كثرت التساؤلات في الصحافة العربية والغربية والإسرائيلية حول اقتصار العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، "الفجر الصادق" على استهداف قادة حركة "الجهاد الإسلامي" خلال الأيام الثلاثة التي استغرقها التصعيد العسكري، من دون استهداف قادة حركة "حماس"، سواء في غزة أو في الضفة الغربية من جهة، وعدم دخول الحركة من جهتها في المعارك مع الجيش الإسرائيلي، بل لعبها دوراً مساعداً في بعض الحالات بين مصر وبين "الجهاد الإسلامي" من جهة ثانية، متجنبة الدخول في المعركة العسكرية إلى جانب "الجهاد" وتغليبها لغة التهدئة ووقف النار.
ومع أن متحدثاً باسم الجيش الإسرائيلي هدد بتوسيع نطاق عملياته في غزة، إذا تدخلت "حماس" في المعارك ودعمت "الجهاد الإسلامي"، قبيل سريان وقف النار الذي سعى إليه الجانب المصري، فإن كثيراً من التعليقات تحدث عن أن إسرائيل أرادت توجيه رسالة لقادة "حماس" بتحييدها منذ بداية العملية العسكرية، التي قال رئيس الوزراء يائير لبيد إنها حققت أهدافها ولا ضرورة لاستمرارها، وإن عمليات الاغتيال التي نفذتها اقتصرت على "الجهاد"، وإنها استباقية لأي تهديد عسكري من قبل فصائل موالية لطهران.
شطب قياديي "الجهاد" والتهيؤ للانتخابات
جرى تصنيف عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل ضد عدد من قيادات "الجهاد الإسلامي" على أنها ذات هدفين: الرد على التهديدات الإيرانية لإسرائيل بمحوها من الوجود في حال استمرار العمليات الإسرائيلية الاستخباراتية، التي أدت إلى اغتيال عدد من العلماء الإيرانيين الناشطين في البرنامج النووي الإيراني والضباط الكبار في "حرس الثورة" الإيرانية من جهة، والسعي إلى تحسين شعبية الائتلاف الإسرائيلي الحاكم قبل 3 أشهر من الانتخابات التشريعية المبكرة المنتظرة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، تحت شعار القيام بما يلزم لحفظ أمن إسرائيل حيال التهديدات المحتملة من جهة ثانية، في ظل شعار "حق إسرائيل بالدفاع عن أمنها" الذي يعتمده الأميركيون في التعليق على عمليات من هذا النوع. وهو ما جعل المعلق العسكري في جريدة "هآرتس" عاموس هرئيل يكتب بأن حملات مناصري رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، منافس لبيد ونفتالي بينيت، لم "يجدوا دليلاً على أن الحكومة تراجعت أمام الإرهاب".
شل حركة "الجهاد" بوجود نخالة في طهران
وكان لافتاً إلى أن العملية الإسرائيلية التي استغرقت 3 أيام فقط، والاغتيالات التي تخللتها وفق بنك أهداف ما زال على قائمته بعض القياديين الآخرين في غزة وخارجها في سوريا ولبنان وغيرها، حصلت بينما الأمين العام لـ"الجهاد الإسلامي" زياد نخالة (واسمه على قائمة بنك الأهداف) في طهران، حيث عقد اجتماعات مع كبار القادة من الرئيس إبراهيم رئيسي إلى مستشار المرشد علي خامنئي، علي أكبر ولايتي، وقائد "حرس الثورة" حسين سلامي إلى قائد "قوة القدس" إسماعيل قآني، الذي لم يتوان عن القول إن بعض العمليات ضد إسرائيل يتم بتوجيه إيراني، وذهب إلى حد تكرار القول إن "حزب الله" جاهز لإطلاق صواريخ تنهي إسرائيل من الوجود. استثنت الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية أي قيادي من "حماس" التي فهمت قيادتها اللعبة، كما استفادت إسرائيل في تنفيذ العملية من مناخ نشأ بعد أسابيع قليلة على اكتشاف خلايا إيرانية في تركيا مهمتها اغتيال إسرائيليين.
