بعد أشهر من الاتفاق على "تهدئة الخطاب"، تبادل الحزبان الكرديان الحاكمان في إقليم كردستان الاتهامات بارتكاب "الخيانة العظمى" مع حلول ذكرى حربهما الأهلية في أواسط تسعينيات القرن الماضي في حين دعت أصوات قادة الحزبين إلى "وضع التاريخ جانباً" والعمل لتعزيز وحدة الصف الكردي.
كان الحزبان خاضا ربيع عام 1994 حرباً أهلية على أثر صراع النفوذ والموارد، وبلغت المواجهة المسلحة ذروتها عندما سيطرت قوات حزب بارزاني على مدينة أربيل بمساعدة من قوات نظام الرئيس الراحل صدام حسين في نهاية أغسطس (آب) 1996، قبل أن يبرما اتفاق سلام برعاية أميركية عام 1998.
وما زال الإقليم شبه المستقل عن بغداد يعاني آثار تلك الحرب التي قسمته إلى إدراتين منفصلتين، إحداهما في أربيل حيث فرض "الحزب الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني نفوذه، والثانية في السليمانية المعقل التاريخي لحزب "الاتحاد الوطني" الذي تولى قيادته أخيراً بافل طالباني، نجل مؤسسه رئيس الجمهورية الراحل جلال طالباني.
وينظر حزب طالباني إلى تلك الأحداث البعيدة باعتبارها "خيانة عظمى"، فيما يبرر حزب بارزاني موقفه بأنه جاء رداً على استعانة "الاتحاد" بقوات "الحرس الثوري الإيراني"، كما يرى أن "قمة الخيانة" عندما سلم بعض قيادات "الاتحاد" مناطق واسعة من الإقليم ومنها محافظة كركوك الغنية بالنفط إلى القوات الاتحادية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2007، على أثر تداعيات خوض الأكراد استفتاء للانفصال برعاية بارزاني.
خيانة أم وجهة نظر؟
المكتب السياسي لـ"الاتحاد الوطني" أصدر بياناً شديد اللهجة وصف فيه تلك الأحداث بـ"الكارثة الوطنية"، وقال إن "الحرب الأهلية والخلافات السياسية أوصلتا وطننا إلى ارتكاب خيانة تاريخية، عندما غزا جيش ’حزب البعث‘ الفاشي مدينة أربيل عاصمة الحكم الذاتي لكردستان بمساعدة ’الحزب الديمقراطي‘"، وأردف "بعد الصراع والمعاناة التي ولدتها الحرب بين الإخوة، طوى أبناء شعبنا والحزب صفحة هذا الجرح العميق من خلال الحفاظ على الوحدة الكردية بالسلام والازدهار لمواجهة الأخطار على شعبنا".
كما حذر البيان من أن "هناك خطراً مماثلاً لا يزال قائماً ويهدد العملية السياسية برمتها في العراق بما فيه الإقليم، مما يتطلب منا تعزيز الجبهة الداخلية لكردستان من أجل أن تقوم القوى بواجبها تجاه المرحلة المقبلة، وهي حماية حقوق شعبنا ضمن عراق ديمقراطي فيدرالي توافقي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشدد على أن "هذا اليوم هو يوم عادي بحسب التقويم السنوي، لكن ’الحزب الديمقراطي‘ يفتخر بكونه يوم الإنجازات، بينما يعتبره حزبنا يوماً للخيانة العظمى".
يأتي ذلك بعد أربعة أشهر من إعلان الطرفين تعليق حربهما الإعلامية والدخول في "مرحلة تهدئة" تمهيداً لحل خلافاتهما المتأزمة على منصب رئاسة الجمهورية، وما رافقها من تنافر على مستوى إدارة حكمها المشترك في الإقليم، بخاصة في ملف آلية تقاسم الإيرادات في ظل أزمة مالية ممتدة منذ ثمانية أعوام، فضلاً عن تأجيل الانتخابات النيابية الكردية التي كانت مقررة نهاية أكتوبر المقبل بسبب خلافهما على قانون ومفوضية الانتخابات.
دفع الأفسد بالفاسد
رد حزب بارزاني جاء سريعاً وعزا فيه استعانته بقوات النظام السابق إلى دخول قوات إيرانية لمساعدة حزب طالباني، وقال في بيان إن "حزب (الاتحاد) استذكر أحداث 31 أغسطس من دون الإشارة إلى الدوافع والمبررات، ونحن هنا لا بد من أن نذكر الجميع بأن ما حصل كان نتيجة رد فعل على توغل حشود من القوات الإيرانية في 16 و17 أغسطس عام 1996 من محاور عدة في كردستان".
ونوه إلى أن "ما حصل كان رداً على الاعتداء والاحتلال، وباختصار كان خيار دفع الأفسد بالفاسد، وهذا الخيار حقق لشعب الإقليم في ما بعد الاستقرار والإعمار، وبقي الوطن آمناً"، وشدد على "أهيمة التذكير بأن قمة الخيانة كانت في 16 أكتوبر عام 2017، عندما أقدم البعض في حزب الاتحاد من خلال اتفاق سري على تسليم نصف مساحة الإقليم بما فيها محافظة كركوك إلى أعداء شعب كردستان"، في إشارة إلى سيطرة القوات الاتحادية على مناطق موضع نزاع ومنها محافظة كركوك ضمن إجراءات عقابية كانت اتخذتها بغداد ضد خوض أربيل استفتاء للانفصال.
