لم يتخيل نجيب محفوظ أن يصبح اسمه "مؤسسة" تدر مالاً وتثير صراعات. ظل بطيبته المعهودة مع ناشره الأول "مكتبة مصر" لعقود طويلة حتى وإن لم يكن هناك التزام واضح بعدد الطبعات وحجم المبيعات. خلال هذه السنوات تعود ملايين القراء في العالم العربي رؤية الأغلفة بتصميم الفنان الراحل جمال قطب (1930 ـ 2016). كان قطب الرسام الأول لمؤسسة دار الهلال العريقة وتأثر بفنانين كبار مثل حسين بيكار ونورمان روكويل، ولا نبالغ إذا قلنا إن نصف أغلفة الأدباء المصريين لعقود حملت توقيعه وزينت ريشته أهم المجلات المصرية والخليجية. تميزت أغلفة قطب بمصريتها الواقعية وقوتها في الألوان والخطوط والمعاني التعبيرية، وتقديم أهم شخصيات الرواية للقراء. وباتت لها ألفة طاغية طيلة عقود كأنها جزء حميم من عالم محفوظ، فلا يمكن أن نتخيل الرواية من دون لوحات أورسومات قطب.
ثم جاءت المرحلة الثانية عندما تعاقدت دار الشروق، عقب الفوز بجائزة نوبل ببضع سنوات، على نشر أعمال محفوظ ورقياً وإلكترونياً، واعتمدت على الفنان حلمي التوني (1934) وهو رسام شهير لديه أسلوب خاص في التلوين واستثمار الموتيفات الشعبية والمصرية، وعمل أيضاً في مؤسسة دار الهلال. الفرق الأساسي بين التجربتين أن قطب أكثر واقعية ومباشرة، والتوني لا يخلو من مسحة أسطورية وغرائبية، ولا يميل إلى ازدحام سطح الغلاف بالوجوه.
ثم انتقلنا إلى المرحلة الثالثة مع منح حقوق النشر إلى دارين وليست واحدة. نالت مؤسسة "هنداوي" حق النشر الإلكتروني واحتفظت بشخصيتها لجميع إصدارتها، فصدرت الأعمال جميعها بصورة لنجيب محفوظ وهو غلاف بسيط ومتقشف فنياً، علماً بأنها تتيح جميع إصدراتها الإلكترونية مجاناً.
أما دار "ديوان" فكان من نصيبها النشر الورقي والمسموع، وأطلقت طبعتها الأولى بالتزامن مع ذكرى رحيل محفوظ السادسة عشرة، ومنذ نشر بعض الأغلفة قامت ضجة في "السوشيال ميديا".
بلاغ للنائب العام
معظم المبدعين رأوا أن الأغلفة "سيئة" ولا تليق باسم محفوظ ولا تعبر عن طبيعة رواياته. وتهكم بعضٌ على طريقة كتابة اسمه التي حولته إلى "بخيت" وليس "نجيب". واتهم بعضٌ مصممي الأغلفة بأنهم لم يقرأوا الروايات أصلاً وكان الأفضل عدم إسناد التصميم إلى "هواة" وثمة من انتقد فساد الذوق العام الذي أصاب كل شيء، ومن تساءل عن وجود أقسام في الكليات لدراسة فن صناعة وتسويق الكتاب. ومن تخوف أن يطاول "العبث بالأغلفة" المحتوى أيضاً!
الكاتبة فاطمة المعدول من أبرز المعترضين وصفت الرسم بأنه "سطحي وسخيف" يشبه "أغاني المهرجانات" ويناسب أكثر "روايات الجيب"، لكنه لا يعبر عن روح أعمال محفوظ التي نعرفها في الأغلفة السابقة.بدوره رفض الكاتب والمترجم أشرف الصباغ التساهل مع الأغلفة بمنطق اختلاف الأذواق لأنها على حد رأيه لا علاقة لها بالفن ولا بتطوير أي أفكار فنية ووصفها بأنها "نكتة سخيفة وكابوس مرعب وسمج". وطالبت الكاتبة صفاء النجار النائب العام بالتدخل وفسخ العقد مع "ديوان" واعتبرت ما حدث "تخريباً وليس تجريباً" ودعت الغيارى للاكتتاب ورد قيمة التعاقد إلى دار النشر. في المقابل اعترض الروائي ياسر عبد الحافظ على ما أسماه "تحريض السلطات" لأنه ليس فعلاً ثقافياً مع إقراره بأن الأغلفة "سيئة"، لكن ذلك يظل وجهة نظر نختلف ونتفق حولها.غلفة الجديدة (نيل وفرات)
فهل حقاً يملك النائب العام سلطة فسخ تعاقد صحيح قانوناً بين الناشر والورثة؟ هل يفتح هذا الاقتراح الباب لـ "تأميم الإبداع" بمعنى أن هناك قامات قومية تحظى بالإجماع مثل أم كلثوم ونجيب محفوظ وعبد الوهاب وعبد الحليم...، يحق للدولة أن تنزع حقوق الملكية من ورثتهم؟ متى وكيف نحدد عدم أمانة الورثة وسوء استغلالهم لميراث هو ملك الجمهور؟
تملك "ديوان" حق النشر الورقي لخمسة عشر عاماً، وإزاء الجدل أو الغضب الحاصل عبر مدير النشر الكاتب أحمد القرملاوي عن رضاه بما تم إنجازه وأن الجدل أمر طبيعي، واستشهد بأن تصويت القراء في "السوشيال ميديا" كان لصالح الأغلفة. و أشار إلى اعتماد التصميم على ورشة تضم مجموعة شباب دون الخامسة والثلاثين قدموا رؤيتهم البصرية بحرية، وتمنى انضمام رسامين عرب إلى المشروع وراهن على الوقت في تقبل الناس للاختلاف وتغير الانطباعات السلبية.
