في الوقت الذي كانت فيه عيون سكان العاصمة الليبية معلقة على بواباتها الجنوبية والشرقية، ترقباً لاقتحام محتمل لها من قبل القوات الموالية لرئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا، حاصرهم الرصاص والقذائف من داخلها، عقب اندلاع اشتباكات عنيفة جديدة بين أكبر كتيبتين مسلحتين وأكثرهما عدة وعتاداً.
وللمرة الثانية في غضون شهر واحد، كانت حصيلة هذه الاشتباكات كارثية على طرابلس، حيث أدت إلى إزهاق أرواح جديدة من المدنيين وتدمير عشرات المباني، بينها مقار حكومية حيوية، وما زالت هذه الخسائر مرشحة للزيادة مع استمرار المعارك وسط مناطق آهلة بالسكان.
شرارة الاشتباكات
بدأت الاشتباكات في وقت متأخر من ليلة الجمعة/ السبت، بين قوة من الأمن العام بقيادة عماد الطرابلسي، الموالي لقائد قوات دعم الاستقرار عبدالغني الككلي الشهير بـ"غنيوة"، المتحالف أخيراً مع رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة، و"اللواء 777 قتال" بقيادة هيثم التاجوري، أشهر قادة كتيبة "ثوار طرابلس"، ونشر بعدها الأخير مقطع فيديو توعد فيه من يهاجم مقراته بجاهزيته للتصدي لهم.
قال شهود عيان إن قوة عسكرية كبيرة مكونة من 100 سيارة مسلحة خرجت من مصراتة باتجاه طرابلس يرجح أنها موالية لرئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا، إذ أظهرت مقاطع فيديو نشرها نشطاء مسلحاً في القوة يهدد رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة.
وأفادت مصادر محلية وصحافية في طرابلس بأن المعارك استخدمت فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وأدت إلى سقوط قذائف على عدد من الأحياء أدت إلى اشتعال النيران بمحال تجارية وسيارات ومنازل لمواطنين ومقار حكومية.
وتداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر جانباً من الاشتباكات وما صاحبها من فزع ورعب شديدين للمواطنين داخل منازلهم مع انتشار الآليات المسلحة وسط المناطق السكنية.
كما أظهر أحد هذه المقاطع أسر هيثم التاجوري لعدد من مقاتلي الككلي، عقب سيطرة قوة تابعة له على مقر تابع للأخير بشارع الجمهورية، واستيلائه على عدد من السيارات والآليات الموجودة بالمقر.
حصيلة الضحايا
أعلنت وزارة الصحة في حكومة الوحدة الوطنية الموقتة سقوط 12 قتيلاً نتيجة الاشتباكات التي تشهدها العاصمة طرابلس منذ مساء أمس الجمعة، وقالت الوزارة في بيان عند السادسة مساء السبت إن هناك 87 جريحاً لافتة إلى خروج 29 حالة من المستشفيات بعد تلقي الرعاية الطبية.
وأشارت الوزارة إلى تأثر ستة مستشفيات في طرابلس جراء هذه المعارك التي تثير مخاوف من اندلاع حرب جديدة في ليبيا التي تعيش بالفعل حالاً من الفوضى في ظل وجود حكومتين متنافستين.
وأكدت الوزارة أن استهداف المرافق الصحية بالقذائف وتوجيه النيران نحوها ومنع أطقم الإسعاف والخدمات الطبية من تقديم المساعدة للمدنيين أمور ترتقي إلى جرائم حرب ويلاحق مرتكبوها ولا تسقط بالتقادم، ودعت إلى تجنيب جميع المرافق الطبية ومراكز الطوارئ والإسعاف خطر الاشتباكات المسلحة، خوفاً من أن تتوسع دائرة استهداف جميع المستشفيات العاملة في العاصمة طرابلس.
عجز جهاز الإسعاف
في الأثناء، أفاد الناطق باسم جهاز الإسعاف والطوارئ أسامة علي بأن "استمرار الاشتباكات في شوارع العاصمة طرابلس جعل فرق الإسعاف عاجزة عن مساعدة المدنيين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وصرح بأن "المناطق التي تشهد اشتباكات هي شارع الزاوية وطريق السور وباب بن غشير والشوارع المتفرعة منها"، وهي شوارع حيوية تقع في قلب العاصمة طرابلس.
