الأزمة الخانقة التي تعانيها ألمانيا اليوم ليست مفاجأة، حتى الرئيس ترمب حذر القيادة الألمانية في عام 2018، ونظرة إلى تاريخ ألمانيا الحديث توضح أن قيادتها لا بد يوماً ما من أن تقود البلاد إلى هاوية بعد أن خرجت من حفر وأخاديد عميقة في الماضي، فمشكلة الطاقة النووية في ألمانيا سياسية.
أمن الطاقة يتطلب تنويع مصادرها، وتنويع مصادر الواردات، وخفض التذبذب في أسعار هذه المصادر، وتأمينها بأسعار معقولة تمكن جميع أفراد المجتمع من الحصول عليها. الحكومات الألمانية المتعاقبة خالفت كل هذه المبادئ، فركزت الطاقة في مصادر معينة، وركزت الواردات وتأرجحت الأسعار بشكل تاريخي، بعد أن ارتفعت إلى مستويات تاريخية.
أزمة الطاقة بدأت تظهر منذ فترة، لهذا أكدت حكومة أنغيلا ميركل زيادة التعاون مع روسيا واستيراد مزيد من الغاز منها، إلا أن الهجوم الروسي على أوكرانيا وإصرار ألمانيا والاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على روسيا كشف المستور.
يصل جزء من الغاز الروسي إلى ألمانيا عن طريق نوردستريم 1، وجزء آخر عن طريق الأنبوب المار بأوكرانيا. ونظراً إلى المشكلات التي سببتها أوكرانيا تاريخياً لمرور الغاز الروسي فيها، قررت روسيا بناء خط نوردستريم 2 الذي يجلب الغاز مباشرة إلى ألمانيا من دون المرور بأوكرانيا. وبعد انتهاء الخط وبدء ملئه بالغاز، ضغطت الولايات المتحدة على ألمانيا ورفضت الأخيرة إجازة الخطـ ونتج من ذلك توقف ضخ أي غاز فيه. هذه التطورات حصلت قبل الحرب الروسية على أوكرانيا.
العداء الأميركي لنوردستريم 2 قديم، وحاربه الرئيس ترمب، وتم فرض حظر على الشركات التي تبنيه. الفكرة هنا أن أزمة الغاز موجودة قبل الحرب، وأن التدخل الأميركي في الشؤون الألمانية ورضوخ ألمانيا لها هو أحد الأسباب الرئيسة للمشكلة، وليس الحرب.
جاءت هذه التطورات في وقت قللت فيه ألمانيا اعتمادها على الفحم تحت ضغط حزب الخضر، وزادت اعتمادها على الطاقة الشمسية والرياح، إلا أن ما زاد الطين بلة هو قرار التخلص من الطاقة النووية تماماً بنهاية هذا العام، فقد أغلقت ثلاث محطات نووية نهاية عام 2021 ومن المقرر إغلاق المحطات الثلاث الأخيرة في نهاية العام الحالي، تاريخياً تم إغلاق محطتين في 2033 و2005 على التوالي، ثم محطة أخرى في عام 2017.
العداء للطاقة النووية
العداء للطاقة النووية في ألمانيا قديم ويعود إلى بداية السبعينيات، وتمثل ذلك في تظاهرات عديدة، التي ازدادت حجماً وحدة بعد حادثتي "ثري مايل أيلاند" في الولايات المتحدة وحادثة تشيرنوبل المحطة النووية التي أصبحت في أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتم وقف بناء مفاعلات نووية تجارية منذ عام 1989.
كل ما يتعلق بالطاقة النووية في ألمانيا مربوط بالسياسة المحلية والانتخابات على مستوى البلد ككل أو على المستوى المحلي، وكل استطلاعات الرأي على مدى عدة سنوات وحتى نهاية العام الماضي توضح أن الألمان يفضلون التخلص التدريجي من الطاقة النووية، الوضع بدا يتغير في الأشهر الأخيرة، ولكن ليس بشكل كاف لتغيير الاتجاهات التاريخية.
