أصبح مدى الضيق الذي يواجهه البريطانيون على مداخيلهم مكشوفاً، وبات مؤكداً أن سقف أسعار الطاقة سيزيد متوسط الفواتير بمقدار يزيد على 80 في المئة بحلول شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، فيما تشير توقعات إلى أن التكاليف السنوية ستبلغ سبعة آلاف جنيه استرليني (نحو 8,200 دولار أميركي) بحلول شهر أبريل (نيسان) المقبل.
وفي التفاصيل أن "مكتب أسواق الغاز والكهرباء" (أوفغيم)، كشف عن أن سقف الأسعار الذي من المفترض أن يحمي المستهلكين من أي زيادات غير عادلة قد تطرأ على فواتير الطاقة، سيرتفع إلى 3,549 جنيه استرليني سنوياً للأسرة المتوسطة، وهو مستوى يتخطى بثلاثة أضعاف المستوى الذي كان عليه في الشتاء المنصرم، وأفاد مديرو مؤسسات خيرية أن هذا الارتفاع سيتسبب برمي نحو 8 ملايين و900 ألف أسرة في براثن فقر الوقود، مع بروز "خطر حقيقي" من أن يعاني أطفال من الجوع، لأن السكان الأكثر فقراً في المملكة المتحدة باتوا يدفعون نحو نصف دخلهم لتسديد فواتير الغاز والكهرباء.
وقد تلقت الحكومة البريطانية تحذيرات من إمكان تعرض أرواح للخطر ما لم تعمد إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية الأسر من الزيادات الهائلة في الأسعار، سيما أن الحكومة قد أخفقت حتى الآن في الاستجابة لدعوات بتقديم مزيد من المساعدات المالية. غير أن بوريس جونسون أقر أخيراً يوم الجمعة الفائت، بأن من سيخلفه في المنصب يتعين عليه "حتماً" أن يقدم مزيداً من المخصصات المالية، بينما دعا وزير الخزانة ناظم الزهاوي الناس إلى خفض استهلاكهم من الطاقة لتخفيض الفواتير، مؤكداً أنه يعمل "من دون كلل" لاتخاذ التدابير الهادفة إلى تأمين الدعم اللازم.
أما المرعب فعلاً فهو أن الأسوأ لم يقع بعد، إذ إن التعاملات المحمومة في سوق الغاز بالجملة شهدت يوم الجمعة الفائت قفزةً إضافية بنسبة عشرة في المئة، ما زاد من المكاسب الكبيرة المحققة خلال الأسبوعين الأخيرين.
وفق الأسعار الراهنة في السوق، سيتجاوز الحد الأقصى لفواتير الطاقة في المملكة المتحدة 5500 جنيه استرليني سنوياً بحلول شهر يناير (كانون الثاني)، وسبعة آلاف جنيه استرليني بحلول أبريل. وينبه محللون إلى أن كلفة الغاز قد تواصل ارتفاعها مع استمرار روسيا بقطع الإمدادات الحيوية التي تعتمد عليها الدول الأوروبية، ومن شأن هذا الأمر أن يثقل الأعباء الملقاة على كاهل ملايين الأسر ذات الدخل المنخفض في وقت تكابد فيه أساساً لمواجهة الأزمة والظروف المعيشية الصعبة لتأمين التدفئة والطاقة المناسبتين خلال أشهر الشتاء الباردة.
من جهتها، أعربت "مؤسسة جوزيف راونتري" عن خشيتها من أنه حتى عند السقف المحدد لشهر أكتوبر، ستجد الأسر الفقيرة أن دخلها قد "تبخر". وقد احتسبت هذه الجمعية الخيرية أن الأسرة المتوسطة ذات الدخل المنخفض، ستضطر في السنة المالية 2023 - 2024 إلى دفع أربعة أضعاف ونصف ما كانت تنفقه في العام الماضي على فواتير الطاقة، في حين أن أسر الأب الأعزب/الأم العزباء سيضطرون إلى دفع نحو ثلثي دخلهم بعد تسديدهم تكاليف السكن، وستتجاوز فواتير الطاقة للبالغين من ذوي الدخل المنخفض 120 في المئة من دخلهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتصف المؤسسة هذا الوضع بأنه "لا يعقل"، مشيرةً إلى أنه "سيجبر الناس على تقليص استهلاك الطاقة كي يتمكنوا من دفع الفواتير، إلى درجة أنه لن يتبقى لديهم أي أموال لشراء الطعام أو تأمين حاجات أساسية أخرى".
