تحت عنوان "سقوط الصين العظيم" تساءلت صحيفة "ذا تايمز" البريطانية إن كانت ثورة الإسكان وأزمة الوظائف وسياسة "صفر كوفيد" ستخمد حرائق التنين، وتقول الصحيفة في تقرير سرد واقع الصين السياسي والاقتصادي والديموغرافي والأزمات التي تعصف بالبلاد، إن الصين يجتاحها اليوم نوع جديد من احتجاج خفي وسريع يصعب على القادة الشيوعيين في البلاد قمعه، ويتمثل في حجب عشرات الآلاف من مشتري المساكن مدفوعات الرهن العقاري على منازلهم غير المكتملة خوفاً من سرقة أموالهم من قبل مطوري العقارات.
وأشارت الصحيفة إلى أن إضراب الرهن العقاري آخذ في الازدياد ليصل اليوم إلى أكثر من 100 مدينة، حيث تباع تسعة من كل 10 عقارات جديدة قبل الانتهاء منها، وتعتبر الدفعات النقدية المقدمة هي شريان الحياة للمطورين والبنوك، منوهة بأن تلك الاضطرابات أزعجت الحزب الشيوعي الصيني وحاول محو أخبار الاحتجاج من وسائل التواصل الاجتماعي لمنع المضربين من التنظيم.
كما استدعت السلطات البنوك الصينية المحاصرة لإجراء محادثات طارئة، ومن ثم إيجاد طريقة للخروج من مستنقع يهدد صحة النظام المالي المتعثر في البلاد.
تقول "ذا تايمز" إن التمرد جاء بعد أيام فقط من فض احتجاج للمودعين الذين طالبوا باستعادة أموالهم من سلسلة من البنوك الإقليمية الفاشلة، وتضيف الصحيفة أنه على الصعيد العالمي أصبحت الصين متوسعة بشكل مفرط وغير محبوبة، حتى إن المتنافسين على قيادة حزب المحافظين ريشي سوناك وليز تراس يتسابقان على من سيبدو أكثر قسوة على بكين.
تراجع النمو الاقتصادي
في نظر عدد من الصينيين تكمن شرعية الحزب الشيوعي في قدرته على تحقيق النمو والاستقرار، وكلاهما يتعرض الآن إلى ضغوط، ويريد شي جينبينغ اجتماعاً للحزب في وقت لاحق هذا العام للمصادقة على ولايته الثالثة في المنصب، مما يفتح الطريق أمامه للحكم مدى الحياة ويجعله أقوى زعيم منذ ماو تسي تونغ لكنه صنع كثيراً من الأعداء، وتنتشر إشاعات عن تزايد المعارضة، وبالتالي لم يعد يبدو انتزاع قوته مؤكداً، كما تقول الصحيفة.
واليوم تنفجر فقاعة العقارات في الصين بعد عقدين من البناء المحموم، حيث ظهرت مدن كبرى بأكملها في جميع أنحاء البلاد، مبنية على تكهنات متفشية و"مدن أشباح" شاسعة وفارغة مع كل مظاهر الحياة الحضرية، لكن من دون ساكنين. وبحسب أحد التقديرات يوجد في الصين 65 مليون شقة فارغة، وهو ما يكفي تقريباً لإعطاء واحدة لكل سكان بريطانيا.
وتعد الملكية المحرك الرئيس للاقتصاد، وتمثل ما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي للصين، ويأتي جزء كبير من دخل الحكومة المحلية من بيع الأراضي لمطوري العقارات، وبحلول أواخر عام 2020 شكّل الإقراض المرتبط بالممتلكات 39 في المئة من القروض المصرفية، وفقاً للهيئات التنظيمية الصينية.
ويعد قطاع العقارات من نواح عدة نموذجاً مصغراً للاقتصاد الأوسع نطاقاً، مزيج مخيف من الديون المتعفنة والافتقار إلى الشفافية وتناقص العوائد على الاستثمار المهدر، وتفاقمت الأوضاع بسبب سياسة شي جينبينغ الانتحارية اقتصادياً "صفر كوفيد"، مع عمليات الإغلاق التي لا نهاية لها، مما أدى إلى زيادة الضغط على الحياة خارج الاقتصاد.
