في بداية الأمر، وقبل وصول رياح الثقافة الكورية، كانت معرفة السعوديين بالشعب الكوري مرتبطة بعمال البناء الذين تركوا خلفهم انطباعاً حسناً عن الشعب الكوري، إذ عرف عنهم العمل بجد وإخلاص وتفانٍ في مشاريع البنية التحتية والتعمير على مدى سنوات طويلة مضت.
مع بداية الألفية، هبت عواصف الثقافة الكورية، وأصبح السعوديون يتفاعلون مع منتجاتها الثقافية بشغف واهتمام، يرقصون على إيقاعاتها ويتحدثون لغتها، وقد استمر التأثير بشكل تدريجي حتى أصبح محبو الثقافة الكورية منقسمين إلى جيلين: الأول الذي اكتشف شغفه بهذه الثقافة من خلال القنوات التلفزيونية والدراما المدبلجة وروابط المنتديات عبر شبكة الإنترنت. والثاني الذي استقبل الرياح الكورية ما أطلق عليه "عاصفة الهاليو" التي حامت في دول شرق آسيا ثم سادت العالم.
هذا الجيل الثاني أبدى اهتماماً أعمق بالثقافة الكورية حتى صنع تسميات ومعجم مصطلحات لا يفهمها غيره. ولم يكن عامة الشعب في السعودية على دراية بحجم انتشار وشعبية الثقافة الكورية، حتى أقيمت حفلة لإحدى الفرق الكورية وأحدثت دوياً وأثارت انبهار السعوديين، حقق الحفل نجاحاً مبهراً وجذب وسائل الإعلام العالمية، وأصبح حديث الرأي العام حتى بعد انتهائه بأيام.
ما الذي اختلف؟
يذكر بعض محبي الثقافة الكورية في السعودية أن بداية تعلقهم بتلك الثقافة كانت بعد عرض القناة السعودية الأولى مسلسل "جنقوما" أو "جوهرة القصر"، وهو مسلسل تاريخي يروي قصة حياة امرأة كانت أول من سمح لها بأن تكون طبيبة ملكية في التاريخ، وأول من استخدمت الجراحة للعلاج في تاريخ الشرق الأقصى.
تمت دبلجة المسلسل باللغة العربية الفصحى وعرض عام 2008، وحينها لقي نجاحاً ومتابعة كبيرين من الجماهير في السعودية. وقالت إحدى المتابعات إنه لم يكن يحظَ باهتمام فئة عمرية معينة، بل جذب الصغير والكبير، ومن ضمنهم جدتها التي كانت مهتمة ومتابعة له بانتظام.
لم تقف متابعة السعوديين عند الدراما الكورية المدبلجة، إذ ظهرت بعد ذلك قناة "kbs world" التي تم تأسيسها من قبل الحكومة الكورية، وتقوم بنشاط كبير لنشر الثقافة الكورية الجنوبية في العالم أو ما يسمى موجة "الهاليو"، وتنتج القناة مسلسلات ومسرحيات وبرامج وثائقية وكوميدية مترجمة للغة العربية.
مع ثورة الهواتف الذكية كانت بعض الفرق الغنائية الكورية تنشئ تطبيقات تتضمن ألبوماتها الغنائية. وذاع صيت عدد من الفرق بين شريحة المراهقين في ذلك الحين الذي يوافق عام 2010، ومن ضمنها فرقة "سوبر جونيور" وفرقة "سنست" وعدد آخر من الفرق التي عاصرت الجيل الأول، تذكر رنا أن المسميين المتعارف عليهما بينهم هما "كيدراميون" وهم الفئة المتابعة للدراما الكورية، و"كيبوبيون" وهم متابعو الأغاني أو الـ"k-pop". وتستطرد "حين أخوض في حوار مع الجيل الجديد من متابعي الثقافة الكورية أشعر بفجوة بيني وبينهم، هناك أمور كثيرة تغيرت".
عاصفة "الهاليو"
العاصفة الكورية أو "الهاليو" مصطلح ابتكرته وسائل الإعلام الصينية والتايوانية، دلالة على ظاهرة يستهلك فيها أشخاص من بلدان أخرى ثقافة البوب الكوري ويتحمسون لها على نطاق واسع، لكن يبدو أن العاصفة لم تعد تقتصر على بلدان شرق آسيا.
فعاصفة "الهاليو" انتشرت بشكل عالمي حتى وصلت إلى الشرق الأوسط، وأنشأت جيلاً ثانياً من محبي الثقافة الكورية في السعودية.
تذكر وسن، وهي إحدى المعجبات بالفرقة الشهيرة"BTS" أن مسمى "إرمي" يطلق على معجبي هذه الفرقة، وهو بمعنى جيش، وتستخدم هذه التسمية على نطاق عالمي، كما أوضحت أن مسمى "أيدول" يعني الفنان الذي يقوم بوظائف عدة كالغناء والرقص وتقديم البرامج التلفزيونية أو الإذاعية.
