لا شك في أن موضوع الأيديولوجيا في الشعر والأدب قد انطفأ ألقه وفقد بريقه بعد أن تهاوت المنظومة الشيوعية، وانطمست الأدبيات الماركسية اللينينية، وتراجعت الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن، وقد برزت تجارب الحداثة في الشعر مبشرة باستقلال القصيدة بذاتها، غير مفتقرة إلى غيرها، مؤكدة أن الشعر نشاط لغوي أرقى، وكلام سامٍ هدفه في ذاته، ومنزه عن كل غائية.
لكن هل يعني هذا أن القصائد الملتزمة التي كتبها كبار شعراء الحداثة، التي "ملأت الدنيا، ذات يوم، وشغلت الناس"، باتت خارج السياق الأدبي، وفقدت قيمتها الفنية، ولم تعد تمثل جزءاً من تاريخنا الإبداعي؟ وهل يعني هذا أن هذه الأعمال التي أنجزها شعراؤنا، على امتداد عقود، لم تعد تستحق القراءة والنظر؟ وهل انطفأت فعلاً النزعات الأيديولوجية التي تعد الأدب وسيلة لتحقيق غايات سياسية؟
هذه بعض الأسئلة التي يحاول كتاب "الأيديولوجيا في الشعر العربي المعاصر" للكاتب التونسي أحمد الجوة (دار سيفاكس للنشر) أن يجيب عنها، مستنداً إلى مدونة خمسة شعراء هم: بدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي، معين بسيسو، محمود درويش وسعدي يوسف. ويستحضر سيرتهم، مسلطاً الضوء على انتمائهم السياسي، ملتفتاً إلى أثر ذلك الانتماء في العمل الأدبي، وكان السياب أول الشعراء الذين انعطف عليهم الكتاب بالنظر والتأمل.
شعرنة الأيديولوجيا
يذكر ناجي علوش في تقديمه لديوان السياب أن بغداد كانت تشهد مداً يسارياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن السياب القادم إلى هذه المدينة من قريته جيكور، طالباً في دار المعلمين العالية قد انتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي سنة 1945، وأن السنوات الممتدة من 1949 إلى 1952 هي سنوات نشاطه في الحزب الشيوعي. لكن بعض الباحثين يصرون على أن انتماء السياب إلى الشيوعية قد تواصل ثماني سنوات، وأنه انفصل عنها سنة 1954، ويبدو أنه اختار الاتجاه القومي وأصبحت علاقته بمجلة "الآداب" قوية بل إنه، كما أكدت الوثائق، بات على صلة وثقى ببعض القيادات القومية في حزب البعث.
ويذهب الناقد أحمد الجوة إلى أن انتماء السياب إلى الشيوعية، أنتج عدداً مهماً من القصائد، لعل أهمها مطولاته الأربع: "فجر السلام" (1951) و"حفار القبور" (1952) و"المومس العمياء" (1954) و"الأسلحة والأطفال" (1954). فهذه القصائد هي من ثمار انخراط الشاعر في الفكر الماركسي، والتزامه مبادئ الحزب الشيوعي.فهل ثمة علاقة بين انتماء الشاعر إلى الفكر الماركسي؟
ويرى الناقد إحسان عباس إلى أن تحول السياب من القصيدة الأغنية ذات الطول المقتصد إلى القصيدة الطويلة، كان بتأثير مباشر من الشعر الأجنبي، وخصوصاً بتأثير من "البحيرة" للامرتين و"ثورة الإسلام" لشللي و"الأرض اليباب" لإليوت، لكن الناقد جوة يستدرك على الناقد إحسان عباس، ويربط بين هذه القصائد الطوال وانتماء السياب للحزب الشيوعي، ففي نظره حول هذا الانتماء عناية الشاعر من المواضيع الذاتية إلى القضايا الموضوعية الكبرى التي لا تفيها القصيدة القصيرة حقها من الصناعة والاهتمام، فالجنوح إلى الطول فرضته طبيعة "المضامين" التي تدور حولها هذه القصائد. وهذه المضامين ذات نبض درامي فيها يدور الصراع بين عنصرين متضادين: الحرب والسلام، الضعف والقوة، الفقر والثروة.
