جرت العادة في عالم التأريخ للمسرح في القرن العشرين، أن يصار إلى الربط القاطع بين مفهوم "المسرح الملحمي" ونظريات الكاتب الألماني برتولد بريخت بل ممارساته في عمله المسرحي حتى، بوصفه مبتكره. وإن لم يكن هذا الربط مخطئاً فإنه ليس دقيقاً تماماً. وذلك بالتحديد لأن لـ"المسرح الملحمي" أباً شرعياً آخر هو بدوره ألماني، لكنه كان يكبر بريخت بخمس سنوات، هو إرفين بيسكاتور، الذي بادر ذات يوم إلى التعاون مع بريخت، ناقلاً إليه جملة أفكار وشعارات مسرحية كان لا يزال "متردداً" في إطلاق اسم نهائي عليها، فسماها حيناً بـ"المسرح البروليتاري" وحيناً بـ"مسرح العامل الثوري" وأحياناً بـ"المسرح الشامل" ليستقر أخيراً، وقد بات بريخت شريكه في تبنيه والسير على هديه، على مصطلح "المسرح الملحمي" الذي لشهرة بريخت التي تفوق ومن بعيد شهرة بيسكاتور، رُبط ببريخت وانتشر انطلاقاً من هذا الارتباط. وعلى أية حال، لا بد من التذكير بأن بريخت نفسه كان قد اعتاد على أن يقول في كل مناسبة من المناسبات، حتى بعد سنوات عدة من المرحلة التي عملا فيها معاً، "أجل لقد كنت أنا من ثوّر الكتابة المسرحية، لكن تثوير المسرح نفسه كان من عمل بيسكاتور". ومن الواضح أن تحويل المسرح إلى مسرح ملحمي هو ذلك التثوير الذي كان في القرن العشرين أكبر انتفاضة على المسرح الأرسطي.
سياسة حتى النخاع
مهما يكن من أمر، نعرف أن إرفين بيسكاتور (1893 – 1966) تناول كل تلك الأمور في واحد من نصوصه الأكثر أهمية، الذي يعد في الأحوال كافة مفتاح التصور العام للثورة المسرحية في القرن العشرين. وهو الكتاب المعنون "المسرح السياسي"، الذي يضم نصوصاً بدأ بيسكاتور في تدوينها على هامش عمله منذ أواسط عشرينيات القرن العشرين، وكان بالكاد قد تجاوز الـ22 من عمره، ولم يتعرف بعد على بريخت الذي سيتقارب معه بعد ذلك بسنوات عدة، ولمناسبة تعاونه مع المصمم العمراني والتر غروبيوس على تقديم "نمط جديد من مسرح شامل متعدد الوجوه والاستخدامات، ويجمع بين إنجازات السينما والصور والشاشات الجانبية، موضوعه مسرحية "الجندي الشجاع شفايك" للتشيكي ياروسلاف هاشيك، وتولى بريخت الإعداد فيما أنيط رسم الديكورات المبتكرة بالرسام جورج غروس. ولئن كان بريخت وبيسكاتور يعرفان بعضهما بعضاً من قبل ذلك، فإن تعاونهما في مسرحية هاشيك جعلهما صديقين يمضيان كثيراً من الوقت في مناقشة الشؤون المسرحية، ولكن السياسية بخاصة. والحقيقة أن كثيراً من الأمور والأفكار كانت تجمع بينهما في المجالين لعل من أبرزها أن الاثنين كانا في البداية يؤمنان بالثورة البلشفية والاشتراكية والدور السياسي للفن من دون أن يكون أي منهما عضواً في الحزب الشيوعي في بلدهما بصورة رسمية.
