تختلف العوامل التي ستحدد اختيار أعضاء حزب "المحافظين" البريطاني للرئيس المقبل للوزراء في المملكة المتحدة، سواء لجهة الكفاءة المتصورة، أو الشخصية المحببة، أو الشغف بالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، أو الاستعداد لسحق الرأي "المنبه إلى حالات العنصرية"، أو القدرة على إلحاق الهزيمة بحزب "العمال" المعارض في الانتخابات العامة المقبلة.
لكن هناك عاملاً واحداً يهيمن على نواة المنافسة بين ليز تراس (وزيرة الخارجية) وريشي سوناك (الوزير السابق للخزانة)، من المحتمل أن تكون له عواقب وخيمة على البلاد - وهو الانقسام الأساسي على طريقة التعامل الاقتصادي مع أزمة ارتفاع كلفة المعيشة.
السيدة تراس تعتقد - كما في جولات التدرب المتعددة التي خاضتها من خلال سلسلة المناظرات والمواجهات التلفزيونية - أن الحل للصعوبات التي يواجهها البريطانيون في دفع ثمن حاجاتهم الضرورية، يكون بضخ مزيد من الأموال في جيوبهم من خلال اعتماد سياسة الخفض الضريبي [اقتطاعات ضريبية].
أما رد سوناك، فينبه إلى أن التخفيضات الضريبية الفورية لن يكون من شأنها سوى تأزيم الأمور في البلاد. ويرى أن منح الناس مزيداً من المال للإنفاق، في وقت تعاني بريطانيا من نقص في الإمدادات، سيدفع الأسعار صعوداً. كما أن اقتراض مليارات الجنيهات الاسترلينية للقيام بذلك، سيقوض لا محالة الثقة الدولية بالمملكة المتحدة، ويقلص قيمة الجنيه الاسترليني، ويراكم مزيداً من الأعباء الحكومية لسداد الديون المستحقة التي بلغت معدلات مهولة حتى الآن.
ويشير معلقون آخرون - منهم رئيس "اتحاد الصناعة البريطاني" Confederation of British Industry (CBI) السابق بول دريشسلير - إلى أن الإعفاءات الضريبية ستصب على الأغلب في مصلحة الأسر الأكثر يسراً ولن تعود بالنفع على الأفراد الذين يواجهون خطر الجوع والبرد هذا الشتاء إلا في مرحلة متأخرة.
أما إلغاء الضريبة الخضراء [ضريبة تفرضها الحكومة على مصادر التلوث أو انبعاثات الكربون مثل شركات الطاقة بهدف إحداث تحول إلى الطاقة المتجددة ويتقاسمها الموردون والمستهلكون) من فواتير الطاقة الذي وعدت به وزيرة الخارجية، ربما سيخفف من وطأة الضغوط على الفقراء، لكنه سيصب بشكل غير متناسب في مصلحة الفئات الميسورة والأثرياء الذين يستخدمون الغاز والكهرباء أكثر من غيرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السيدة ليز تراس ترفض بطبيعة الحال تحذيرات ريشي سوناك باعتبارها من "الأرثوذوكسية المالية" [التوجه المحافظ في سياسات المالية]، وتشير إلى أن هذا المنحى هو ما دفع بشكل رئيس المملكة المتحدة إلى هذا الوضع الاقتصادي الخطير الذي تعيشه الآن.
وتعتبر من منطلق أنه "لا يمكن فرض ضرائب على الأفراد ونحن في طريقنا إلى الخروج من الركود"، بأن الحذر المفرط في ما يتعلق بديون الدولة، يعيق النمو وتحسين الإنتاجية اللازمة لتحقيق الرخاء. وترى أن إعادة مزيد من أموال دافعي الضرائب [من طريق اعفاءات]، من شأنه أن يعزز القدرة الشرائية والإنفاق، وأن يجذب مزيداً من الاستثمار ويدعم الإبداع، ما سيسهم في تحريك عجلة الاقتصاد المتعثر واستعادة عافيته.
هذه المقاربة أثارت قلق عدد من الاقتصاديين، منهم نايجل لوسون، وزير الخزانة السابق في عهد رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر - وهو أحد مؤيدي ريشي سوناك - الذي رأى أنها يمكن أن تؤدي إلى دخول البلاد في دوامة من التضخم الشديد، تماماً كما حصل في سبعينيات القرن الماضي، وستكون كلفتها باهظة على الوظائف ومستوى المعيشة.
