اسمها إليزابيث مونتاغو، عاشت في لندن خلال واحدة من أكثر مراحل بريطانيا ازدهاراً ثقافياً وتألقاً للنزعات النسوية، وكانت مفكرة وكاتبة، ومن مناصرات تحرر المرأة وخوضها السياسة، كما كانت من الثراء بحيث تجعل من صالون بيتها الفخم وسط العاصمة نوعاً من نادٍ ثقافي يختلط فيه الجنسان شرط ألا يقربا الخمر، لأنها تشتت الأذهان، والتركيز مطلوب في مثل ذلك الصالون الذي كانت السيدة قد استعانت لتزيينه ببعض كبار مصممي الديكور في ذلك الزمن، فصالون يرتاده صمويل جونسون وهوراس والبول وإدموند بوركي ومن يساويهم من كبار الفلاسفة والكتاب، كان لا بد له من أن يكون بالغ الأناقة، ثم إن إليزابيث التي تصغر زوجها بـ30 عاماً كانت ثرية، ولسوف تزداد ثراءً حين سيموت باكراً تاركاً لها سمعة عطرة وأموالاً وأعمالاً مزدهرة وصداقات كانت تضجره هو، لكنها كانت أفضل ما تقدمه لندن في ذلك الحين.
ولسوف يقول مؤرخو ذلك الصالون إنه كان مستوحى من تلك الصالونات الراقية والتحررية التي كانت منتشرة في باريس وبرلين، وغالباً ما تقيمها نساء متأدبات مع فارق أساسي يكمن في أن صالون إليزابيث مونتاغو كان محتشماً إلى حد كبير بل كان يكرس همه للأفكار الكبيرة على الرغم من اسمه الذي قد يوحي بعكس ذلك: صالون "الجوارب الزرق"!
حكاية تلك "الجوارب"
غير أن لذلك الاسم حكاية بالغة الأهمية لا بد من التوقف عندها هنا منعاً لأي التباس قد ينجم عن أن "الجوارب الزرق" نفسها كانت تعتبر رمزاً للإباحية، فالحكاية أنه خلال الجلسات الأولى للنادي دخل واحد من المبدعين الكبار وقد رغب في أن يمارس حرية في ملابسه على النمط المعهود في فرنسا، فارتدى جوارب زرقاء فاضحة، وعلى الفور سخر منه الحضور واستعابوا مسلكه، لكن السيدة إليزابيث ضحكت بتسامح ودافعت عن حرية كل شخص في ارتداء ما يحلو له، ثم قالت إنها على أية حال قد عثرت على اسم للصالون يرمز إلى تلك الحرية: صالون "الجوارب الزرق"، يقيناً أن ما من أحد عاد بعد ذلك لارتداء "جوارب زرق" أو من أي لون فاضح، لكن الاسم بقي علامة على التحرر ورمزاً للتسامح، ولو في تناقض متواصل مع مزاج الصالون ومزاج صاحبته، فالحقيقة أن إليزابيث مونتاغو (1718 – 1800) كانت منذ البداية وستبقى حتى النهاية أديبة ومصلحة اجتماعية في توجه نسوي لا لبس فيه، وراعية كريمة للفنون وضروب الفكر والأدب وناقدة أدبية على وجه الخصوص، ناهيك بأنها كانت هاوية مراسلات لا تنافسها في ذلك سوى جورج ساند الفرنسية، أما هي فكانت حين تريد أن تعرف عن نفسها تلح على أنها "قارئة شكسبيرية بامتياز"! ومن الواضح أنها إنما كانت تستخدم هذه الصفة كنوع من التذكير بـ"السجال" الذي دار بينها عبر القنال الإنجليزي وبين الفيلسوف والكاتب الفرنسي فولتير الذي خطر له ذات مرة أن يكتب تعليقات ساخرة تمس شاعر الإنجليز وكاتبهم الأكبر وليام شكسبير في بعض صفحات "رسائل فلسفية"، فما كان من إليزابيث إلا أن أصدرت كتاباً وصف في حينه بأنه مميز بعنوان "دراسة حول عبقرية شكسبير وكتاباته" (1769)، وهو كتاب تعمد فولتير استصغار شأنه والسخرية من كاتبته في "رسالة إلى الأكاديمية الفرنسية" (1776)، والتي لم يفته أن يذكرها من دون أن يسميها بأن "عليها هي وبنات جنسها أن يكن ضد شكسبير على الأقل بسبب عدائه للمرأة"، فردت عليه من جديد مؤكدة أن شكسبير هو أكبر شاعر، وكاتب أنجبته اللغة الإنجليزية، وهي نشرت هذا الرد الجديد بالفرنسية برسم فولتير طبعاً، وبالإنجليزية برسم صمويل جونسون الذي كان قد سبق له أن هاجم شكسبير قبل ذلك بسنوات!
