على الرغم من مرور 176 عاماً على إلغاء تونس الرق من قبل أحمد باشا باي عام 1846، فإن رواسب التمييز العنصري لا تزال متجذرة لدى بعض التونسيين، وتظهر واضحة من خلال عبارات تُستعمل إلى اليوم في بعض الجهات، كـ"الوصيف" أو "كحلة" أو "عبيد".
وكانت تونس سباقة في إلغاء الرق، إذ سبقت فرنسا والولايات المتحدة، كما أنها الدولة العربية الأولى التي سنت قانوناً يجرّم جميع أشكال التمييز العنصري عام 2018، لكن مع كل ذلك لا تزال الظاهرة مستفحلة في الممارسات اليومية لبعض التونسيين ضد المختلف عنهم في لون البشرة، وهو ما يسبب الأذى والشعور بالضيم لضحايا هذه الممارسات.
عبارات عنصرية
ويعد الإعلامي نبيل الزيتوني (30 عاماً)، أحد ضحايا هذه الممارسات العنصرية. ويقول لـ"اندبندنت عربية"، "منذ أسبوع، لما كنت بصدد تقديم نشرة الأخبار في إذاعة محلية بإحدى مدن الجنوب التونسي، والنشرة كانت تبث مباشرة على صفحة الإذاعة على فيسبوك، انتبهت إلى تعليق عنصري، يقول فيه كاتبه: أول مرة أشاهد كحلوش تونسي يقدم الأخبار". ويضيف، "على الرغم من مطالبة عدد من المتابعين للإذاعة على الصفحة بحذف التعليق المسيء والعنصري، فإنه تمادى، ما دفعني للتوجه إلى القضاء".
ويؤكد الزيتوني أنه يتعرض "لشتى ألوان التمييز من قبل تونسيين يستبطنون تلك النظرة الدونية إلى أصحاب البشرة السمراء"، لافتاً إلى أن "بعض الخطابات العنصرية يتم تغليفها بنوع من المزاح للتخفيف من وطأتها على ضحايا التمييز العنصري".
كذلك يقول الموظف في وزارة الداخلية ياسين بوشيبة إنه يتعرض يومياً لممارسات عنصرية ونظرة دونية من عدد كبير من التونسيين، مستحضراً واقعة غريبة، "استوقفت سيارة أجرة جماعية، لأتنقل من منطقة إلى أخرى في مدينة تطاوين (أقصى الجنوب)، ولما أردت الصعود بجانب سيدة خمسينية في الكرسي الخلفي، امتعضت ورفضت قائلةً: لا يمكن أن يركب إلى جانبي شخص أكحل". ويضيف، "لامها بقية الركاب على تصرفها، إلا أنها استمرت في عباراتها المسيئة التي تقطر دونية".
ويسرد بوشيبة واقعة أخرى يقول فيها، "عندما كنت مباشراً لعملي في مركز الأمن، تقدمت سيدة بشكاية إثر تعرض منزلها للسرقة، ولما أحضرنا السارق الذي كان من ذوي البشرة السوداء مثلي، بدأت السيدة تصرخ وتنعته بنعوت مهينة من قبيل يا وصيف، يا كحلوش، ما دفعني إلى تحرير محضر قانوني ضدها".
ويخلص ياسين بوشيبة بنبرة حزينة، قائلاً، "أنا رجل أمن وأتعرض يومياً لهذه الممارسات العنصرية، فما بالك ببقية المواطنين؟".
تنمر وإيحاءات جنسية
وتتخذ الممارسات العنصرية ضد النساء والفتيات التونسيات طابعاً أكثر إيلاماً لارتباطها بالتحرش. تقول منال مطيمط، "اعتدت يومياً على العبارات الدونية والإيحاءات الجنسية، والتحرش وتشبيهها ببقية المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء".
وتعمل منال على تجاوز هذه الممارسات من خلال "مواجهة من يتعمد الإساءة إليها، كما تنشط في منظمات المجتمع المدني لتوعية الناس بضرورة القطع مع هذه النظرة الدونية". وتعتبر أن القانون وحده غير كافٍ، ولا بد من معاضدته بـ"التربية على التعايش، والمصالحة مع الآخر، من خلال وسائل الإعلام والمناهج التربوية، والمؤسسات الثقافية".