في عام 1998 فاز تحالف الاشتراكيين مع الخضر في الانتخابات وكانوا ضد الطاقة النووية، بعد مباحثات مع شركات الكهرباء اتفقوا على تحديد عمر أقصر للمفاعلات النووية وحصر ذلك بـ32 سنة، إلا أن التفاصيل تضمنت أن يكون ذلك بناء على إنتاجها لكميات معينة من الكهرباء وليس بحسب الفترة الزمنية، وألا يتم بناء مفاعلات جديدة، ولكن تم تحديد موعد نهائي لوقف المحطات النووية بنهاية عام 2022، وتحول هذا الاتفاق إلى قانون في عام 2002. نتج من هذا القانون إغلاق محطة "ستيد" في 2003 و"أوبرغايم" في 2005، إلا أن المحافظين بقيادة ميركل، عارضوا هذه الضغوط من اليسار ووعدوا بقلب القوانين إذا فازوا بالانتخابات.
كان هناك 17 محطة نووية عندما فاز المحافظون بالانتخابات في 2009. كون المحافظون مع حلفائهم حكومة قررت تمديد تشغيل سبع محطات في ثماني سنوات والعشر الأخرى خلال 14 سنة، هذا التصرف أثار حفيظة أعداء الطاقة النووية وخرجت تظاهرة عارمة في برلين احتجاجاً على قرار التمديد. خلاصة القول هنا إن كل الأطراف السياسية ترى أنه يجب إنهاء الطاقة النووية في ألمانيا، ولكن يختلفون على التوقيت. بعبارة أخرى، تغيرت السياسة من إنهاء الطاقة النووية في وقت محدد إلى الإنهاء التدريجي لها.
ثم وقع "الانقلاب النووي" في ألمانيا بعد حادثة فوكوشيما في اليابان، فقد علقت المستشارة ميركل تمديد السنوات العشر لمدة ثلاثة أشهر، وقررت وقف المفاعلات التي تم التمديد لها لمدة سبع سنوات، وعلى الرغم من أن القرار جاء بعد ثلاثة أيام من حادثة فوكوشيما، إلا أن المحللين السياسيين رأوا أن القرار كان مرتبطاً بالانتخابات الحامية الوطيس آنذاك التي انتهت بتقدم كبير لحزب الخضر المعادي للطاقة النووية. بعبارة أخرى يرى بعضهم أن قرار ميركل كان لعبة سياسية لكسب الأصوات، ولكنها فشلت وقتها.
في منتصف عام 2011، قررت الحكومة الألمانية إغلاق ثمانية مفاعلات وإغلاق التسعة الباقية بحلول 2022. وكما ذكر سابقاً، تم إغلاق عدة محطات في السنوات الأخيرة كان آخرها ثلاث في نهاية 2021، وبقي آخر ثلاث على أن يتم إغلاقها بنهاية العام الحالي.
هل تمدد الحكومة الألمانية للمفاعلات الثلاثة الباقية؟
أعلنت الحكومة أنها ستقوم بدراسات كي تقرر ما إذا كانت ستمدد لهذه المفاعلات الثلاثة أم لا. والواضح حتى الآن، على الرغم من عدم اتخاذ قرار نهائي، أن الحكومة ما زالت تميل إلى إغلاق المفاعلات النووية كما هو مخطط له، بينما تعارض الأحزاب المعارضة الإغلاق وتطالب بالتمديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الملاحظ على الخلاف القائم حول التمديد أنه استمرار للخلاف السياسي القائم بين الأحزاب المختلفة حول الموضوع، وأن الأطراف المتنازعة تحاول تسييس أزمة الطاقة الحالية لتحقيق ما تريد، ويلاحظ أيضاً التلاعب بالأرقام إذ يحاول كل طرف إقناع الشعب الألماني بصحة أفكاره. مثلاً الحكومة تقول إن حصة الطاقة النووية تمثل ثلاثة في المئة فقط، وهي تعادل كميات صغيرة جداً يمكن تعويضها بسهولة بحسب السياسات الحالية المتمثلة في زيادة مخزون الغاز، وزيادة استخدام الفحم والتقشف في استخدام الكهرباء، ولكن الحكومة تستخدم نسبة الطاقة النووية في استهلاك الطاقة ككل في كل ألمانيا وليس قطاع الكهرباء فقط، إذا نظرنا إلى قطاع الكهرباء نجد أن النسبة أعلى من ستة في المئة بعد أن كانت ضعف ذلك في العام الماضي.