من شيكاغو إلى برلين
كان بيسكاتور قبل ذلك قد حقق نجاحاً كبيراً بإخراجه مسرحية "اللصوص" لشيلر وغيرها، غير أن تجربته الأكثر إثارة للجدل والأكثر امتلاء بضروب التجديد التي ستشكل أسس مسرحه "الملحمي"، فكانت مسرحية "البيارق" من تأليف ألفونس باكيه لحساب "الفولكسبوهنه"، الذي كان يعد محور الحركة الطليعية المسرحية في ألمانيا حينها. وكانت المسرحية تتحدث عن محاكمات شيكاغو في عام 1886، التي أدت على إثر تظاهرات عمالية في المدينة الأميركية إلى انفجار قنبلة ومقتل عدد من المارة، وأسفرت المحاكمة عن إعدام أربعة من المناضلين الفوضويين. وكان العمل المسرحي قوياً للغاية واستفزازياً. كما كان العمل المسرحي الأول الذي جرى لمناسبته الحديث عن "مسرحية ملحمية"، ما شكل الولادة الحقيقية لما سوف يعد لاحقاً "المسرح الملحمي". وكان من أبرز عناصره قطع السياق الحدثي المسرحي بمشاهد سينمائية تعرض على شاشات عدة، ووجود يافطات سياسية منتشرة في كل مكان في الصالة إلى جانب عنصر اعتبر تجديدياً إلى حد كبير حينها، وهو توجيه الممثلين الخطاب إلى الجمهور مباشرة بغية إشراكه في تلقي الأحداث ورسالتها. وهو ما كتب عنه الروائي ألفريد دوبلن متنبئاً بأن "المسرحيات الملتزمة سوف تنحو من الآن وصاعداً إلى التحول في اتجاه الرواية الملحمية، بحيث أن كتّاب هذا النوع من المسرح سيتوقفون عن استلهام الشعر ليستلهموا الملاحم...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صديقان على الرغم من كل شيء
ومن البديهي القول إن ذلك النوع المسرحي الجديد قد حقق نجاحات كبيرة خلال تلك الأزمنة المضطربة، فكانت النتيجة أن تبعته إنتاجات تالية كان من بينها واحد سُمي "الاستعراض الأحمر"، قدم نوعاً من تاريخ مسرحي للثورات المعروفة منذ زمن بعيد في العالم. وهكذا حين بدأ التعاون بين بريخت وبيسكاتور عند نهايات العقد العشريني، كانت الأرضية ممهدة لولادة مسرح جديد سرعان ما التقطه بريخت وراح يجدد فيه. بل أكثر من ذلك، وكما يقول بيسكاتور نفسه، "راح يعطيه أبعاده النظرية بشكل بالغ الذكاء والقوة. شكل كنت أنا أدركه عملياً ولكني غير قادر على التوغل فيه نظرياً". والحقيقة أن كلاً من الصديقين انطلق منذ ذلك الحين في مجاله، ليغوص في تلك التجديدات الإبداعية كما يتراءى له. ويقيناً أن طريقيهما قد تقاطعا والتقيا كثيراً كما تعارضا كثيراً أيضاً. لكن صداقتهما لم تفتر بشكل جدي بحيث بقي الارتباط بين اسميهما دائماً. أما بالنسبة إلى بيسكاتور، فقد واصل طريق تجديداته في مجال الإخراج، ورفد المسرح بقدر متزايد من التجديدات التقنية، ما جعله والفرق التي يؤلفها تباعاً، مركز الثقل في الحياة المسرحية التقدمية، ليس في برلين وحدها بل في ألمانيا وأوروبا بصورة أشمل. وهذا ما يرويه لنا على أية حال بنفسه في كتابه "المسرح السياسي" الذي لعل أهم ما أراد أن يؤكد فيه (حتى أكثر من إيمانه بالنضال المتواصل الذي كانت عليه حياته) على الدور الذي يلعبه المسرح ويجب أن يلعبه أكثر وأكثر في حياة الطبقات العاملة.
مسرحيات حقيقية وأخرى تنتظر
وفي هذا السياق، تلفت النظر حقاً في الكتاب تلك الصفحات العديدة التي يستعرض فيها بيسكاتور عدداً كبيراً من مسرحيات يعتبر أنها يمكن أن تكون "الريبرتوار" الحقيقي لأي مسرح "يحترم نفسه"، سواء كانت من المسرحيات التي قدمها بالفعل وكانت كثيرة العدد، أو تلك التي لم يتمكن من تقديمها، ناهيك عن فئة ثالثة من مسرحيات لا وجود لها في الواقع ولكن يمكن أن توجد تبعاً لمواضيع يسهب في شرحها والتحدث عنها على أمل أن تأتي أجيال جديدة من مسرحيين وفرق مسرحية تقوم بابتكارها ورفد الحياة العامة للناس بها.
ولعل الأغرب في الأمر كله، هو أن بيسكاتور، في كتابه هذا كما في كل أحاديثه ومحاضراته التي ملأت أمسياته وحياته، كان دائماً ما يبدّي هذا الجانب الأيديولوجي من مفهومه للمسرح على أي جانب آخر، ما جعله يميل إلى التقليل من شأن تجديداته المدهشة، التي أضافها إلى عالم المسرح وكانت ذخراً لكثر من المبدعين، الذين جاءوا بعده بمن فيهم المناوئون له سياسياً. فالحال أن كون بيسكاتور رائداً كبيراً في فكرانية المسرح، تجاور لديه مع تلك التجديدات المدهشة التي سوف تكون من أسس التجديدات "الشكلية"، التي طرأت على فن المسرح في القرن العشرين من إدخال فنون الصورة والماريونيت والتمثيل الإيمائي، ناهيك عن تلك المواقف العديدة والمهمة التي يتوجه الممثلون فيها، كما أشرنا، إلى الجمهور بالحديث وكأن الجمهور جزء أساس من العرض. وكل هذا يفسره بيسكاتور ويبرره في كتابه "المسرح السياسي"، ولكن معتبراً إياها عناصر ليس لها من مهمة سوى خدمة النص والرسائل السياسية والنضالية التي يحملها هذا الأخير. ومن هنا ما يبدو من تفاوت كبير بين بيسكاتور وفهمه هو نفسه لتجديداته الأساسية في فن المسرح. واللافت أن الرجل ظل على قناعاته هذه حتى آخر حياته على الرغم من الانتقادات التي كان لا يفوته أن يوجهها إلى "حلفائه" السياسيين، معتبراً أنهم يخونون القضية المشتركة!