وبشأن أعداد الضحايا، أكد علي أن "الجهاز لم يتمكن من حصرهم حتى الآن، لكن المؤكد أن الاشتباكات أدت إلى وفاة الفنان الكوميدي مصطفى بركة وإصابة سيدة".
وأعلن جهاز الإسعاف والطوارئ حالة النفير القصوى بكل مكاتبه في طرابلس وضواحيها، محذراً المواطنين من الخروج من منازلهم إلا للضرورة.
خسائر حكومية
الاشتباكات العنيفة في شوارع طرابلس لم تسفر عن خسائر مدنية فقط، بل أظهرت مقاطع مصورة تعرض مبان حكومية لأضرار كبيرة جراء سقوط قذائف عليها، منها مقر السجل العقاري الذي اشتعلت به النيران، ومبنى الجوازات ومسجد ومصحة.
وحمل المجلس البلدي لطرابلس وسكان المدينة مجلسي النواب والدولة والمجلس الرئاسي وحكومتي عبدالحميد الدبيبة وفتحي باشاغا المسؤولية عن تردي الأوضاع في العاصمة.
وطالب المجلس البلدي في بيان، "المجتمع الدولي بحماية المدنيين في ليبيا"، كما دعا السكان إلى "الوقوف يداً واحدة ضد هذه التعديات التي أصبحت تعرض حياتهم للخطر".
وقال المجلس، "في الوقت الذي دعا فيه كل العقلاء والحكماء والمواطنين والمجتمع الدولي إلى تجنب لغة التحشيد والتهديد، تحدث الاشتباكات في قلب العاصمة ولا تعبأ بحياة المدنيين ولا ممتلكاتهم، وهذا نتيجة سوء إدارة الدولة من الجهات التشريعية والتنفيذية ورغبتها في الاستمرار في الحكم وتأجيل الانتخابات إلى ما لا نهاية".
جهود عكسية
من جانبها، قالت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، "في إطار عملي وسفري وجولاتي لتوحيد الموقف، ولنكون جسراً للسلام والمفاوضات والحوار، وعدم السماح بإعادة إذكاء الانقسامات في ليبيا، نرى جهوداً عكسية لتدميرها، كما أن تمثيلنا الدبلوماسي لبلدنا هدفه أولاً وأخيراً رفع صوت السلام والحوار ونبذ لغة العنف والهدم والعدوان".
وأضافت المنقوش، عبر حسابها بموقع "تويتر"، أن "ترهيب العائلات والمدنيين وسط منازلهم أمر مرفوض شكلاً ومضموناً، والمحاولات المتكررة للجهات المتناحرة لهدم الخطوات المتقدمة، التي نقوم بها للوصول إلى الاستقرار والسلام التي نعمل عليها ليلاً ونهاراً، هي كلها أدوات هدامة لإعادة بناء ليبيا".
قلق أممي
بدورها، أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن قلقها العميق إزاء الاشتباكات المسلحة المستمرة، بما في ذلك القصف العشوائي بالأسلحة المتوسطة والثقيلة في الأحياء المأهولة بالسكان المدنيين في طرابلس، مما تسبب في وقوع إصابات في صفوف المدنيين وإلحاق أضرار بالمرافق المدنية بما في ذلك المستشفيات.
وقالت البعثة، عبر حسابها بموقع "تويتر"، "تدعو الأمم المتحدة إلى الوقف الفوري للأعمال العدائية، وتذكر جميع الأطراف بالتزاماتهم بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي لحماية المدنيين والمنشآت المدنية، وأنه من الضروري امتناع جميع الأطراف عن استخدام أي شكل من أشكال خطاب الكراهية والتحريض على العنف".
الدبيبة يتهم باشاغا
واتهمت حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبدالحميد الدبيبة، ضمنياً خصمه فتحي باشاغا بالتسبب في إشعال الاشتباكات التي تشهدها طرابلس حالياً، حيث قالت في بيان، إن "الاشتباكات التي شهدتها العاصمة طرابلس جاءت بعد مفاوضات لتجنيب العاصمة نزيف الدماء، بمبادرة ذاتية تلزم جميع الأطراف الذهاب للانتخابات في نهاية العام كحل للأزمة السياسية".