تتعدد التسميات بمصطلحات إنجليزية مع خلق معانٍ لها داخل إطار ثقافة البوب الكورية، فعلى سبيل المثال مصطلح "سولو ستان" يصف معجباً بعضو واحد من أعضاء فرقة ما ولكنه غير مهتم بباقي الأعضاء، و"ستريم" يعني اتفاق معجبي الفرقة على رفع أرقام الاستماع لألبوم ما لإيصالهم لمستوى الربح بإحدى الجوائز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه التسميات تميز الجيل الثاني من محبي الثقافة الكورية عن الجيل الأول، وعوضاً عن اختراع التسميات، يلاحظ الناس تشابهاً في اهتمامات تلك الفئة، وعلى سبيل المثال فإن غالبيتهم يهوون رسم المانجا والإنمي. تقول وسن "صحيح أنها فنون يابانية، لكن تقارب الثقافتين الكورية واليابانية يجعلني مهتمة بالفن الياباني أيضاً"، كما لوحظ أخيراً إتقان اللغة الكورية بين الشباب ونسبة كبيرة منهم تعلمها ذاتياً، فضلاً عن تقمص أسلوب الفنانين الكوريين في اللباس وقصات وصبغات الشعر.
يبين الكاتب فيصل الحويل أسباب الانتشار السريع للثقافة الكورية في الشرق الأوسط، ومنها ارتفاع نسبة الشباب والمراهقين وبخاصة في السعودية، حيث ذكرت هيئة الإحصاء عام 2020 أن نسبة الشباب والشابات بلغت 66.23 في المئة من مجموع السكان، والسبب الآخر بث القنوات العربية المكثف للدراما الكورية، وأيضاً تشابه القضايا الاجتماعية التي تطرحها الدراما مع المجتمع المحلي، مثل الحب بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، أو المشكلات الأسرية.
"عمال بناء" الثقافة
في فترة الثمانينيات والتسعينيات شاركت العمالة الكورية التي بلغ عددها 720 ألفاً في ذلك الحين في أعمال التشييد وعمارة المباني الحكومية السعودية ومد خطوط الكهرباء وكابلات الهواتف الأرضية والبنية التحتية.
تمكنت كوريا الجنوبية بعد ذلك من تحقيق قفزة نوعية كبيرة وسريعة في مسار تطورها الاقتصادي، وتمثل ذلك في النهضة الشاملة لمختلف جوانبها الحياتية: الاجتماعية والسياسية والثقافية بخاصة، حيث شعرت بأنها تحتاج إلى الاستثمار أكثر في هذا القطاع، لذا قدمت وزارتها للثقافة طلباً إلى الحكومة لزيادة ميزانيتها، مما جعل القطاع الثقافي ينهض بسرعة، وتم إنشاء 300 قسم للصناعة الثقافية في الكليات والجامعات في جميع أنحاء البلاد.
ازداد اهتمام السعوديين بالثقافة الكورية على الرغم من المسافة البعيدة بين البلدين، وارتفع عدد الزوار الذين سافروا من السعودية لكوريا إلى 12 مليوناً في 2013، وهي السنة التي تعتبر بداية اهتمام السعوديين بالثقافة الكورية كما ذكر السفير الكوري بالسعودية كيم جين سو، في حوار نشره موقع سفارة كوريا الجنوبية.
شاركت كوريا في مهرجان "الجنادرية" كضيف شرف عام 2012 في الرياض، وهو مهرجان تراثي وثقافي يقام في السعودية منذ عام 1985، وجاءت المشاركة بمناسبة مرور نصف قرن على العلاقة الثنائية بين البلدين. تقول رنا "كنت من رواد المهرجان كل عام، لكني لم أشهد إقبالاً مثل ما رأيته في عام استضافة كوريا الجنوبية"، حيث استمر المهرجان 16 يوماً وكان عدد زوار الجناح الكوري أكثر من 144000 شخص.
في يوليو 2019، أعلنت الهيئة العامة للترفيه في السعودية إقامة حفل لفرقة "BTS" ضمن فعاليات موسم الرياض، ولقي الإعلان تفاعلاً غير مسبوق من جماهير الفرقة أو "الإرمي" كما يطلق عليهم، إذ تجاوز التفاعل الرقمي عبر "تويتر" مليون تغريدة في أقل من 24 ساعة، وتناقلت الخبر وسائل إعلام عالمية وسط صدمة من السعوديين حيال شعبية وجماهيرية الفرقة.
وما كان مثيراً للإعجاب في ذلك الحدث، عوضاً عن حجم الحضور الضخم الذي تجاوز 40 ألف معجب في استاد الملك فهد الدولي، التنظيم الناجح على الرغم من عدد الحضور الضخم. يقول نايف وهو أحد منظمي تلك الحفلة "على الرغم من خبرتي السابقة فإن تنظيم حفل (BTS) كان عظيماً بالقياس إلى التجارب الأخرى، والجمهور كان شيئاً مبهراً، ولم أتوقع حضور كل هذا العدد الضخم".