التعريف بالقانون
وتتقاسم الناشطة الحقوقية وأستاذة القانون والعضو السابق في مجلس النواب بشرى بالحاج حميدة، المقاربة نفسها، داعية إلى "مزيد من التعريف بالقانون الذي يجرم كل أشكال التمييز العنصري"، وتعتقد أن "الظرف السياسي الذي تعيشه تونس اليوم جعل حقوق الإنسان تتراجع عن صدارة الاهتمامات الوطنية"، مضيفة أن "المجتمعات تتخلص من العنصرية بعد تضافر جهود مؤسسات الدولة والمجتمع المدني"، ولافتة إلى أن عديداً من الضحايا لا يتقدمون إلى القضاء لإنصافهم.
ويلزم نص القانون الدولة بـ"نشر ثقافة حقوق الإنسان، والمساواة والتسامح وقبول الآخر بين مختلف مكونات المجتمع"، وبــ"وضع برامج متكاملة للتوعية والتكوين لمناهضة جميع أشكال التمييز العنصري في المؤسسات العمومية والخاصة ومراقبة تنفيذها". كما ينص القانون على معاقبة كل من "يرتكب فعلاً أو يصدر عنه قول يتضمن تمييزاً عنصرياً بقصد الاحتقار أو النيل من الكرامة، بالسجن من شهر إلى عام واحد، وبغرامة من 500 إلى ألف دينار (من 166 إلى 333 دولاراً)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية من مؤسسات المجتمع المدني التي تنشط في مجال التوعية ومؤازرة ضحايا التمييز العنصري. ويذكر الناطق الرسمي للمنتدى رمضان بن عمر، أن "قانون تجريم التمييز العنصري هو نتاج مبادرة من المجتمع المدني، إلا أن الدولة التفت على القانون في ما بعد ولم تعد تشرك المجتمع المدني في صياغة المبادرات للتعريف به وتقديمه إلى التونسيين".
ودعا ابن عمر إلى توخي "مقاربة شاملة من خلال التربية على ثقافة حقوق الإنسان في مناهج التعليم وفي البرامج الثقافية"، محذراً من "التطبيع مع هذه الظاهرة التي قد تتسع رقعة ضحاياها"، ومشدداً على ضرورة "تدريب المحامين والقضاة على التعاطي مع قضايا التمييز".
فئة هشة تواجه صعوبات
يشكل ذوو البشرة السمراء في تونس نحو 15 في المئة من السكان، ويواجهون بعض الصعوبات في الاندماج بسوق الشغل. ويقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، بالعيد أولاد عبدالله، إن تلك الفئة "ارتبطت في العقل الباطني للتونسيين بالعبودية، والعمل لدى الآخر، وينظر إليها دائماً كفئة هشة، وعلى الرغم من التحولات الحاصلة في المجتمع التونسي من ثقافة وتعليم وتطور في التشريعات، فإنها بقيت الظاهرة لافتة للانتباه، ولا يمكن أن يتخلص منها المجتمع في ظرف وجيز".
ويشير أولاد عبدالله إلى ضرورة العمل على "ثقافة الاندماج والتمكين الاجتماعي لكل التونسيين من دون تمييز من خلال مقاربات غير مباشرة تقوم على إدماج كل الأشخاص دون تمييز في الدين أو في اللون، بمختلف مؤسسات التنشئة والثقافة والتربية والتعليم، أو غير مباشرة، على غرار الحرص على تطبيق القانون الذي يجرم التمييز العنصري وجعل العقوبة ترتقي إلى مستوى الجرم المرتكب وآثارها النفسية".
وتبقى أشكال التمييز العنصري ظاهرة كونية تختلف حدتها من مجتمع إلى آخر، إلا أن نتائجها بادية للعيان، وتتلخص في الإقصاء والدونية، وهو شعور تكرسه ممارسات بعض التونسيين، وأيضاً مؤسسات الدولة التي تتلكأ إلى اليوم، في التوعية بأهمية التعايش والمصالحة، ونبذ كل أشكال التمييز، والحسم في الألقاب التي لا تزال إلى اليوم تحمل طابعاً عنصرياً على غرار، "شوشان"، و"عتيق"، و"وصيف"، و"كحلة".