وتزامنت ذكرى الأحداث مع صدور المجلد الخامس لكتاب بارزاني الذي يسلط فيه الضوء على مراحل الحركة الكردية، وعزا فيه استعانته بنظام صدام حسين إلى "دخول إيران في الحرب".
وقال "هذه القوات قصفت مواقع مقاتلينا وشردت ألفاً منهم على الشريط الحدودي، مما دعا صدام حسين إلى إرسال مدير استخباراته مانع عبدالرشيد إلى الإقليم مبدياً استعداده للمساعدة، ولقد قبلنا المساعدة من دون تردد".
من جهته، قال النائب عن كتلة "الاتحاد" في برلمان الإقليم كاروان كزنيي إن "31 أغسطس هو يوم أسود وخيانة غير مسبوقة للشعب الكردي إذ دنست أحذية ودبابات قوات حزب البعث مدينة أربيل ومبنى برلمان الإقليم لتضع رقاب أبناء شعبنا تحت خنجر لا يرحم، في محاولة لتغيير التركيبة السكانية ورغبة في محو الهوية الكردية وخلق ثقافة العبودية وفرض الذات"، وأردف أن "هذا اليوم هو خيانة لا مثيل لها من بين كل الخيانات التي ارتكبها الديمقراطي، لذا علينا أن نحيي سنوياً هذه الذكرى لتكون درساً تتعلم الأجيال من خلاله كيف أن الحزب الديمقراطي استقبل قوات صدام حسين الذي ارتكب جرائم إبادة بحق الشعب الكردي من خلال ضربهم بالغازات السامة".
دعوات للتهدئة
تصدر الحدث مواقع التواصل الاجتماعي التي تبادل عبرها مؤيدو الحزبين الاتهامات، في وقت برزت دعوات إلى التهدئة والكف عن "تقليب صفحات التاريخ" والمضي في المساعي الجارية لتوحيد الصف الكردي.
علق القيادي البارز في "الديمقراطي" جعفر أمينكي عبر حسابه في "فيسبوك" قائلاً إن "القضية الكردية تضررت كثيراً بسبب الفكر الحزبي الضيق، لذا على جميع الأحزاب، بخاصة أحزاب السلطة التوقف عن ممارسة التشهير، لقد بلغ السيل الزبى حتى إن أنصار هذه الأحزاب أصابهم الملل من هذه السياسة"، وزاد "لكي نتجاوز هذا الملل، على وسائل الإعلام التوقف عن تناول سلبيات الماضي وتركها للمؤرخين من أجل مستقبل كردستان، فالواجب الوطني يتطلب الصمت نهائياً إزاء هذه الأحداث، ضعوا التاريخ جانباً ولتجمعنا الجغرافيا".
موقف أمينكي جاء بعد ساعات من تصريحات كشف فيها "عن وجود مؤشرات إيجابية من قبل حزب الاتحاد لإبرام اتفاق استرايتجي شامل وطويل المدى" لإدارة الإقليم على مستوى المؤسسات والموارد، فضلاً عن "توحيد الموقف الكردي" تجاه بغداد.
ودعا القيادي في حركة "التغيير" المشاركة في حكومة الحزبين الائتلافية دلشاد رشيد إلى "وقف الخطاب المتشنج"، وقال إن "الحزبين يسعيان الآن إلى إبرام اتفاق جديد لحل أزمات الإقليم، لكن وسائل إعلام حزب الاتحاد من دون أن تأخذ الجوانب الإيجابية للاتفاق والوضع الحساس الذي يمر به العراق، انتهجت خطاباً متشدداً في حين أن تلك الأحداث والتغييرات التي حصلت عفا عليها الزمن، وإثارتها مرة أخرى ستنعكس سلباً على الاتفاق المرتقب"، وحض الأطراف على "العمل لتوحيد الصف الكردي في هذا الظرف الصعب الذي يتطلب من الجميع عدم الخوض في أحداث مضت لن تنفع أحداً بشيء".
في السياق، أكد السياسي والكاتب هيوا سيد سليم أن "القواعد الشعبية للحزبين لطالما عودتنا على تجديد آلام هذه الأمة مع كل ذكرى لهذه الأحداث، وبصرف النظر عن آراء ومواقف الحزبين، فإن على الآخرين أن يدركوا أن أي اتفاق أو تفاهم مع الأعداء والمحتلين أياً كانوا يعتبر خيانة، لذلك لا ينبغي لأحد أن يفتخر بذكرى قتل فيها العدو الآلاف من أبنائنا".
إدارة من دون موازنة
برلمان الإقليم استهل، اليوم الخميس، فصله التشريعي الأخير بتوجيه رئيسته عن كتلة "الاتحاد" ريواز فايق انتقادات شديدة لحكومة الحزبين قائلة "منذ تسع سنوات، أي بعمر تشكيلتين حكوميتين، يتم التهرب من إعداد الموازنة المالية العامة، بينما تدار الإيرادت والنفقات من دون مسوغ قانوني"، وحضت الحكومة "على التزام قانون الموازنة والإسراع في إرسالها إلى البرلمان".
وسينقاش البرلمان خلال الأشهر الثلاثة المتبقية من عمره ملفات موضع خلاف شديد، أبرزها تمديد دورته وتحديد موعد جديد للانتخابات والوضع القانوني لها وحسم الموقف من تشكيل مفوضية انتخابات جديدة أو تمديد عمل المفوضية السابقة، فضلاً عن كتابة دستور دائم للإقليم.