وخلال الأسبوع الماضي أغلقت السلطات الأبواب على مليون شخص في ووهان، المدينة التي اكتشف الفيروس فيها للمرة الأولى عام 2019، بعد ظهور أربع حالات فقط من دون أعراض، في حين أن نحو واحد من كل خمسة شباب تتراوح أعمارهم بين 16 و24 سنة عاطلون من العمل، كما نما الناتج المحلي الإجمالي في الربع من أبريل (نيسان) إلى يونيو (حزيران) بنسبة ضئيلة بلغت 0.4 في المئة عن العام السابق.
وعلى أساس ربع سنوي انكمش الاقتصاد منخفضاً بنسبة 2.6 في المئة مقارنة بشهر يناير (كانون الثاني) إلى مارس (آذار)، إذ ولت أيام النمو المكون من رقمين منذ فترة طويلة.
وعلى المدى الطويل تواجه الصين أزمة ديموغرافية حادة وإرثاً من سياسة الطفل الواحد التي تخلت عنها أخيراً بعد أن بدأ عدد السكان في الانكماش، وتشير بعض التقديرات إلى أنه بحلول منتصف القرن سيكون ثلث الصينيين قد بلغوا 65 عاماً أو أكثر، مما يضع ضغوطاً شديدة على النمو ومستشفيات البلاد المكتظة ونظام المعاشات التقاعدية الذي يعاني نقص التمويل، في حين لم يكن لمحاولات الحكومة تقديم حوافز للعائلات الكبيرة تأثير يذكر.
الدول الفقيرة وشرك الديون
وتقول "ذا تايمز" إن أداة الصين الرئيسة لشراء النفوذ في الخارج "برنامج الحزام والطريق"، تتعرض إلى ضغوط شديدة، إذ إن الترويج للاستثمار في البنية التحتية من سكك حديد وموانئ ومطارات ومحطات طاقة واتصالات يبدو في الواقع مليئاً بالمشاريع الغامضة، وأثقل كاهل أفقر البلدان بالديون التي لا يمكن سدادها، وتصف الصحيفة المشروع بأنه مؤسسة استعمارية جديدة كلاسيكية وأداة تستخدمها بكين لتشكيل العالم على صورتها وإجبار الدول على دعم مصالحها.
من جهتها، حددت المجموعة البحثية "إييدداتا" 13427 ألف مشروع بقيمة 843 مليار دولار في 165 دولة على مدى 18 عاماً، مما يجعل الصين أكبر دائن في العالم.
وتخلفت سريلانكا عن سداد قروضها أخيراً وانزلقت في حال اضطراب، وفر زعيمها جوتابايا راجاباكسا من البلاد، وكان هو وشقيقه الزعيم السابق ماهيندا صديقين حميمين للصين، وقد اقترضت سريلانكا في عهدهما ما يقدر بنحو 10 مليارات دولار من بكين لتمويل مجموعة من المشاريع وصفها اقتصاديون بالأفيال البيضاء، ومن بينها ميناء ومطار في هامبانتوتا مسقط رأس راجاباكسا، وملعب كريكيت وبرج بطول 350 متراً في العاصمة كولومبو، تعلوه زهرة اللوتس العملاقة التي كان من المفترض أن تمثل "مستقبلاً باهراً" للتعاون مع بكين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد تكون أزمة الديون في سريلانكا علامة على ما سيحدث في بلدان أخرى أفقر، حيث عبء الديون هو الأعلى منذ عقود، في حين يلعب تباطؤ الاقتصاد العالمي وفيروس "كوفيد-19" وارتفاع كلف الغذاء والطاقة دوراً في ذلك، لكن القاسم المشترك الآخر هو أن المشاريع الصينية باهظة الثمن وتفسد.