أما الأسر ذات الدخل المتوسط، فستضطر إلى دفع نحو خمس دخلها لتسديد فواتير الغاز والكهرباء، الأمر الذي يثير مخاوف من انهيار شركات عندما يلجأ الناس إلى شد الأحزمة، وتقليص إنفاقهم على المواد غير الأساسية. ويشير "المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية" إلى أن حساباته أظهرت أن قرابة مليونين و200 ألف أسرة إضافية ستنفد مدخراتها بحلول شهر إبريل من السنة 2024، ليصل إجمالي العدد إلى نحو ستة ملايين أسرة.
ورأى بيتر ماتييتش، كبير المحللين في "مؤسسة جوزيف راونتري"، أن "الإعلان غير الاعتيادي" الصادر عن "مكتب أسواق الغاز والكهرباء"، يجعل من حزمة الدعم التي كانت قد خصصتها الحكومة لمواجهة ارتفاع كلفة المعيشة، عقيمةً وغير ذات جدوى.
وأضاف، "يظهر تحليلنا أنه مع احتمال ارتفاع سقف أسعار الطاقة بشكل كبير، ومن المرجح أن يظل مرتفعاً طيلة السنة المقبلة، سيكون ضرباً من الوهم التفكير في إمكان تسديد الأسر البريطانية المتعثرة مثل هذه الفواتير الضخمة من دون تدخل حكومي كبير".
ورداً على إعلان "مكتب أسواق الغاز والكهرباء" رفع سقف أسعار الطاقة، علق مارتن لويس، الخبير المالي بحقوق المستهلك البريطاني، بأن "هناك حاجةً ماسةً لتقديم مزيد من الدعم للأفراد الأكثر فقراً"، محذراً من "تزايد حالات الوفاة هذا الشتاء بسبب عجز الناس عن تحمل كلفة رفع سقف أسعار الطاقة بنسبة 80 في المئة حتى الآن". ورأى أن الوضع بات أشبه بـ "كارثة اجتماعية ومالية حقيقية تعرض حياة الناس للخطر".
وقالت شيلا كوريل من لينكولنشير وهي امرأة مسنة تبلغ من العمر 80 سنة، إنها باتت تقلل من الاستحمام وتغسل بعض ملابسها بيديها، فيما توقفت عن شراء الكماليات سعياً إلى توفير المال كي تتمكن من دفع فواتير الغاز والكهرباء، لكنها تعتقد الآن أن الأشخاص المتقاعدين لن يتمكنوا من الاستمرار على هذا النحو. هذه السيدة التي تتلقى 184 جنيهاً استرلينياً في الأسبوع، وتدفع في الوقت الراهن 96 جنيهاً استرلينياً في الشهر لتسديد فاتورة الغاز، ستجد نفسها أمام الزيادات المرتقبة في وضعٍ "يستحيل تحمله".
كوريل قالت لصحيفة "اندبندنت" في وصف رد فعلها عندما سمعت بإعلان رفع سقف أسعار الطاقة، "شعرت بارتباك شديد. إنها أخبار مدمرة. لا يمكننا مواكبة مثل هذه الزيادات بواسطة معاشاتنا التقاعدية المتدنية. نحن نجد أنفسنا الآن أمام هذه المعادلة، إما تأمين التدفئة أو تناول الطعام. أما الوضع المرتقب فقد أصبح يتمثل في عدم القدرة على تأمين أي من هاتين الحاجتين".
سارة أوغيلفي مديرة السياسات في مجموعة "تشايلد بوفرتي آكشن غروب"، توقعت أن يبث إعلان يوم الجمعة "الرعب" في نفوس كثير من الأسر في بريطانيا، التي ستجد أن من المستحيل الإفلات من براثن الفقر.