دفاع القرملاوي مفهوم بحكم موقعه، خصوصاً أن الآراء حتى لو كانت سلبية فهي دعاية مجانية. لذلك دعا المعترضين إلى "الاستمرار بالحماسة نفسها".
العصا من المنتصف
دخلت هدى نجيب محفوظ على خط الأزمة وبحكم أنها مانحة "ديوان" حق النشر أمسكت العصا من المنتصف فلم تعترض على الأغلفة وقالت إنها رأت بعضها قبل صدورها، لكنها لم تقل إنها عظيمة ومبهرة وإنما "بعضها أعجبها" ومن الطبيعي أن تختلف أذواق الناس، فما يعجبها قد لا يعجب غيرها. وأوضحت أن والدها لم يكن يتدخل في الأغلفة. لو أن (محفوظ) حي فهل كان سيعترض ويرفض الأغلفة؟ غالباً رأيه سيكون مثل ابنته بإمساك العصا من المنتصف. فالمعروف أنه لم يبد رأياً سلبياً في الأفلام المأخوذة عن رواياته مهما كان مستواها، وتبنى الشعار "أنا مسؤول فقط عن رواياتي المكتوبة". وعندما رأى تمثاله القائم حالياً في حي المهندسين حيث يبدو كرجل عجوز يسير على عكاز، شكر من صنعوه وعبر بخفة ظل بأنهم على الأرجح لم يقرأوا من أعماله إلا رواية "الشحاذ" دلالة على عدم إعجابه به.
تسامح ووصاية
أصدرت الدار حوالى عشرة أغلفة طاول الجدل ثلاثة أو أربعة منها، والشك بأنها أغلفة "صادمة" للألفة التي عهدها القراء لعقود طويلة مع جمال قطب ثم حلمي التوني. ولا تتسم خطوطها وألوانها بخبرة هذين المبدعين المخضرمين وخلت من البصمة والهوية الخاصة التي تميز أعمالهما، خصوصاً مع مشاركة أكثر من شخص في التصميم. فثمة غياب للبصمة الشخصية لدى المصمم وكذلك البصمة المتعارف عليها لروايات محفوظ وشخوصه، وافتقاد الروح المصرية. بعضها يبدو مبهرجاً وفانتازياً مثل غلاف "قلب الليل" والآخر شديد المباشرة والسطحية مثل "اللص والكلاب". إضافة إلى طبيعة أوحجم الخط المستخدم في العنونة وغياب صورة محفوظ عن الغلاف الخلفي مثلما فعلت "الشروق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعيداً من تقييم التجربة فإنها كاشفة لموقفين أساسيين في أي سجال ثقافي، موقف التسامح من باب تشجيع الشباب ومنحه الفرصة كي يعبر عن ذاته وذوقه وينضج تجربته بهدوء، مقابل منطق الوصاية على محفوظ وتثبيته، هو وإبداعه عند تصور معين غير مسموح لأحد أن يكسره ويبدله. ربما لا تحتاج الكلاسيكيات لهذه البهرجة في الأغلفة، لكن ليس من حق أحد أن يحتكر اسم محفوظ ويتكلم باسمه على الدوام. فما الذي يمنع حقاً أن يكون هناك اتجاه فني وتسويقي مبتكر يعبر عن جيل شاب؟
إن الغلاف نافذة القارئ على الكتاب، وعتبة تتلاقى فيها روح الكاتب والرسام والقارئ والنص نفسه، ولا يكفي أن يكون مستوفياً للشروط الجمالية فحسب، بل لابد أن يكون بصوره ونصوصه وإشهاراته جزءاً من عملية التسويق.لذلك يظل الأمر متروكاً للأيام المقبلة لترى دار النشر بنفسها هل كسبت أم خسرت رهان التجريب؟ ومن غير المستبعد أن تكون الحملة التي قد تبدو "مبرمجة" جزءاً من صراع الناشرين وما يدار في الكواليس وأسفل الموائد لنيل كعكة اسمها نجيب محفوظ.