نشاط لسنوات طويلة
غبر أن ذلك الدفاع عن شكسبير كان مجرد جزء بسيط ولو "عزيز" كما كانت تقول، من نشاط السيدة التي دامت اهتماماتها الأدبية، كما دام سخاؤها في الإنفاق على الأدباء والفنانين سنوات طويلة، لكنها كانت دائماً تتحرك وتتصرف وتخوض أشرس المعارك بكل كياسة واحترام للآخرين، والحقيقة أن هذا كله تشي به تلك البورتريهات التي راح فنانون كبار من رواد صالونها يتنافسون في رسمها لها، وذلك على خطى الرسام الكبير سير جوشوا راينولدس الذي خلدها في لوحة قلدها كثر وحملها الرسام إمارات لا تعبر عنها كسيدة مجتمع فقط، بل كذلك تعبر عن قيم ترتبط بأخلاقيات التنوير الإنجليزية بصورة شبهها كثر بالإمارات الرصينة والرواقية التي جعلها النهضوي الإيطالي الكبير رافائيل تعبر عن أخلاقيات عصر بأكمله من خلال بورتريه بالداسار كاستليوني، ولعل في مقدورنا أن نضع تلك الأخلاقيات التنويرية الإنجليزية التي راحت إليزابيث مونتاغو تحرص عليها من خلال صالونها كما من خلال اختياراتها أصدقاءها ولا سيما صديقاتها، تحت مظلة الفيلسوف التنويري الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711 – 1776) الذي كان رجل الساعة الفكري في ذلك الحين وزار الصالون مرات عديدة، حيث جرت مناقشة أفكاره وكتبه، ولا سيما منها كتابه "تحقيق حول مبادئ الأخلاق" الذي يبدو أن إليزابيث قرأته مراراً جاعلة منه لسان حال صالونها الذي كانت تقول إن مبدأه الرئيس يقوم على الإيمان بقدرة الإنسان على تطوير نفسه من طريق التربية والسجال حول الأفكار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عدم نسيان الواجبات المنزلية
ولعل اللافت هنا هو أنه بمقدار ما كان اهتمام إليزابيث مونتاغو كبيراً بالرجال المحترمين الذين يرتادون صالونها متقيدين بالأخلاقيات العامة للصالون، كان اهتمامها كبيراً، بل يفوق ذلك طبعاً بالمفكرات والأديبات النساء اللاتي كن من العناصر الأساسية في الصالون وجلهن كن صديقات لها، وكانت معتادة على أن تتراسل معهن حين يغبن فترة لأسفار خاصة أو مشاغل معينة، وكن بشكل عام من المتعلمات علوماً عالية في زمن لم يكن فيه هذا التعليم من نصيب النساء، لكن إليزابيث ورفيقاتها جعلنه همهن الأساسي وحققن نجاحات كبيرة في هذا المضمار، ولعل الأشهر بينهن كانت إليزابيث كارتر التي تراسلت مع مونتاغو كثيراً، وفرنسيس بيرني التي خصت الصالون وصاحبته بصفحات عديدة من مذكراتها التي أصدرتها لاحقاً، وكذلك سارة فيلدنغ شقيقة الروائي هنري فيلدنغ صاحب رواية "توم جونز" الشهيرة، وهو أمر تقول عنه الكاتبة إليزابيت إيغير أن من مزاياه أنه "في زمن لم يكن فيه عدد المثقفات النساء العاملات في الشؤون العامة كبيراً، تمكنت مونتاغو ورفيقاتها من فرض حضور المرأة المثقفة في الساحة الأدبية والفكرية في لندن"، لكن هذا كله لم يمنع إليزابيث مونتاغو من أن تلفت النظر دائماً، في مناقشاتها خلال جلسات الشاي الأسبوعية في الصالون، أو في مراسلاتها مع صديقاتها، ولا سيما منهن إليزابيث كارتر، إلى أن هذا "النشاط والاهتمام الأدبي والفكري يجب ألا ينسي المرأة منا ما هو مطلوب منها من القيام بواجباتها المنزلية، على المرأة يا صديقتي أن تعطي الأولوية لصوت رجلها على أية أصوات أخرى ولو كانت أصوات الملائكة".
هكذا تكلمت فرجينيا
وفي نهاية المطاف لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن نساء صالون "الجوارب الزرق" كن ينتمين إلى "نوع متقدم من الفكر المحافظ"، وكن لا يتسامحن أبداً مع "النزوات التي تمارسها الثوريات النسويات الفرنسيات"، بحسب تعبير مونتاغو نفسها، ما يعني أن "تقدميتها وتقدمية رفيقاتها" كانت معتدلة وغير ثورية، وهذا على الرغم من أن دفاعهن الشرس أحياناً عن قضايا المرأة وحريتها سيكون هو ما يرتبط بسمعتهن وسمعة الصالون إلى الأبد، حتى وإن كان تعبير "الجوارب الزرق" لن يلبث بعد مرور عقود قليلة على انتهاء حياة مونتاغو، بالتالي حياة الصالون، أن بات يعكس نوعاً من السخرية الذكورية من كل أصناف النساء اللاتي ملأن القرن الـ19 بنضالاتهن في سبيل الانخراط في السياسة والمجتمع، غير أن النسويات الأوروبيات بشكل عام والإنجليزيات بشكل خاص لن ينسين أبداً لإليزابيث مونتاغو ديوناً كثيرة لها في رقابهن، وذلك على خطى فرجينيا وولف التي لن تتورع في واحد من فصول كتابها "غرفة خاصة بالمرء" عن القول إن "الصخب الثقافي الكبير الذي ساد في لندن خلال النصف الثاني من القرن الـ18 يبدو لي أكثر أهمية من حرب الوردتين والحروب الصليبية".