أدلجة القصيدة لدى البياتي
هذا الاستبسال في الدفاع عن العقيدة الاشتراكية جسده أيضاً الشاعر عبدالوهاب البياتي، فالمتأمل في مدونته يلحظ تواتر الرموز والأقنعة المسترفدة من تاريخ الحركة الاشتراكية، يستخدمها في قصائده في سياقات شتى. يقول الناقد الفرنسي أوليفيه روبو، إن اللغة هي المجال المميز الذي تمارس فيه الأيديولوجيا وظيفتها الخصوصية بصورة مباشرة، ويعني بذلك التحفيز والتحريض، ويذهب إلى أن الماركسيين يستمدون مفرداتهم من علم الحركة أو من علم الكيمياء، فيستخدمون كلمات من قبيل "القوى" و"محرك التاريخ" و"ضغط الجماهير". ويوضح روبول، أن وجوه الاختلاف بين المحافظين والليبراليين والفاشيين، أنهم يستمدون شعاراتهم من الفيزياء الحركية حيناً، ومن البيولوجيا حيناً آخر.
استناداً إلى هذا الرأي يحلل الناقد الجوة معجم البياتي الشعري، ويتأمل حقوله الدلالية، وقد وجد أن الشاعر كرر في قصائده ألفاظاً ذات شحنة أيديولوجية، لها قوي الوقع في السمع، وعظيم التأثير في الضمير، استمد أكثرها من الأدبيات الماركسية. أضف إلى ذلك، استخدام الشاعر أساليب القدح ونعوت التحقير والحط من شأن من يعتبرهم أعداء الثورة، حتى إن بعض النقاد تحدث عن إحياء غرض الهجاء القديم بثوب جديد في شعر البياتي.
وينبغي الاعتراف أن هذا الشاعر أثر تأثيراً واضحاً في أجيال من الشعراء الذين اعتبروا هذا الشعر عنوان الحداثة الشعرية، لكنها الحداثة الملتزمة، أي الحداثة التي تشربت مبادئ الماركسية، وحولتها إلى نصوص شعرية، ولم يكن الشاعر الفلسطيني معين بسيسو ليختلف عن الشاعر عبدالوهاب البياتي في دفاعه عن المبادئ الاشتراكية واحتفائه بالأدب الملتزم. فمثله كان يستحضر رموز الحركة الشيوعية ويتغنى بمبادئ الأيديولوجيا الاشتراكية، متوسلاً بلغة قريبة المأخذ، واضحة الرموز، لا التباس فيها ولا تعقيد، لاعتقاده أن الشعر وسيلة لتحقيق مبادئ إنسانية كبرى، ولكون الشعر وسيلة، فهذا يعني أن تكون اللغة واضحة المعنى، جلية الدلالة، ليس لها من دور سوى نقل "المضمون" إلى المتقبل.
ويتفق الشاعران في استخدام لغة الهجاء السياسي والأدبي، وانتقاء الكلمات التي تنطوي على الشتيمة والقدح والتحقير، مما يقرب قصائدهما من النقائض، وشعر المنافرات في أدبنا العربي القديم، فقد عمد الشاعران إلى تعداد معايب العدو وتوكيد نقائصه الخلقية والخلقية، وكتبا ما يمكن اعتباره "هجاء أيديولوجياً" مداره الحط من مواقف الأعداء ومن سلوكهم في الشعر والسياسة.
محمود درويش والصراع بين الشعارات والاستعارات
انتمى محمود درويش مثل عدد كبير من المثقفين الفلسطينيين إلى حزب "راكاح" الشيوعي الإسرائيلي، ويذكر عماد عبده الطراونة أن درويش اكتسب وعيه السياسي لما انخرط في الحزب الإسرائيلي "ماكي" سنة 1961، وينقل عن درويش قوله: "أحسسنا أن غزواً ثقافياً لنشر العبرية يزحف إلينا ناعماً كالأفعى، فكان لا بد من أن نمنح نفسنا الوقاية ، فازداد قربنا من الأوساط اليسارية وصرنا نقرأ مبادئ الماركسية التي أشعلتنا حماسة. وترك الانتماء آثاراً حاسمة على سلوكي وشعري".
