تعود فجأة الاضطرابات العمالية كما في السبعينيات. تعد إضرابات عمال السكك الحديدية والمترو، والإضراب الذي نفذه لمدة ثمانية أيام عمال الأرصفة في ميناء فيليكستاو، صدى لتلك النزاعات السابقة، إذ شهدت سكك الحديد وأرصفة الموانئ اضطرابات آنذاك.
وقد ينضم إليهم أطباء الصحة العامة، الذين يحتجون على الاضطرار إلى إعطاء مواعيد للمرضى خلال عطل نهاية الأسبوع، وهذا أيضاً صدى لأمر حصل عام 1975 حين أجبر الأطباء والاستشاريون الصحيون المبتدئون الحكومة العمالية على التخلي عن خططها لمنعهم من استقبال مرضى لحسابهم الخاص. وهناك مجموعة مهنية أخرى، المحامون، تعطل حالياً العمل القضائي وقد تنفذ إضراباً شاملاً في سبتمبر (أيلول).
وهذه ليست ظاهرة بريطانية فحسب، ثمة مجموعات أخرى كثيرة من العاملين حول العالم تقوم بخطوات مماثلة أو تخطط لها: طيارو "إيزي جت" في إسبانيا، والعاملون في قطاع الصحة النفسية في كاليفورنيا، وعاملو السكك الحديدية في الولايات المتحدة (هنا تدخل جو بايدن محاولاً تجنب إضراب شامل في كل البلد)، وما إلى ذلك. وربما تعاني المملكة المتحدة من اضطرابات أكثر من معظم البلدان الأخرى حالياً، لكن الضغوط عالمية. لماذا؟
ثمة إجابة بسيطة، وأخرى أكثر تعقيداً وإنما شاملة. يتمثل التفسير البسيط في القفزة التي يشهدها معدل التضخم: يعاني الناس من انخفاض القيمة الحقيقية لأجورهم ويسعون إلى استعادة جزء من هذه الخسائر على الأقل من خلال المطالبة بأجور أعلى. هنا، لا يجوز الجدل حول ما إذا كان ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك أو لا، ولكن الموقف الذي اتخذته المجموعات لتفاوض على هذا المطلب مختلف، بالتالي، بعض الإجراءات ستأتي بنتيجة أفضل من غيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الواضح أن موقف عمال السكك الحديدية قوي. في الولايات المتحدة، اقترح المجلس الخاص الذي أنشأه الرئيس بايدن أن يحصل عمال السكك الحديدية البالغ عددهم 115 ألف عامل على زيادة في الأجور قدرها 24 في المئة، إضافة إلى مكافآت بآلاف الدولارات.
لكن التضخم سينخفض على الأرجح في نهاية المطاف، ربما ليس إلى مستوى 2 في المئة الذي استقر عنده معظم الوقت في فترة الـ30 سنة الماضية، بل إلى مستوى قريب منه. تفتقر الإضرابات إلى الشعبية إلى حد كبير، لذلك يتعين على الساسة أن يتصرفوا، لكن– وهذا يقودنا إلى الإجابة الثانية– ثمة أسباب وجيهة تجعلنا نتوقع استمرار التوترات لأن الطلب على اليد العاملة في مختلف أنحاء العالم المتقدم سيرتفع في السنوات الـ30 المقبلة مقارنة بما هو عليه الآن. وهناك ثلاثة أسباب على الأقل تجعلنا نتوقع هذا الارتفاع.
أولاً، بدأ حجم السكان البالغين سن العمل التقليدية باعتبارهم نسبة من عدد السكان الإجمالي ينخفض في كل البلدان المتقدمة تقريباً، في حين كان يرتفع حتى وقت قريب. وتظهر أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن أسرع انحدار يحدث في اليابان وإيطاليا. وتعرف المنظمة سن العمل بأنها ما بين 15 و65 سنة، وهذا مستغرب بعض الشيء، لكن الفكرة الأساسية قائمة.
ومع تقاعد جيل الأشخاص الذين بلغوا سن الرشد في الستينيات وبقاء معدل الولادات منخفض للغاية، سيقل عدد العمال المؤهلين لتولي الوظائف. لذلك، يتعين رفع الأجور. وربما تقرر بعض البلدان زيادة معدل الولادات، فمختلف أشكال الحوافز قيد التجربة: لا تدفع النساء في هنغاريا اللاتي لديهن أربعة أطفال أو أكثر أي ضريبة دخل مدى الحياة. وربما يجري إقناع مزيد من الأشخاص الأكبر سناً بمواصلة العمل، لكن الضغوط الإجمالية هائلة إلى حد قد يجعل العمالة في المستقبل البعيد تعاني نقصاً فادحاً في اليد العاملة.
ثانياً، يحتاج العديد من الوظائف الجديدة إلى مهارات مختلفة. لا يتعلق الأمر ببساطة بأشخاص يحتاجون إلى مزيد من التدريب والتعليم، ولو أن هذا هو الواقع بكل تأكيد، وبما أن تدريب الناس يكلف وقتاً ومالاً، يجب أن تعوض الأجور هذه المبالغ. كذلك يحتاج كثير من الوظائف الجديدة إلى الشباب، من دون سبب واضح فعلياً، لكن يبدو أن الشباب أفضل من الأكبر سناً في تعلم كيفية استخدام التكنولوجيا. والواقع أنهم يتعلمون ذلك بالفطرة في حين يواجه الأكبر منهم سناً معاناة في استخدامها. إنه لأمر سار جداً للشباب، لكن نظراً إلى تراجع أعدادهم، سترتفع معدلات أجورهم لا محال.
ثالثاً، من المرجح أن المحرك الأكبر على الإطلاق في هذا السياق هو التراجع عن العولمة الذي يبدو أنه يحدث الآن. وهذا تطور معقد للغاية، ونظراً إلى أننا في وسطه، يصعب قياسه كمياً، لكن من الواضح تماماً أن البلدان كلها ستحاول الاعتماد في شكل أقل على شراء البضائع والخدمات من الجانب الآخر من العالم والتركيز على زيادة الإنتاج محلياً.
وتعاني التجارة الدولية من انخفاض باعتبارها جزءاً من الناتج الإجمالي منذ عام 2008، بالتالي ما يحدث اليوم من تعطل على الصعيد الاقتصادي ليس وليد اللحظة بل بدأ قبل فترة طويلة، وتزامن مع الحرب في أوكرانيا ومشكلات سلاسل الإمداد في شرق آسيا، وكلها عناصر تدفع الأزمة قدماً. لقد أصبح أمن الإمدادات أكثر أهمية من الأسعار. وإذا كان للبضائع والخدمات أن تنتج محلياً، يحتاج ذلك إلى مزيد من الناس لصنع هذه البضائع وتوفير هذه الخدمات– وهذا يعني مزيداً من الطلب على العمالة التي تصبح أكثر ندرة.
إذا أحسنت الاستفادة مما يجري، فإن هذه أنباء طيبة للغاية للعمال. وعلى أصحاب العمل إيجاد طرق تجعل الوظائف أكثر إرضاء لشاغليها، إضافة إلى دفع أجور أكبر، وعلى العمال مساعدتهم من خلال تحسين إنتاجيتهم الخاصة. وينبغي أن يكون التعاون وليس المواجهة هو شعار المرحلة، لكن من المؤسف كما أظهرت الإضرابات، أننا لم ندخل بعد في هذا النمط التعاوني. ولا يزال هناك الكثير ليتعلمه الجانبان.
© The Independent