي في كنف عائلة يهودية لا تقيم العبادات الدينية، في مدينة كريفي ري الناطقة بالروسية، بوسط أوكرانيا. وبرز، في مرحلة مبكرة، في مسابقات الغناء والرقص التلفزيونية التي راجت في الاتحاد السوفياتي واستمرت بعد انهياره. وكان غالباً ما يصل إلى المراكز الثلاثة الأولى، وقد تمكن في النهاية من الفوز بالمرتبة الأولى، ومنح الإرث السوفياتي زيلينسكي الشاب منصة شبه عالمية ليؤدي عليها.
ومن خلال تفصيل يكاد مؤلف السيرة الذاتية أن يغفله، بينما من شأنه أن يساعد على فهم بعض الذهول الذي يصيب جيل المعمرين الروس اليوم في شأن ما حل بأوكرانيا، يروي رودينكو كيف كان زيلينسكي المراهق الذي نضج مبكراً، وفي وقت لاحق زيلينسكي الشاب، يتنقل حراً بين الدولتين الجديدتين، روسيا وأوكرانيا المستقلة، كما لو كانتا ما تزالان كياناً واحداً. وهو قضى بعض الوقت في السكن والدراسة والتمثيل في موسكو. وكان زيلينسكي، وهو يبلغ من العمر 44 سنة اليوم، في الثالثة عشرة حين تصدع الاتحاد السوفياتي، ولكن التغيير في أحوال الروس والأوكرانيين استغرق سنوات طويلة.
وما تغير فعلاً هو فرص الإبداع والتبادل التي طغت تدريجياً على ما تبقى من المؤسسات السوفياتية. ولم يبرز زيلينسكي كمؤد تلفزيوني ناجح جداً فحسب، بل كقائد محنك وناجح للفرق التلفزيونية والمسرحية. فهو يتمتع بتفكير مالي صائب- وحس دقيق لحقوقه اكتسبه بفضل شهادته في الحقوق. ولم يتخل يوماً عن حس الانضباط الذي كان سبباً في نجاحه عندما كان ممثلاً شاباً. وهذه الصفات تسطع اليوم، وهي من عوامل مقاومته.
وعند دخول السياسة في المسألة -وهو ما حصل حتماً بعد استقرار زيلينسكي بشكل دائم في أوكرانيا وأصبحت هذه أكثر وعياً باستقلالها أنشأ هو شركته الخاصة للإنتاج- تأخذ أحكام رودينكو منحى أكثر إبهاماً، وتنقلنا هواجسه كذلك إلى الوقت الحالي.
وجهت انتقادات كثيرة لزيلينسكي، بينما حين كان يؤسس فريق عمله بعد فوز انتخابي هز النخبة الأوكرانية القديمة، بسبب اعتماده الراجح على أصدقاء الماضي. وكان باكانوف -الذي تصدر تعليقه عن العمل أخيراً العناوين- من بين هؤلاء: صديق من أيام الحضانة، لم يفهم للوهلة الأولى ما مؤهلاته لتقلد منصبه. وقال بعضهم إن عدداً كبيراً من أصدقاء الرئيس كسالى اعتاشوا على الأموال العامة فيما فشلوا في تحقيق التغيير الذي وعد به زيلينسكي.
ونقيض هذه الحجة جائز كذلك. فمن كان من المفترض بشخص مبتدئ في السياسة أن يعين إذا أراد زيلينسكي الوفاء بوعده الانتخابي بالابتعاد عن الفئة القديمة في الحكم؟ ألا يعتبر الوفاء صفة إيجابية؟ وفي أي حال، ألم يبقَ فريق زيلينسكي مستقراً بشكل لافت، فعبر من السلم إلى الحرب من غير خسائر تذكر في طريقه؟ وألا تبرهن إقالة/تعليق عمل باكانوف قدرة زيلينسكي على التصرف الحاسم مع أصدقائه تماماً كما يفعل مع خصومه؟
إنها مرحلة حرجة في أوكرانيا، ولن يكون مفاجئاً أن تبدأ طلائع المعارضة في المناصب الرفيعة بالظهور، وأن يبدأ الرئيس -أي رئيس- بالشعور بالإجهاد. واليوم، يبدو أن كبار داعمي زيلينسكي في الغرب، والرأي العام في أوكرانيا، يجمعون على ضرورة استمرار القتال، ولكن تعاظم الخسائر قد يؤدي إلى وضع آخر.
وفي نهاية الأمر، يعود إلى نتيجة الحرب أن ترسم صورة زيلينسكي التاريخية: فإما يعتبر بطلاً أنقذ بلاده، أو زعيماً مأساوياً أساء تقدير قوته وقوة بلاده، ولكن لن يكون أي من الحكمين تاماً من غير الإقرار بأن زيلينسكي رجل استعراض- وزعيم شجاع برهن على سبل تسخير وسائل التواصل في القرن الحادي والعشرين لخوض حرب من القرن الحادي والعشرين.
والرأيان عليهما الاعتراف بأن في مقدور فرد واحد تغيير مسار التاريخ، إذا اتخذ موقفاً صلباً وألهم الآخرين السير على خطاه- مهما كانت النتيجة في النهاية.
*"زيلينسكي. سيرة ذاتية" لسيرهي رودينكو، بوليتي بوكس، صدر في يوليو 2022
© The Independent