عاد الباحث إلى مدونة الشاعر وأحصى عدداً وافراً من القصائد التي يتجلى فيها هذا الانتماء وبدت المجاميع الأولى أكثر دلالة عليه، وبخاصة "أوراق الزيتون" و"عاشق من فلسطين" و"محاولة رقم 7" و"تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" و"ورد أقل"، في المجموعات الأربع الأولى جرى الكلام جرياناً سلساً لا يعطله الغموض، فطبيعة المضمون وهو التحفيز والتحريض على المقاومة، فرضت عليه معجماً مخصوصاً وطريقة في الأداء معينة، وفي هذا السياق تبرز الغنائية في قصائده الأولى بحيث يعلو النسيج الصوتي الذي يحدث الوقع في السمع.
لكن درويش لا يسترسل في مطلق التحفيز بالنبرة الصارخة والعبارة الواضحة، إنه يتوسل أيضاً أساليب الإيحاء والكناية، فيهدأ صوت التحريض من دون أن ينقطع أو يخبو، وهو يبتدع من الصياغات ما يكون وافياً بوظيفة القصيدة ومحافظاً على هويتها.
التغني بالشيوعية
ومثل محمود درويش يشير سعدي يوسف في عدد من قصائده إلى انتمائه للفكر الماركسي، ففي قصيدته "في تلك الأيام" يقول، "في أول أيار دخلت السجن الرسمي/ وسجلني الضباط الملكيون شيوعياً/ حوكمت كما يلزم في تلك الأيام". والواقع أن احتفاء سعدي يوسف بالشيوعية بارز في مدونته ويتجلى بطرائق شتى، ففي قصيدته "نجمة سارتاكوس" يشيد الشاعر بالثورة البلشفية: "خمسون راية حمراء على بوابات قصر الشتاء/ خمسون مليون عامل حول لينين الجريح/ خمسون مركبة فضاء لأبناء الحرس الأحمر". ويشيد يوسف بـ"الزعيم لينين"، فيخصه بقصيدة عنوانها "الغصن والراية"، وعنوانها الفرعي "في الذكرى المئوية لميلاد ف.إ. لينين"، وتتكون من ستة مقاطع تروي بطريقة مكثفة ورمزية سيرة الزعيم لينين النضالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يرى الناقد في هذه القصيدة "إحياء للملحمة بما هي جنس أدبي عريق في آداب الشعوب يصور ما يظهره الأبطال العظماء من آيات التضحية والفداء". وهذا ما أكده الناقد الفرنسي آلان باديو، حين أشار إلى أن الشعراء الشيوعيين أعادوا إحياء جنس الملحمة، لكن البطولة فيها مسندة إلى البروليتاريين. ولعل أكثر قصائد سعدي يوسف لفتاً للانتباه في هذا القبيل، قصيدته التي دارت حول إعدام عدد من الشيوعيين العراقيين، فصور بطولتهم في مواجهة الموت وتحديه.
توقفت الشيوعية في قصائد سعدي يوسف عند كثير مما يدعى محطات نضالية في مدن عربية وغربية، ولعل بيروت ومخيم تل الزعتر كانا من أبرز تلك المحطات، إن كتابة أكثر من قصيدة في تمجيد بيروت، دليل على المنزلة النضالية لهذه المدينة في وجدان الشاعر، فقد تحولت إلى متراس يحتمي به المقاتلون، فنالت كل التمجيد في قصائد سعدي يوسف.
أدار الناقد فصول كتابه على مبحث نقدي مخصوص بالأيديولوجيا في نماذج من الشعر العربي المعاصر، لكنه اهتم في الواقع بالأيديولوجيا الماركسية وغض الطرف عن أيديولوجيات أخرى، تركت أثرها واضحاً في الشعر الحديث. لهذا من الضروري، في نظرنا، أن يعدل العنوان ليصبح الأيديولوجيا الماركسية في الشعر العربي المعاصر، فيكون العنوان عنذئذ مطابقاً لمحتوى الكتاب ومضمونه.