وأشارت الحكومة إلى أن "الطرف الممثل لفتحي باشاغا تهرب في آخر لحظة، بعد أن كانت هناك مؤشرات إيجابية نحو الحل السلمي بدلاً من العنف والفوضى، وهذا التفاوض الذي أبدت فيه الحكومة مرونة عالية مدت أيديها فيه للسلم، كان بمشاركة أطراف عسكرية وسياسية ممثلة للطرف الآخر أبدت بعض عناصرها استجابة لدعوة السلام".
وأضافت، "كان من المفترض أن يعقد جلسته الثالثة، الجمعة، في مدينة مصراتة لمناقشة تفاصيل الاتفاق، لكنها ألغيت وبشكل مفاجئ في آخر لحظة، بالتزامن مع التصعيدات العسكرية التي شهدتها طرابلس ومحيطها".
وقالت الحكومة، إن "هذا المشهد يعيد للأذهان الحروب السابقة وما خلفته من مآس". وأوضحت أن "هذه الاشتباكات قد نجمت عن قيام مجموعة عسكرية بالرماية العشوائية على رتل مار بمنطقة شارع الزاوية، في الوقت الذي تتحشد فيه مجموعات مسلحة غرب طرابلس وجنوبها، تنفيذاً لما أعلنه فتحي باشاغا من تهديدات باستخدام القوة للعدوان على المدينة".
وخلصت إلى أنه "بالتزامن مع هذه الأحداث وردت معلومات أخرى عن تحشيدات عسكرية ستعبر من الطريق الساحلي إلى شرق طرابلس لزعزعة الأمن والاستقرار في المدينة، في محاولة بائسة لتوسيع دائرة العدوان على العاصمة".
باشاغا يرد التهم
لم يتأخر رئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا، في الرد على اتهامات الدبيبة، عبر مكتبه الإعلامي، حيث قال إنه "طيلة الأشهر الستة الماضية بعد منح الثقة لحكومته، رحب بكل المبادرات المحلية والدولية لحل أزمة انتقال السلطة سلمياً من دون أي استجابة من حكومة الوحدة الوطنية".
وأشار إلى أنه يثمن كل الجهود المبذولة من جميع الأطراف المحلية والدولية لحل الأزمة، التي اتضح لها جلياً في كل محاولاتها تعنت وتشبث هذه الحكومة ورئيسها بالسلطة، وأصبح واضحاً لكل الليبيين أن هذه الحكومة مغتصبة للشرعية وترفض كل المبادرات، بما فيها خطاب رئيس الحكومة الذي لم تمر عليه ثلاثة أيام، وناشدنا فيه الدبيبة أن يجنح للسلم".
الركون إلى المهادنة
رئيس المنظمة الليبية للتنمية السياسية جمال الفلاح يرى أنه "لا بد من دعم التفاهمات المحتملة بين الدبيبة وباشاغا، التي تهدف لعدم الانجرار إلى الحرب والاقتتال، وتسريع الوساطة التي تسعى إليها شخصيات وأعيان من مصراتة وطرابلس بين الطرفين، خصوصاً أعيان مصراتة ونخبها السياسية والاجتماعية".
وقال الفلاح، "من حيث المنطق والمبدأ السياسي فإن باشاغا لا يملك الشرعية والأحقية لدخول طرابلس، وحكومة الدبيبة في الوقت نفسه سحبت منها الثقة من البرلمان، لكن المسار السياسي أنتج لنا سلطة تنفيذية بمجلس رئاسي ورئيس حكومة هو الدبيبة، وهذا هو جوهر الخلاف". وأكد أنه "على الجانبين الوصول إلى تفاهمات من أجل إنقاذ البلاد وعدم جرها إلى الحرب الشاملة".
وأضاف أن "باشاغا يزعم أنه يمتلك الشرعية من مجلس النواب، الذي فقد الشرعية بدوره، أما الدبيبة فيملك الشرعية الدولية بما أنه جاء عن طريق مؤتمر الحوار السياسي في جنيف، ونحن نتمنى أن يكون هناك حوار بينهما لا لتقاسم السلطة بل للاتفاق على موعد قريب لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لأن ما يحدث هو أن كل طرف حين يجد نفسه خارج المعادلة السياسية يحاول أن يحشد ويستخدم السلاح ويتقاسم السلطة، وهذا يعانيه الليبيون منذ 2011، التحشيد ومحاولة دخول العاصمة".