كما أن الحكومة تركز على النسبة لكل ألمانيا مع أن آثار إغلاق المفاعلات الثلاثة إقليمية، ومن ثم فإن بعض الأقاليم التي ليس لديها بدائل ستعاني بشكل كبير، بينما لن تتأثر الأقاليم الأخرى. ومن أكثر المناطق تؤثراً إقليم بافاريا الذي يتضمن مدينة ميونيخ، فإذا اقتنعنا بدور القوى السياسية في صناعة الطاقة النووية بألمانيا فإنه يمكن القول إن الحكومة الألمانية مصرة على إغلاق المحطات النووية المتبقية، ولكن قد تعطي استثناء لبعض المفاعلات في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية لأثر ذلك في الانتخابات، ومن ثم فإن محطة إيسار بإقليم بافاريا قد تحصل على تمديد.
إلا أن هناك ضغوطاً كبيرة من الاتحاد الأوروبي على ألمانيا، بخاصة أن الأخيرة مصدر صاف للكهرباء لدول الاتحاد، للتمديد للمفاعلات الثلاثة كلها، حيث يرى الاتحاد أن أي خفض لاستخدام الغاز مكسب للجميع.
خلاصة الكلام أن الحكومة ترغب في إغلاق المحطات النووي كما هو مخطط لها، ولكن هناك ضغوط داخلية من بعض الأقاليم، وهناك ضغوط خارجية من دول الاتحاد الأوروبي، فهل تمدد؟
هل هناك إمكانية للتمديد تقنياً؟
تعارض الشركات المالكة للمحطات النووية التمديد لهذه المحطات لأنها أجبرت خلال السنوات الماضية على تجهيز هذه المحطات للإغلاق، وأي شيء عكس ذلك سيكون مكلفاً. وجاء تأكيد الحكومة الحالية مرات ومرات على أن الإغلاق سيتم على الرغم من أزمة الطاقة الحالية، لهذا لم تقم الشركات بعمليات الصيانة اللازمة، ولم تجهز الوقود النووي، ولم تخطط مالياً لهذه العمليات، وهذا يعني أن الوقود النووي سيشارف على النضوب مع نهاية العام.
فإذا قررت الحكومة التمديد لبعض هذه المفاعلات أو كلها، فهناك أحد حلين. الأول بسيط وهو أن ما سيبقى من وقود نووي في نهاية العام لن ينضب تماماً، ومن ثم فيمكن الاستمرار بتشغيل المفاعلات حتى نهاية فصل الشتاء الذي يتخوف منه الجميع، وصرح بعض قادة أحزاب المعارضة أنه يمكن استمرار تشغيل الفاعلات حتى نهاية مارس (آذار) من العام المقبل.
ولكن إذا قررت الحكومة التمديد لعدة سنوات فإن هذا الأمر يتطلب إيقاف هذه المفاعلات وإجراء عمليات صيانة قد تستمر أشهراً، ثم إضافة وقود نووي جديد، ثم تشغيل هذه المفاعلات مرة أخرى. هذه العملية مكلفة وتستغرق وقتاً، ولكن قد تخفف من حدة مشكلة ألمانيا والاتحاد الأوروبي لعدة سنوات مقبلة، بخاصة إذا استمرت أسعار الغاز في مستويات مرتفعة. هنا علينا أن نتذكر أن نائب المستشار الألماني ووزير الاقتصاد والمسؤول عن المحطات النووية هو روبرت هابك، رئيس حزب الخضر المعادي للطاقة النووية! ألم أقل لكم من البداية أن الأمر سياسي!