المتعارف عليه في توزيع تحالفات وولاءات الفصائل الفلسطينية الخارجية أن صلة حركة "الجهاد الإسلامي" مع طهران، هي الأكثر وثوقاً وقرباً وتناغماً مقارنة مع سائر القوى الفلسطينية، ومنها "حماس"، على الرغم من العلاقة التحالفية للأخيرة مع طهران. ويسجل المراقبون أن خطوات إسرائيل ضد قيادات "الجهاد" بدأت باعتقال القياديين فيها بسام السعدي وخليل العواودة، في عملية كانت استفزازية للحركة وللجمهور الفلسطيني، قبل مواصلتها العملية، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في القطاع تيسير الجعبري، وشطب قائد المنطقة الجنوبية ورفح خالد منصور ومعه عدد من قياديي الصف الثاني الأمنيين، في مؤشر إلى شل قدرتها على الحركة.
"حماس" و"الجهاد": تنافس ونهج مختلف
ومع العلاقة التحالفية بين "حماس" وطهران، فإنها مرت في فترة جمود وجفاء قبل سنوات حين سعى الإيرانيون إلى الإفادة من التعاون الوثيق في التسليح والدعم المالي، من أجل استقطاب قيادات في الحركة، ومحاولة تشييع بعض الرموز، الأمر الذي أثار حفيظة قيادييها الذين ينتمون إلى عقيدة "الإخوان المسلمين" ويرفضون سياسة التشييع، لكن جرى ترتيب العلاقة لاحقاً ثم عادت الأمور إلى مجاريها. ومع ذلك فإن مصادر فلسطينية لا تستثني من حسابها أن هناك تنافساً بين "الجهاد" وحماس" على الحصول على دعم إيران.
الواقع أن "حماس" انتهجت سياسة التهدئة منذ ما بعد عملية "سيف القدس" العام الماضي، التي شمل اتفاق وقف النار الذي رعته مصر في حينها، فكاً جزئياً للحصار على قطاع غزة، أسهمت القاهرة في الإصرار عليه، ما أدى إلى تحسن في إدخال كثير من المواد الغذائية والطبية والوقود، وتلك العائدة للبنية التحتية إلى القطاع. وأسهم الاتفاق على مدى عام في تحسن ولو طفيف في الأوضاع المعيشية للقطاع، الذي تسيطر عليه الحركة منذ عام 2007 حين انقلبت على السلطة الفلسطينية وحركة "فتح" فيه، وتولت إدارة شؤونه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استثمار ما بعد معركة "سيف القدس"
معركة "سيف القدس" كما سمتها "حماس"، فيما سمتها إسرائيل عملية "حارس الأسوار"، دامت 11 يوماً في مايو (أيار) 2021، بدأت باقتحام الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين المسجد الأقصى، بعد اقتحامهم حي الشيخ جراح في المدينة المقدسة في سياق المشاريع الإسرائيلية لتهويدها، تطورت بعد قصف الحركة مواقع إسرائيلية في القدس رداً على التصرفات الإسرائيلية. وربحت فيها "حماس" من الصورة التضامنية الفلسطينية التي شملت تحركات لفلسطينيي 1948 وتعاطفاً شعبياً عالمياً، على الرغم من أن الحملة التضامنية بدأت دعماً لأهالي الشيخدارة الرئيس جو بايدن إلى طلب وقف الحملة العسكرية في حينها.
واستخدمت "حماس" في القصف صواريخ دقيقة وبعيدة المدى، طاولت مواقع للجيش الإسرائيلي في النقب، لكن إسرائيل استخدمت في ردها كالعادة صواريخ أحدثت دماراً هائلاً في المنشآت في غزة، وأسقطت أبراجاً سكنية. وانتهت المعركة بعد مقتل أكثر من 200 فلسطيني. وعلى الرغم من الخسائر الفلسطينية عدّت "حماس" النتائج انتصاراً لها، ما حجب دور السلطة الفلسطينية. وإذا كانت البنية العسكرية لـ"حماس" الأكثر قوة وفاعلية من بنية "الجهاد"، تدفع إسرائيل إلى حسابات حول التصعيد ضدها، فإن الحركة نفسها استثمرت الخطوات الجزئية لفك الحصار على غزة لإراحة الجمهور الفلسطيني الذي يعاني منذ سنوات، ولمعالجة الوضع الاقتصادي المتردي فيها، بالتالي هي معنية بالاستقرار الأمني مع إسرائيل، خصوصاً أنه يشمل السماح لأهالي القطاع بالانتقال إلى الأراضي الإسرائيلية من أجل العمل وكسب العيش. ومن الطبيعي أن تسعى إسرائيل إلى تغذية التباعد والاختلاف بالحسابات، وصولاً إلى إحداث شرخ بين "الجهاد" و"حماس".