وقد تكون باكستان، أكبر متلق للأموال من الصين، التالية في حال التخلف عن السداد، وفي ميانمار حيث غرق جنرالاتها في سخاء الحزب الشيوعي الصيني، طغت الحرب الأهلية المتفاقمة على المشاريع، وواجهت مناجم الليثيوم المملوكة للصين في جمهورية الكونغو الديمقراطية احتجاجات عنيفة، وحتى في اليونان حيث رحبوا بالمستثمرين الصينيين باعتبارهم منقذين لميناء بيريوس، فإنهم متهمون الآن بالتدهور البيئي والفشل في الوفاء بالوعود.
انتقادات في الداخل
وتقول الصحيفة، "ليس لدى بكين خبرة في التعامل مع أزمة الديون الدولية التي لعبت دوراً كبيراً في خلقها، فهي تتجنب إلى حد كبير النهج المتعددة الأطراف لحل المشكلة، ومن المؤكد أن الانهيار سيلقي ضوءاً على المشاريع المبهمة المليئة بالفساد وسوء الإدارة".
وتشير "ذا تايمز" إلى أن الدراسات الحديثة للرأي العالمي تظهر أن صورة الصين في حال من السقوط الحر، وتتراوح الأسباب من التستر على اندلاع الموجة الأولى من "كوفيد-19" في ووهان إلى الفظائع ضد الإيغور في شينجيانغ ودعم الرئيس شي جينبينغ لحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا.
وتضيف الصحيفة أن في الصين من يدرك المشكلات، وانتقدت أصوات كثيرة عمليات الإغلاق التي يمارسها شي جينبينغ وسوء الإدارة الاقتصادية والدبلوماسية المتعجرفة التي جعلت من العالم عدواً، بينما كان الرئيس الصيني قاسياً في القضاء على المنافسين وسحق المعارضة، وهناك كثير من الانتقادات مشفرة وحذرة لكنها في تزايد.
وترى الصحيفة أن التحدي الذي يواجه الغرب هو أن الصين التي تجاوزت ذروتها قد تكون أيضاً صيناً أكثر خطورة ولا يمكن التنبؤ بها، إذ أصبح الحزب الشيوعي الصيني في عهد شي جينبينغ أداة للقومية العرقية العدائية المدعومة بالظلم والمبنية على عبادة الرئيس، كما أن لديه وجهة نظر مظلمة بجنون العظمة، وتعتقد الصحيفة أنه سيميل بشدة إلى صرف الانتباه عن مشكلاته المتزايدة في الداخل مع العدوان على تايوان.
واستبعدت الصحيفة حدوث مواجهة عسكرية صينية – أميركية قائلة إن "التنبؤات بحدوث صراع عسكري حتمي بين الصين والولايات المتحدة قاتم للغاية، ولقد بالغ شي في تقدير موقفه، وسيكون هناك عديد من الفرص أمام الديمقراطيات الليبرالية لإعادة تأكيد نفوذها وقيمها التي لا ترقى إلى مستوى المواجهة المسلحة".
وتضيف، "لأكثر من ثلاثة عقود نجحت بكين في تقويض القوة الغربية بوسائل عدة غير الحرب"، وقالت إن بريطانيا وحلفاءها أنشأوا صناديق استثمار دولية بمليارات الدولارات في البنية التحتية تهدف إلى مواجهة النفوذ الاقتصادي لبكين في الدول الفقيرة، وهناك خليط من الائتلافات من جزر المحيط الهادئ إلى الكومنولث يتم تنشيطها وإعادة توجيهها لأغراض أخرى.
واستشهدت الصحيفة بليتوانيا التي وصفتها بكين بـ "الصغيرة المجنونة" على بحر البلطيق، لأنها سمحت لتايوان بفتح سفارة بحكم الأمر الواقع، واعتبرتها نموذجاً يحتذى به في مواجهة تنمر الحزب الشيوعي الصيني.
وختمت الصحيفة، "يتفاخر شي بإقامة نظام عالمي جديد يتمحور حول الصين وهو الآن أجوف، إذ خلقت غطرسة الصين عدداً من نقاط الضعف التي توفر فرصاً للرد إذا كانت الديمقراطيات الليبرالية وأولئك الذين يشاركونها هذه القيم راغبين وواثقين بما يكفي لتأكيد مصالحهم".