إهمال السلطة الفلسطينية حماية الصابون النابلسي، وارتفاع تكاليف الإنتاج بفعل الضرائب وإجراءات إسرائيل في الاستيراد والتصدير، أمور تتسبب بشكل كبير في تراجع الإقبال على الصابون النابلسي الشهير.
يعتبر الصابون النابلسي أحد أبرز وأهم المنتجات التي اشتهرت بها مدينة نابلس شمال الضفة الغربية منذ نحو 1500 سنة. فبعدما كان الصابون النابلسي في كل بيت فلسطيني، أصبح يصارع الحداثة والرقي من جهة، ومنافسة المنتجات المستوردة الرخيصة من جهة أخرى.
وبعدما كانت تضم نابلس بين جبليها الشهيرين، عيبال وجرزيم، ما يزيد على 40 صبانة (مصنع تقليدي لصناعة الصابون النابلسي) في سبعينيات القرن الماضي، لم يبقَ سوى ثلاث مصابن تعمل بالطريقة التقليدية القديمة.
يروي ماهر الشكعة، مدير مصبنة الشكعة، لـ"انبندنت عربية"، أن نابلس "اشتهرت بالصابون لوفرة زيت الزيتون الذي كان يفيض عن حاجة الناس في ما مضى، والذي يعتبر المكون الرئيس لصناعته، إضافة إلى مادة الصودا الكاوية".
يتابع "حينما نتحدث عن الصابون النابلسي نتحدث عن أقدم وأعرق صابون في العالم، فهذه الصناعة تحمل عبق الحاضر وذكريات الماضي، فكان لكل عائلة نابلسية صبانة تتفاخر بها. وصناعة الصابون تمر بثلاث مراحل رئيسة، هي الطبخ والتقطيع والتغليف، إذ تستغرق عملية طبخ الصابون من ثلاثة إلى خمسة أيام. وبعد أن تجهز يتم نقلها يدوياً بأوعية حديدية (تنكة) إلى الطابق العلوي، حيث تسكب فوق أرض محاطة بإطار خشبي كي لا ينزلق الصابون وهي ساخنة، وتترك لتجف في مكانها لعدة أيام لتبدأ بعد ذلك رحلة التقطيع. فيقوم العمال بقشط السطح الخارجي للصابون وكنسه لينظف من الشوائب، ثم يباشرون بتخطيط الطبقة الخارجية للصابون على شكل مربعات صغيرة باستخدام خيط مصبوغ باللون الأحمر.
بعد ذلك، يعملون على ختم الصابون بمطرقة خشبية تحمل شعار الشركة المنتجة. وما أن ينتهوا من التختيم حتى تقطع الصابون إلى مربعات صغيرة لا يتجاوز ارتفاع القطعة الواحدة منها 6 سم، وبعد ثلاثة أيام يتم ترتيب قطع الصابون على شكل تنور أو هرم، تبقى لمدة شهر أو أكثر. وإلى أن تكتسب الصلابة وتجف تصبح صالحةً للتغليف والتعبئة، مع العلم أن عملية التقطيع والتغليف لم تتغير طريقتها منذ ما يزيد على 200 سنة".
تدهور متلاحق
يتفق أصحاب هذه المهنة التقليدية على أن سياسة السلطة الفلسطينية في السوق الحرة أو المفتوحة، سمحت لمنتجات أجنبية مستوردة رخيصة جداً بمنافسة المنتج المحلي من الصابون النابلسي الموجود في السوق المحلية.
ويتذكر الشكعة أنه في "عام 1927 دمر زلزال قوي كثيراً من المصانع القديمة في نابلس ومنها الصبَّانات. ثم جاء الاحتلال الإسرائيلي لنابلس عام 2002 ليدمر مزيداً من مصانع الصابون. واليوم وبعد كل الدمار المحيط بهذه المهنة التقليدية العريقة، لم يتبقَ إلا ثلاثة صبانات تقليدية، بدلاً من أن تفرض علينا رسوماً جمركية مرتفعة لاستيراد الزيت من أوروبا، عليها أن تفرض رسوماً عاليةً على المنتجات الأجنبية من الصابون لحماية المنتج الوطني من الانهيار، فمع ازدياد منافسة الصابون المستورد أو الصناعي رخيص الثمن، قلَّ الطلبُ على هذا النوع من الصابون. فعمليات الاستيراد يجب أن تكون منظمةً وبكميات محددة، إضافةً إلى أن زيت الزيتون الذي يعتبر عصب هذه الصناعة، باهظ الثمن. وما تبقى من مصابن نابلس يعتمد على زيت الزيتون المستورد من دول أوروبية، لعدم كفاية كميات الزيت المنتج محلياً وارتفاع أسعاره".