تحسين الوضع الاقتصادي أسهمت به مصر عبر وساطاتها. فـ"حماس" هي التي تحكم القطاع وتمارس السلطة بالكامل فيه، خلافاً لـ"الجهاد" البعيدة عن لعبة السلطة إلى درجة أنها لا تشارك في الانتخابات المحلية. والهم الاقتصادي كان واحداً من تفسيرات امتناع "حماس" عن الانخراط في المعركة الأخيرة، وأبلغ قادتها فصائل أخرى وأحزاباً حليفة منذ اليوم الأول في 5 أغسطس (آب)، أن العملية الإسرائيلية محدودة ولا مصلحة في التصعيد. وعد معلقون إسرائيليون وعرب التسهيلات في فتح العابر وتسهيل انتقال الفلسطينيين وإدخال الوقود بعد ساعات قليلة على اتفاق وقف النار، الذي أنهى الحملة الإسرائيلية منتصف ليل 8-9 أغسطس، بأنها "مكافأة" لـ"حماس" لعدم تورطها في القتال.
تفادي إسرائيل التصعيد
ويقول أفرقاء متصلون بـ"حماس" إن إدراك الجانب الإسرائيلي لقدرات الحركة على إذية إسرائيل، على الرغم من تفوقها الكاسح، أدى بها في بعض الحالات، حتى خلال معركة 2021 إلى اعتماد سياسة إبلاغ قادتها ببعض العمليات عبر الوسيط المصري، مسبقاً لخفض عدد الضحايا. ويقول هؤلاء إنه قبل تدمير بعض الأبراج في غزة، تم إخطار القاهرة من قبل إسرائيل بنيتها قصفها والطلب من "حماس" إخلاءها، ومنها أحد المكاتب التي يوجود فيه رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية. وهذا ما حصل، ما يعني أن تل أبيب تتجنب اغتيال قيادات عليا في "حماس" في وقت استهدفت قيادات من الصف الثاني، كما أن القصف الجوي لمعسكرين للتدريب في غزة تابعين لـ"حماس" الشهر الماضي، قال الجيش الإسرائيلي إن أحدهما يضم مصنعاً للصواريخ، لم ينجم عنه سقوط ضحايا.
في المقابل، يذكر المتابعون من مظاهر النهج المختلف لـ"حماس" عن "الجهاد الإسلامي" الآتي:
أن قرارها حتى إشعار آخر تجنب التورط في معركة مع إسرائيل تفادياً للرد غير المتناسب ولمزيد من الدمار في غزة، ما يضاعف الصعوبات الاقتصادية. وبلغ الأمر أن "الجهاد" أرادت قبل أشهر إطلاق صواريخ على إسرائيل، فتولت الأجهزة التابعة لـ"حماس" منع عناصرها من ذلك منعاً لتطور الأمر إلى معركة.
أن "حماس" حين هددت قبل 3 أشهر بالرد على مسيرة الإعلام التي ينظمها الإسرائيليون إلى المسجد الأقصى كل عام (والتي سببت معركة سيف القدس العام الماضي)، أجّل الإسرائيليون توقيت المسيرة، أسبوعاً، وحين حصلت لم يحصل الرد. وكانت حسابات الحركة أن إسرائيل في حالة استنفار لأن جيشها كان يقوم بأكبر مناورات عسكرية ينفذها، بالتالي لا مصلحة بفتح معركة.
منذ أن ألغت محكمة العدل الأوروبية تصنيف "حماس" على قائمة المنظمات الإرهابية على الرغم من اعتراض دول في الاتحاد الأوروبي، تطورت اتصالات الحركة مع عديد من الدول الأوروبية، التي بات دبلوماسيوها على صلة دائمة مع ممثليها في عدد من العواصم ومنها بيروت، حيث يلتقي السفراء قياديي "حماس" في شكل دوري. وهذا لا بد من أن ينعكس على سلوكها.
أن بعض الدول الغربية، ومنها أميركا، يرصد ما إذا كانت إسرائيل تسعى بتحييدها "حماس"، لتشجيعها على التوسع في نفوذها نحو الضفة الغربية، ليس فقط على حساب "الجهاد الإسلامي"، بل أيضاً على حساب حركة "فتح" وقيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، التي ينظر إليها الغرب، على الرغم من خلافاته معها، على أنها معتدلة. وخشية هذه الدول من توجه إسرائيلي كهذا هي من يكون في إطار تصور لإبعاد احتمالات التفاوض على الحلول السلمية للقضية.