في العام 1968، حاز الروائي الياباني ياسوناري كاواباتا (1899-1972) جائزة نوبل للأدب، وذلك "لبراعته السردية التي تعبر بحساسية كبيرة عن جوهر الفكر الياباني". وتجدر الإشارة إلى أن كاواباتا كان أول روائي ياباني يحصل على هذه الجائزة. والمفاجأة أنه بعد أربعة أعوام من فوزه هذا، وجد كاواباتا، في السادس عشر من أبريل (نيسان) 1972، جثة هامدة، إثر انتحاره بالغاز، في شقته الصغيرة حيث كان يحب أن يختلي للكتابة. ولعل الانتحار – على رغم أنه يوجد تقليد في اليابان يبيح الموت الإرادي - أكثر أشكال الموت غرابة وغموضاً وسرية ولغزاً، تماماً ككتابات كاواباتا التي تتميز بغرابتها وغموضها وألغازها، وكأنها دعوة للقارئ نفسه ليكون مفسراً أو ربما مؤولاً لها.
لم يتأخر الموت ليظهر في حياة كاواباتا، فمنذ طفولته التي لم يعشها فعلاً، فقد والديه وهو لم يزل في الثالثة من عمره، ولم يبق له منهما سوى بعض الصور لأبيه التي ضاعت منه. يعبر في رسائله عن ألمه قائلاً: "لا أعرف حتى في أي سنة غبتم"، وكأنهما غريبان عنه، معتبراً أنهما جعلا منه "إنساناً مشوهاً تماماً". لم يعرف كاواباتا والديه إلا من خلال ما أخبره آخرون عنهم. بعد فقدانهما فقد جدته، ثم أخته عام 1909 وهو لم يزل في العاشرة من عمره، ثم خسر جده الضرير الذي ترعرع الكاتب في بيته ووصف نزاعه وموته في "اليوميات الحميمة لعامي السادس عشر" الذي نشر عام 1925. فمن قلب ألم عدم اللقاء والفراق، تكونت وتطورت عند كاواباتا حساسية كبيرة تجلت في كل أعماله. وقد أطلق مع بعض زملائه حركة أدبية هي حركة "الحسيون الجدد"، التي تهدف إلى التعبير عن المشاعر والأحاسيس وعن سلوك المجتمع الياباني الحديث، وتعارض الواقعية التي كانت سائدة آنذاك. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن كاواباتا جاء بنوع أدبي جديد هو "الرواية المصغرة" أو "القصص الصغيرة" وهي "قصص بحجم راحة اليد"، يسبر فيها أعماق النفس البشرية، ويقترب أسلوبه فيها من الشعر.
والحال أن كاواباتا لم يتوقف عندها بل كتب روايات كثيرة هي تحف وإبداع في مسيرته الأدبية كـ "بلد الثلج" و"الجميلات النائمات" و"ضجيج الجبل" و"راقصة إيزو"، وهي رواية مستوحاة من اختبار شخصي. وأمام هذا الإبداع، كتب له صديقه وتلميذه يوكيو ميشيما الذي سبق وانتحر قبله بعامين، وهو في الخامسة والأربعين من عمره بطريقة الهاراكيري، أي بقطع أحشائه بسيف قصير، وهي طريقة تقليدية في اليابان: "إن رواياتك عظيمة إلى حد كبير، وسامية إلى حد كبير، لدرجة أني لا أستطيع في صغري إلا أن أجلها من بعيد، كالراعي الشاب الذي ينظر إلى قمم الألب الزرقاء في الأفق ويحلم باليوم الذي يصبح فيه قادراً على تسلق أعلى قمة".
تتميز كتابات كاواباتا ببساطة أسلوبه البعيد عن الزخرفة، وكأنه يعبر من خلالها عن بساطة الأشياء وهشاشتها، عندما يدخل الإنسان أعماق ذاته بعيداً من كل ما هو سطحي. وتتميز بتعبيرها عن العزلة والموت والجمال والجسد، وهي أيضاً تعبير عن ذاته عينها والسبيل الوحيد لشفائه من آلام الطفولة وصدماتها. حاول كاواباتا في كتاباته، وبحسب خطابه عند استلامه جائزة نوبل، أن يجمل الموت، وأن يبحث عن التناغم بين الإنسان والطبيعة والفراغ، وأن يناضل من أجل الجمال، فجاءت مسيرته الأدبية في بحثها عن الجمال والعزلة والموت، وفي وصفها لهذه الظواهر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، محاولة لوصف مأساة المشاعر الإنسانية بحساسية مرهفة.
الموت رحم الكتابة
تحتل فكرة الموت حيزاً جوهرياً في كتابات كاواباتا؛ إنها رحم إنتاجه. ففي يومياته يصف نزاع جده وموته كما أسلفنا، وفي "هندباء برية" الرواية التي تركها غير مكتملة، يروي قصة إينكو التي تركتها أمها وحبيبها في مصح للأمراض النفسية، لمعاناتها من حالة غريبة من العمى، الذي يجعلها عاجزة عن رؤية جسد حبيبها على رغم عدم تأثر بصرها، فتنهار. ويبقى السؤال لمعرفة مصدر مرض إينكو: هل هي الصدمة المرتبطة بموت والدها الذي "رأته من دون أن تراه؟". نلاحظ هنا تأثر أدب كاواباتا بطفولته الكئيبة وبحياته عينها.