وقالت أوغيلفي، "إننا ندرك أن الأسر التي لديها أطفال، تنفق 30 في المئة على فواتير الطاقة أكثر من تلك التي لا أطفال تعيلهم، ومع ذلك فإن الحكومة أخفقت كلياً في الإقرار بالأعباء الإضافية الملقاة على كاهل الأسر المعيلة"، مشيرةً إلى أن "رئيس الوزراء المقبل سيكون على تماس مع هذا الواقع المرير، ما لم يعمل على زيادة الدعم بما يلبي حجم الحاجات، ويزيد المنافع بما يواكب حجم التضخم".
وتخوف خبراء الطاقة من عدم وجود سقف يحدد تقريباً المسار التصاعدي لأسعار الطاقة الآن، بحيث تواجه الدول في مختلف أنحاء أوروبا الواقع نفسه، إن لجهة النقص في الموارد، أو لناحية التقنين أو انقطاع التيار الكهربائي هذا الشتاء. ويرى توني جوردان، خبير الطاقة في شركة "أوكسيليون" الاستشارية، أن كثيراً من التوقعات في شأن سقف الأسعار قد تكون متفائلةً للغاية لأنها تعتمد المعدل المتوسط للأسعار المسجلة في الأيام أو الأسابيع الماضية.
وفي الوقت الراهن، تحلق أسعار الغاز بسرعة بالغة، أحياناً بنسبة عشرة في المئة في اليوم الواحد، إلى درجة أن التوقعات التي تعتمد تصبح قديمة بالفعل بحلول وقت نشرها، ويقول جوردن، "إذا ما أوقف احتساب الحد الأقصى للأسعار لشهر أبريل اليوم، فسيكون في حدود7200 جنيه إسترليني، لكن هل يمكن أن يصل إلى عشرة آلاف جنيه؟ هذا ممكن بالتأكيد".
يشار إلى أن هناك مجموعةً من المشكلات المجتمعة تدفع بالأسعار إلى مستويات قياسية جديدة على نحو يومي تقريباً، بما فيها الخفض المخطط له لصادرات حقول الغاز النرويجية، وتوقف إمدادات الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر أنبوب "نورد ستريم 1" لإنجاز أعمال الصيانة السنوية، والتأخير في إعادة تشغيل محطة "فريبورت" لتصدير الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة، التي لا يتوقع أن تعود إلى وضعها الاعتيادي قبل ستة أسابيع أخرى.
ويضيف الخبير في الطاقة، "ماذا يتطلب قبل أن تعود السوق إلى حالتها الطبيعية؟ إن العامل الوحيد يتمثل في الإنهاء الكامل للعقوبات المفروضة على روسيا، ومحاولة التراجع لإزالة التوتر، والتودد لأطراف النزاع، ومحاولة قلب جميع المعادلات بما فيها على الأرجح خط أنابيب ’نورد ستريم 2‘".
ويتابع جوردن، "عندئذ سيصبح ممكناً أن تعوم البلاد على بحر من الغاز، بدلاً من بذل محاولات للبحث عن إمدادات غريبة لتوليد الحرارة هنا وهناك، التي لا وجود لها أساساً، فأنا لا أرى أن ذلك قد يحصل، إذ ليس لدى الولايات المتحدة ما يكفي من الغاز لتعويض الغاز الروسي، صحيح أن السوق قد تتغير قليلاً، لكن لا يوجد ما يشير إلى أن الأسعار ستنخفض في الوقت الراهن".
كارولين باين الخبيرة البارزة في السلع الأساسية لدى مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" رأت أن المملكة المتحدة "تسير ’على حبل مشدود‘ وسط التحديات المرتقبة هذا الشتاء".
وقالت، "إذا ما تعرضنا لبعض نوبات البرد، أو لمزيد من الإجراءات المتشددة (في ما يتعلق بالإمدادات)، فإن أوروبا ستضطر إلى النظر في التقنين". وتضيف، "بصفتي خبيرة اقتصادية، من الصعب إطلاق توقعات، لأن هذه المسألة ما زالت غامضةً للغاية، إنها لا تشبه أي شيء اختبرناه من قبل، ولم تكن صدمات النفط في سبعينيات القرن الماضي في أي شكل من الأشكال بمستوى ما نشهده في قضية الغاز الآن".
© The Independent