وفي عودة سريعة إلى تلك المرحلة، شهدت "دفعة النمو" التي أعلن عنها وزير الخزانة أنطوني باربر لإحياء الاقتصاد المتعثر [لا تدور عجلته]، خفضاً في نسبة الضرائب والقروض. صحيح أن هذا الإجراء حقق نمواً على المدى القصير، لكن تلاه تفاقم في الاقتراض وتدهور في قيمة الجنيه الاسترليني وتضخم مفرط، لم يتم كبح جماحه حتى منتصف الثمانينيات، بعدما أقدمت تاتشر على زيادة الضرائب في الأعوام الأولى من فترة حكمها.
وانطلاقاً من سلسلة مماثلة من التجارب السابقة، نشأت مثل هذه العقائد التطرفية وشقت طريقها إلى إدارة الشؤون المالية للبلاد. فالاقتصاديون، إذا ما أتيحت لهم الفرصة لمعرفة آلية عمل سياسة معينة على أرض الواقع، يقومون بتعديل نظرياتهم وتوقعاتهم، أملاً بتجنب تكرار الأخطاء ذاتها في المستقبل. أما الآن، فسلطت بعض الملاحظات الواضحة التي أدلت بها المرشحة الأولى للزعامة، ضوءًا مثيراً للاهتمام على طريقة تفكيرها، إذ كشفت النقاب عن الذهنية التي يتشاطرها عدد من قادة هذا الجيل في حزب "المحافظين"، التي ربما تثير خوف بعض أسلافهم في الحزب.
فعلى أثر تقديم "بنك إنجلترا" [المصرف المركزي البريطاني] تحليلاً رصيناً ينبه إلى أن المملكة المتحدة تتجه نحو خمسة أرباع النمو السلبي والتضخم الذي تجاوز 13 في المئة، ردت السيدة تراس بأن "التوقعات لا تشكل قدراً محتوماً" وبأنها "يجب ألا تقودنا إلى الركود الاقتصادي".
لا بد من الإشارة هنا إلى أن جميع هذه الملاحظات تعيد إلى الذاكرة المواقف المتجاهلة لحملة التحذيرات من "الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي" الذي وصف بأنه "مشروع الخوف"، والتصريحات المؤكدة لمايكل غوف بأن "الناس في هذه البلاد لديهم ما يكفي من الخبراء". وقد تم دعم مشروع المغادرة برمته من جانب كبار السياسيين المستعدين لتجاهل آراء الخبراء، وبدلاً من ذلك وضعوا ثقتهم بحدسهم بأن الأمور ستنتهي على ما يرام.
أما الآن، وبعدما تحولت باقة "الوعود بالسعادة والازدهار" هذه إلى - كما كان متوقعاً - كومة من الخسائر التجارية الفادحة والتدقيقات الروتينية المفرطة وصفوف الانتظار الطويلة على الحدود، فإنهم ما زالوا يواصلون التهشيم بالخبراء، ويمعنون في الإصرار على أن الجوانب السلبية ليست بالسوء الذي كان يمكن أن تنطوي عليه التوقعات الأكثر تشاؤماً.
بطبيعة الحال، كثيراً ما تكون التوقعات الاقتصادية خاطئة. ويقر خبراء الاقتصاد بهذه الحقيقة على الملأ. وعادة ما يأخذون في الحسبان في النماذج التي يبنون عليها نظرياتهم، مجموعة واسعة من النتائج المحتملة التي تختلف عن "توقعاتهم المحورية" في ما يتعلق بالجوانب الإيجابية والسلبية ذات الصلة. لكنهم يشكلون الهدف الأول للطعن، من جانب أفراد متقلبين ربما يحالفهم بعض الحظ في تكهناتهم، في الإجابة عن السؤال الذي لم يسبر غوره: ما الذي سيحدث؟
وفي خلاصة الأمر، إن اتخاذ قرارات اقتصادية مهمة غالباً ما يكون أشبه بمجازفة محفوفة بمخاطر عالية. لكن إذا كان على السياسيين شطب العقيدة التي يتمسك بها مستشاروهم [وزرا الخزانة] وتجاهل توقعاتهم كمنطلق لصياغة سياساتهم، فمن الأهمية بمكان أن يكونوا واضحين بأنهم ينقلون مخاطر تلك المجازفة إلى مستويات أشد خطورة.
نشر في "اندبندنت" بتاريخ 7 أغسطس 2022
© The Independent