وفي "بلد الثلج" تلميح في مواضع عدة إلى الموت ومأساته. فحين كان يوكيو محتضراً، رفضت كوماكو زيارته على رغم إلحاح يوكو وشيمامورا. تقول لشيمامورا: "لا أريد أن أراه. لا أريد أن أرى إنساناً يموت". ونتساءل: هل ترفض ذلك لأن مشهد الموت مرعب لكونه يضعنا أمام ضرورة، أمام قدرٍ لا مجال للهروب منه؟ أو أن هذا المشهد مخجل إذ نقف أمام الشخص المحتضر عاجزين عن فعل أي شيء لإنقاذه؟ أو أن سبب الرفض هو الحقيقتين معاً؟ كما أن كتاباته الأخرى لا تخلو من هذا الموضوع. نجد مثلاً في "قصص بحجم راحة اليد" الكثير من المواضع التي يتطرق فيها إلى موضوع الموت والجنائز والانتحار والرقاد. نلاحظ على سبيل المثال أنه يفتتح القصة "تجميل"، وهنا المفارقة، بهذه الجملة: "تواجه نافذة حمامي مرحاض قاعة "ياناكا" الجنائزية". وفي "قناع الموت" يتحدث عن "قداسة الموت"، هذه الظاهرة التي نعجز أمام قناعها عن تمييز "الذكر من الأنثى". ويتكرر في كتاباته ذكر الجثث، خصوصاً عندما يصف نظرة الرجال إلى النساء كنظرة تشيئهن أي تجعل منهن موضوعات، دمى، شبه جثث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبما أن كاواباتا على حد تعبيره، أراد أن يجمل الموت، فهو حاول ذلك من خلال أجمل رواياته. ففي "الجميلات النائمات" يروي سعي عجائز مصابين في رغباتهم، إلى دخول غرف سرية لمراهقات نائمات، الليل كله تحت تأثير مخدرٍ، من أجل قضاء الليل معهن وليستعيدوا إلى جانبهن وهم شبابهم من دون حب، ومن دون أي علاقة جسدية، مكتفين بالنظر من دون اللمس. فبالنسبة لإيغوشي كانت الليالي الخمس التي أمضاها، فرصةً ليفكر في حياته ويتذكر نساء حياته، ويتأمل الموت الذي ينتظره، وربما هي فرصة للتكفير عن أخطائه. في هذا الإطار، يكتب كامل يوسف حسين مترجم "قصص بحجم راحة اليد" إلى العربية في مقدمة الكتاب، أن كاواباتا "يطيل في تصوير الأجسام النائمة، وربما يحس القارئ بفظاعة الانحلال والموت، ذلك الموت الذي يشدد عليه كاواباتا كثيراً، والذي يؤكد لنا في أكثر من موضع أن الجمال، وحده، هو الرد على فظاعة الموت".
الجمال توق إلى عالم اللاواقع
في وصفه جمال النسوة الشابات دلالة على رغبة كاواباتا بالخروج من الواقع ودخول عالم لا واقعي، خيالي. ففي "بلد الثلوج"، يشغل الجمال الكاتب. في وصفه لوجه كوماكو من خلال زجاج نافذة القطار يقول: "وجه كوماكو الذي لاح كوميض ثم سرعان ما تلاشى. وكان لعقيق خديها، وقد أصبح وهماً، بريق مماثل لذاك الذي التمع في مدى الثلج الباهر في المرآة الصباحية. ومرة ثانية كان ذلك في عيني شيمامورا حلول اللون الذي يأذن بوداع العالم الحقيقي". وفي وصفه للجمال يلمح كاواباتا إلى نور يفوق الوصف، و"بهاء ينير جمال يوكو بشكل خارق للطبيعة". والليل ومرآة القطار كما يصفهما فيهما شيء من عالم بعيد، وأمام هذا الإحساس يشعر شيمامورا بالحاجة إلى الرجوع إلى أشياء العالم الواقعي.
كذلك يهتم كاواباتا بموضوع الحب – أو ربما ما يشبه الحب – اللاواقعي بين شخصين، والذي لا يقود إلى أي لقاء فعلي. تجسد العلاقات التي يذكرها في أغلب رواياته توق الإنسان إلى عالم ربما أفلاطوني يحتل فيه الجمال مكانة جوهرية، ونجد فيها نوعاً من التجريد المعبر عن الملل من الحياة الواقعية. يعكس لنا أيضاً كاواباتا في رواياته جمال الطبيعة الذي يفتح المجال أمام الإنسان لكي ينسجم بها في قلب عزلته العميقة. ألم يكن كاواباتا نفسه يغادر المدينة هرباً من ملل الحياة اليومية عندما يسيطر عليه الشعور بالعزلة؟ ألم تكن نزهاته في هذه الطبيعة هي ما أوحى له أول عملٍ أدبي، "راقصة إيزو"؟ الأدب هو المكان الذي يفرغ فيه كاواباتا قلقه وألمه وكآبته، فيشعر فيه ببعض السعادة، ويبحث فيه عما هو أبعد من الواقع الأليم، عن الجمال وراء هذا الواقع المر. ففي جمالية السرد فتح كاواباتا المجال لتجلي الإحساس المحض.
بعد خمسين عاماً على انتحار كاواباتا، ما زلنا نتساءل إذا كان موته الإرادي، نوعاً من البحث عن الجمال الذي أمضى حياته في تقصي تجلياته. أو أن انتحاره استباق للموت واختيار وقرار ليسيطر ولو لمرة واحدة في حياته، على هذا السارق الذي جعل منه يتيماً، وحيداً، طفلاً خائفاً من الموت كما يقول في "المراهق": "اتسمت طفولتي الحزينة بالخوف من الموت شاباً"؟