عندما أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصريحه الأخير بشأن ضرورة الانتقال بالعلاقات المصرية - التركية "من مستواها الراهن إلى مستوى أعلى"، وأن الشعب المصري شقيق للشعب التركي، وأنه من مصلحة البلدين "عدم المساس بمصالح كل طرف"، كان يخرج بمستوى العلاقات المصرية - التركية إلى مستوى آخر في ظل مقاربة جديدة تركز على ضرورة التسريع بمستوى العلاقات، وعدم بقائها رهن القنوات الراهنة، وهي قنوات الأمن والاستراتيجية والاستخبارات إلى دائرة أرحب على المستوى السياسي في إطار ما يجري من تطورات في الإقليم وخارجه، وهو ما يدركه الرئيس التركي في ظل مناكفات تمتد إلى مستويات متعددة، وفي إطار المعادلات الكبرى التي تتشكّل في المنطقة والمناطق المجاورة، التي تلعب فيها الدول الإقليمية دوراً سواء أكانت إيران، أو السعودية أو تركيا أو إسرائيل أو مصر، وهو ما يؤكد أن ما قاله أردوغان ليس بمنأى عما يجري في المنطقة بأسرها.
تصريحات موجهة
وأطلق الرئيس التركي تصريحه في توقيت له دلالاته، فعلاقات تركيا بكل من الإمارات والسعودية تتحسّن، وتمضي في سياقات من الشراكة، والتعاون إثر زيارتي أردوغان إلى أبو ظبي والرياض، ولقائه المسؤولين الكبار والاتفاق على تطوير مستويات التعاون المشترك وإعادة دعم الاقتصاد التركي المنهك، وهو ما يشير إلى أن عين الرئيس التركي مرتبطة بتصوره تكرار نفس النموذج في السياق السياسي مع مصر، أي أن مخططه هو القفز على ما يجري في المسارات الراهنة، والنفاذ مباشرةً لزيارة مصر، وحسم كثير من الملفات المؤجلة منذ سنوات.
الواضح أن العلاقات المصرية - الإقليمية في طريقها إلى التغيير بعد استئناف العلاقات القطرية - المصرية رسمياً، بل وزيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني القاهرة، فلماذا لا يتكرر الأمر مع الحالة التركية بل والإيرانية؟ بخاصة أن السفارة المصرية تعمل بكامل قواتها الدبلوماسية، ولم يحدث أي تقليل منها، وكذلك تولي القائم بالأعمال التركي الجديد صالح موتلو مهامه في القاهرة، والرسالة أن الأمور تمضي في إطار عام ومحدد، وقد تجاوزت مصر تكرار خطابها الإعلامي والسياسي تجاه تركيا، بخاصة أن ملف جماعة الإخوان ومتابعة عناصرهم ومنح بعضهم الجنسية التركية، وغيرها من الملفات المتعلقة بوجودهم، وممارسة التحريض الإعلامي من تركيا انتهى، فقد ذهبت بعض القنوات إلى الخارج، وتركت تركيا، بل ولم تعد تمانع أنقرة في فتح ملفات المقيمين، أو الذين صدرت عليهم أحكام، وهو ما يؤكد التجاوب المرحلي من قبل تركيا مع المطالب المصرية.
التفاهمات أولاً
تدرك القاهرة أن العلاقات التركية في الإقليم تمضي في هذا السياق، سواء مع إسرائيل أو إيران، مع وجود مساحات من التفاهم، ومساحات من عدم الاتفاق. والمطلوب وفق الرؤية التركية التعامل على أرضية التفاهم أولاً مع الإقرار بمساحات التباين الكبرى التي تعمل عليها أنقرة سواء مع الحلفاء الشركاء، أو غيرهم، ومن ثمّ فإن تركيا من الواضح تعمل في عدة اتجاهات مع مصر.
الأول: الاستمرار في مقاربة التعامل والتواصل الدبلوماسي مع الإعلان غير الدوري بأن جولات التفاوض ماضية في سياقها، وأنها لم تعد استكشافية وفق التعريف المصري، لتصل إلى مناقشة قضايا متعددة، وفي جوهر الخلافات الموجودة، وبهدف التوصل إلى نقطة توازن حقيقي يمكن البناء عليه بين الجانبين سواء ثنائياً أو إقليمياً.
الثاني: تكشف المواقف السياسية لمصر، والانتقال بمستوى العلاقات إلى مساحة أرحب وطرح إمكانية أن يلتقي وزيرا الخارجية كما كان مقرراً، وما زال مطروحاً، أو الرئيسين مباشرةً في القاهرة، وليس في أنقرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الواضح أن حزب العدالة والتنمية يعمل في هذا الاتجاه لتحقيق مكاسب انتخابية كبيرة، تحت مسمى صفر مشكلات في الفترة المقبلة، وإسكات المعارضة التركية التي ترى أن أردوغان أضر بنمط العلاقات التركية مع مصر وإسرائيل، وأن عليه تصويب مسار ما يجري من دون إبطاء، وعليه التفاعل مع المتطلبات السياسية والدبلوماسية لكل الأطراف من الدول المجاورة وليس تجاه مصر أو إسرائيل فقط، وهو ما يشير إلى وجود بعدَين سياسي واستراتيجي في ما يجري، ومسعى الجانب التركي للقفز على ما يجري، وتحقيق مكاسب حقيقية في ظل التطور الإيجابي في الملف الاقتصادي والتعاون الدولي.