مع تطور مواد التنظيف والمنتجات الكيميائية الفعالة، وانحراف المستهلك الفلسطيني للمنتج الأحدث والأرخص، لا يطمح أصحاب مصانع الصابون النابلسي في ظل انعدام الحماية بأي تطوير أو تغيير، لكن البعض خرج عن السرب وقرر دمج الصابون النابلسي التقليدي بالحداثة والعصرية.
صابون مودرن
تحت شعار "كن جميلاً، كن طبيعياً، فالطبيعة تحميك"، قرر رجل الأعمال الفلسطيني مجتبى طبيله عام 1971 السير على خطى آبائه وأجداده الذين اشتهروا بمزاولة هذه الصناعة قبل نحو 400 عام، بتأسيس شركة فلسطينية لصناعة الصابون النابلسي، لكن على الطريقة العصرية، وبما يتوافق مع الحداثة التي تواكب هذه الصناعة، في محاولة لإنقاذ نابلس وصابونها الشهير من الانقراض، حيث عمل على تطوير منتج الصابون النابلسي بما يتلاءم مع متطلبات المستهلك مع الحفاظ على الطبيعة التقليدية لها، فأنتج نحو 400 نوع من الصابون الطبيعي، حتى وصلت منتجاته إلى 72 دولة وأصبح اسم (نابلس) ماركة صابون مسجلة عالمياً.
يتحدث طبيله لـ"اندبدنت عربية"، الصابون التقليدي واجه مشاكل كثيرة وأصبح عرضةً للاندثار، ليس بسبب شكله التقليدي المكعب الذي نطلق عليه شعبياً اسم (فَـلقَه) فحسب، بل لأن الشباب أصبحوا يميلون إلى العصرية والاهتمام بالعطور والألوان. والصابون النابلسي على الرغم من فوائده الكبيرة لأنه طبيعي مئة في المئة ومكون من زيت الزيتون، إلا أن شكله لم يعد مقبولاً للفئات الشابة، وليست له رائحة أو لون، لا أعتقد في أيامنا هذه أن هناك فتاةً أو شاباً بالعشرينيات من العمر سيشتري الصابون النابلسي التقليدي، إلا إذا كان معنياً به لسبب ما. لذلك فكرت في أخذ هذه الفوائد من الصابون النابلسي وتغيير شكلها وإضافة مكونات طبيعية. ونجحت الفكرة، اتهمت كثيراً بأنني أخرجت الصابون التقليدي من قالبه التراثي، بل على العكس أنا أنقذت صناعة الصابون في نابلس بأن جعلته أجمل ومرتباً ومقبولاً عالمياً ومحلياً".
حماية الموروث الثقافي
الحرف التقليدية الفلسطينية، كصناعة الصابون والفخار والزجاج وغزل النسيج وغيرها، تعتبر إحدى أدوات الموروث الثقافي الذي تجب المحافظة عليه بكل الطرق والوسائل، خصوصاً مع مساعي إسرائيل إلى سرقته ونسبه لتاريخها المزيف. لذلك، عمد مركز تنمية موارد المجتمع التابع لبلدية نابلس، إلى حفظ الموروث الثقافي من خلال وُرش العمل والمؤتمرات والندوات والدورات العملية، التي تهدف إلى تعليم المجتمع الفلسطيني بكل فئاته كيفية المحافظة على الصناعات التقليدية.
يقول أيمن الشكعه مدير المركز لـ"اندبندنت عربية"، "نفذنا في المركز العديد من المشاريع التي تعنى بتعليم النساء، خصوصاً كيفية صناعة الصابون التقليدي، بهدف الحفاظ على هذه الحرفة التقليدية التي تراجعت كثيراً في الآونة الأخيرة. وكان هناك إقبال ممتاز على تلك المشاريع، فعندما تعقد الدورات التعليمية كنا نتفاجأ بأعداد المسجلين، وهذا إن دل على شيء يدل على تمسك المجتمع الفلسطيني بالحرف التقليدية. الصابون النابلسي يعتبر أحد أعمدة الموروث الثقافي في مدينة نابلس الذي يجب التمسك به وتطويره للمحافظة عليه. ويسعى المركز بشكل دائم لتنفيذ زيارات ميدانية ومصاحبة السياح والأجانب، ليتعرفوا إلى الصابون النابلسي في داخل مكانه الأصلي الذي بدأ قبل ألف عام في الصبانة. ونأمل بأن يعي الجيل الجديد والأطفال بخاصة بأهمية الحفاظ والتمسك بالحرف التقليدية وتناقلها عبر الأجيال، لأنها جزء من تاريخ شعب فلسطيني عانى ولا يزال من سرقة التاريخ وتزيفه لصالح إسرائيل".