والشراكة المصرية - التركية نموذجية شأنها شأن ما يجري في المستويَين العسكري والاستراتيجي بين تل أبيب وأنقرة، فالمصالح الكبرى هي التي تحكم مسارات التحرك التركي والواقعية السياسية الحقيقية التي تؤدي بأنقرة والرئيس التركي للتخلي عن أفكاره، والانتقال من فكر الأناضولية إلى الدولة الوسيطة التي تتمتع برشادة سياسية حقيقية، وهو ما يدفعها إلى لعب دور في الأزمة الروسية - الأوكرانية، ومخططها لتكون مركزاً لنقل الغلال والحبوب من الموانئ الأوكرانية، وقد يكون مخطط الرئيس أردوغان توظيف ملف الحبوب لاعتبارات سياسية واقتصادية، بل واستراتيجية في مواجهة دول الناتو، وإزاء الولايات المتحدة تحديداً في الفترة المقبلة.
مرحلة نوعية
ويسعى الرئيس التركي إلى الانتقال إلى مرحلة أخرى في إطار علاقاته بمصر، وفي تقديره أن تحسّن العلاقات المصرية - الإسرائيلية، وتطويرها على قاعدة المصالح المشتركة، وبصورة لافتة ودخول مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي في شراكة الغاز، الذي يجري تسييله في مصر وتوسيع نطاق التفاوض المصري - الإسرائيلي بشأن المناطق الصناعية، واستمرار تصدير الغاز الإسرائيلي، لكل من مصر والأردن. كما أن انضواء بعض الأطراف العربية وإسرائيل في منظومة التعاون الإقليمي سيفتح الباب لانخراط مصر وتركيا، في نطاق منتدى غاز المتوسط مع التعامل على أرضية مباشرة تجاه قبرص واليونان وإسرائيل، على الرغم من عدم اعتراف أنقرة رسمياً بجزيرة قبرص، وهو ما قد يؤدي إلى تبعات مهمة تخدم الجانب التركي، وترفع حالة الحصار والتطويق التي مارستها دول شرق المتوسط التي تتحرك الآن لبناء استراتيجية متعددة في ظل مخطط بناء، وتشييد خطوط الغاز الموجودة في المنطقة، في حين تسعى إسرائيل لحجز دور لها في الترتيبات الراهنة والمخطط لها.
وتدرك تركيا أن مفتاح الدخول في المنطقة هو مصر، التي لا تمانع أيضاً تقبل ما قد يُطرح من جانب تركيا شريطة عدم المساس بأمن شرق المتوسط، أو إعادة فتح ملفات محسومة، ومنها شراكة مصر مع قبرص أو اليونان، وقد رسّمت مصر حدودها البحرية بالكامل مع البلدين، وفي طريقها لرسم الحدود البحرية مع إسرائيل.
والرسالة أن تركيا تضع ملف إمدادات الغاز على رأس الأولويات إقليمياً، وتدرك أنقرة أن القاهرة باتت لاعباً قوياً ومركزياً في الإقليم مع السعودية والإمارات، وأن تحسّن العلاقات التركية مع البلدين سيؤدي إلى نتائج مهمة على مستوى العلاقات مع مصر، بخاصة أن من مصلحة تركيا إنهاء وحسم المشكلات وتصفيرها، وهو ما قد يحقق استقراراً حقيقياً للرئيس التركي ليس في الانتخابات البرلمانية المقبلة، بل سيعزز فرص حزب العدالة والتنمية في المضي قدماً في تسويق مشروعه الإقليمي من جانب، ومنازلة السياسة الأميركية في قواعد نفوذها.
وفي ذاكرة الرئيس التركي ما جرى في واقعة اقتناء منظومة الـ "أس 400"، بالتالي فإن تصفية المشكلات، أياً كانت سواء الثنائية أو الإقليمية مع مصر، سيحقق إنجازاً حقيقياً يمكن البناء عليه، وهو ما يدركه الرئيس أردوغان الذي يتجه إلى تبني حسابات ومعطيات واقعية ونفعية من الطراز الأول مع تقبل الإقدام على تقديم بعض التنازلات في بعض الملفات الإقليمية سواء في العراق أو سوريا، أو حتى في تطورات الشأن الكردي. لكن، هذه الملفات معقدة، ولا تقتصر على مصر وتركيا، بل تمتد لتشمل دولاً أخرى، ومن ثم فإن فتحها سيحتاج إلى بعض الوقت وإلى مقايضات، وتفاهمات عميقة وممتدة في المديين المتوسط والطويل الأجل.
الخلاصة الأخيرة
ستنتظر مصر مراقبة السلوك التركي، وتنتظر الأفعال لا الأقوال، حتى وإن صدرت من الرئيس التركي نفسه، بخاصة أن القاهرة تعاملت بجدية مع مواقف الحكومة التركية، ونقلت رسائلها مباشرة إلى الجانب التركي من دون وسيط، بل ورفضت أن يقوم أي طرف آخر بالوساطة على الرغم من أن الجانب التركي ومع تحسن العلاقات مع دول الخليج وإسرائيل وسبق أن طرح ذلك، لكن الجانبين تجاوزا هذه المرحلة لمرحلة تالية عنوانها الاستمرار في مخطط التقارب مرحلياً.
وإن كانت ملاحظات القاهرة تجاه السلوك التركي لا تزال قائمة ويتم الإعلان عنها في سياق محدد وفق تصريحات منضبطة من وزير الخارجية المصري سامح شكري، واكتفاء بما يُطرح من الجانب التركي فقط، وإن كانت بعض السياسات المحتملة لن تتوقف عند عقد قمة عربية - تركية تضم السعودية ومصر ودولة الإمارات وتركيا، أو حتى قصرها على مصر وتركيا وإسرائيل، وهو ما قد يؤدي إلى تغيير لافت في السياسات الإقليمية في الفترة المقبلة، وسيؤثر في ثوابت عرفتها المنطقة سنوات طويلة.