التدفئة والطعام أو التنفس، بهذه الكلمات لخصت في مقالة كتبتها أخيراً، المعضلة الرهيبة التي يواجهها الأشخاص المعوقون الذين يحتاجون إلى معدات متخصصة كي يتمكنوا من مواصلة حياتهم وسط الأزمة الراهنة لارتفاع كلفة المعيشة.
فالعيش مع إعاقة يتطلب في كثير من الأحيان معدات متخصصة تحتاج إلى الطاقة كي يتم تشغيلها، ويعد البرد هو أيضاً عدواً للفرد أكثر بكثير إذا كانت حركته مقيدة، ما يعني الحاجة إلى مزيد من التدفئة. ويمكنني المضي على هذا المنوال من السرد طوال اليوم.
من منطلق الإقرار بذلك، قامت الحكومة حتى الآن بدفع مبلغ 150 جنيهاً استرلينياً مثيراً للشفقة، لتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من عبور فصل الشتاء، في وقت تتضاعف فيه فواتير الطاقة تقريباً، وقد تزيد بنسبة 50 في المئة أخرى في شهر يناير (كانون الثاني)، وهو الشهر الأكثر برودة في السنة.
هذا المبلغ بالكاد يكون كافياً وقد تكون العواقب مرعبة. إنه أشبه بوضع ضمادة لاصقة على جرح شخص أصيب برصاصة في بطنه. وأمام هذه الحقيقة، قررت مؤسسة "سانس" Sense الخيرية التي تعنى بمساعدة الأشخاص ذوي الإعاقات الخطيرة المتعددة أن تتحرك، وهي تقدم منحاً طارئة بقيمة 500 جنيه استرليني ( 585 دولارا) لألف أسرة، لمساعدتها في مواجهة الأسوأ خلال فصل الشتاء.
هذه الخطوة تطرح تحدياً للجهات المعنية لتحسين أدائها من خلال تعزيز مواردها ("سانس" تعد مؤسسة خيرية متوسطة الحجم)، وإذا كانت هذه الجمعية قادرة على القيام بذلك فلماذا لا تحذون حذوها؟
لعل السؤال الذي ينبغي على الأقل أن يطرح على طاولة النقاش لمجالس الإدارة الخاصة بكل منظمة غير ربحية في هذا القطاع يتمثل في الآتي: ما الأمر الأكثر أهمية؟ هل هو تنظيم حملات انتخابية؟ أم الإعلانات؟ أم حملات ملتوية لجمع التبرعات؟ أم إبقاء الناس على قيد الحياة؟
لا بد من أن تكون الإجابة سهلة. لكن لماذا يتملكني شعور بالتناقض؟ الجواب على ذلك يكمن في تصريحات السياسيين "المحافظين" خلال السباق على زعامة الحزب الذي يبدو طويلاً إلى ما لا نهاية. وهو بمثابة تمرين تسببوا فيه لنفسهم بنوبة من إراقة الدماء التي تسيل على أرضٍ من الخيال، إذ تقف الذئاب متأهبة للانقضاض عليهم بمخالبها خلف أبواب نصف المنازل الرازحة تحت المعاناة، التي من المفترض بهم أن يمدوا يد العون لها، غير أنهم خذلوها وتخلوا عنها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما جاكوب ريس موغ وزير فرص "بريكست"، الذي كان يحاول بقوة الترويج لنفسه للفوز بمنصب رئيس للإدارة الجديدة الماكرة، فقد رأى في مقالة صحافية نشرت أخيراً، أن "مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي تستلزم إعادة النظر في بنية الدولة البريطانية. وهذا يعني تجاوز الوزراء الذين يسعون إلى فرض تخفيضات ضريبية وحسم قسري للديون، والنظر في ما إذا كان ينبغي للدولة أن تقوم ببعض المهمات".
وفي إطار الهلوسات التي يمكن أن تراود الأشخاص خلال معاناتهم من الحمى مثل ريس موغ، في ظل التقهقر الذي تشهده الدولة، سيتم ملء الفجوات بمزيج من المنظمات غير الربحية والشركات الخاصة. منظمة "سانس" ستندرج ضمن الفئة الأولى، وشركات التأمين في الفئة الأخيرة.
هذا ما بدأ يحدث بالفعل. فطب الأسنان، على سبيل المثال، جرت خصخصته من تحت الطاولة بسبل سرية ملتوية، من خلال دفع مبالغ قليلة جداً لممارسي المهنة لجعل علاج المرضى المدرجين ضمن قائمة "خدمات الصحة الوطنية" (أن إتش أس) NHS أمراً لا يستحق العناء. ومن المتوقع أن تسير خدمات طبية أخرى مثل العلاج الطبيعي والعلاج النفسي بهذا الركب، لتصبح هي كذلك مستهدفة تالياً، على الرغم من أن المسار قد يختلف. وسيكون الحبل على الجرار مستمراً على ما هو عليه بالنسبة إلى قطاعات أخرى، وهناك مؤسسة "سانس" طبعاً التي ستكون موجودة على الأرض لتهب إلى تقديم المعونات والمنح اللازمة.
لكن الخطر في ما تقوم به وما ينبغي أن تفعله المؤسسات الخيرية الأخرى، هو أنها قد تعطي الحكومة الثقة للتخلي تماماً عن المعوقين، وإضافة مسألة تخصيص الدعم لهم إلى سلة "المهمات التي ينبغي على الدولة ألا تقوم بها".
المشكلة هي أنه مهما كانت الجمعيات الخيرية جيدة، ومهما كانت تعمل بلا كلل، ومهما كانت مقارباتها وأساليب عملها مبتكرة، ومهما كانت فعالة في جمع التبرعات، فإنها لا تستطيع تلبية متطلبات جميع الناس. إنه ببساطة أمر غير ممكن، والناس يقعون في الواقع عبر كثير من الفجوات القائمة. وفي أوهام مناصري جناح اليمين المتشدد، كشخص مثل ريس موغ، ستتحول هذه الفجوات إلى شقوق كبيرة وتصدعات.
ولتوضيح المشكلة، فقد عملت منظمة "سانس" على مساعدة 500 أسرة. ووفقاً لمؤسسة Social Market Foundation، (منظمة خيرية بريطانية مستقلة تنشر أبحاثاً تتعلق بصوغ السياسات العامة لجعلها أفضل وأكثر إنصافاً) فإن 42 في المئة من الأشخاص الذين يعيشون في أسر تعتمد على الاستحقاقات والمعونات المخصصة لذوي الإعاقة، يعانون من الفقر. ويقدر ريتشارد كرامر الرئيس التنفيذي لمنظمة "سانس"، إجمالي عدد الأشخاص الذين يعانون من الفقر، سواء كانوا معوقين أو يعيشون مع شخص معوق في حدود سبعة ملايين، وتبلغ كلفة توسيع نطاق المنح لهم جميعاً 3.5 مليار جنيه استرليني (4.1 مليار دولار أميركي).
وحتى لو مضت كل جمعية خيرية للإعاقة في مخططات معوناتها، فلن تكون كافية، لا بل ستعجز عن تلبية جميع الاحتياجات، وحدها الحكومات هي التي تستطيع التعامل مع مثل هذه الأرقام.
من الواضح أن كرامر مدرك لخطر افتراض الحكومة على نحو سخيف، أن خطة المنح كهذه تعطيها تصريحاً بالإفلات، وينعكس ذلك في مدونته التي جاء فيها التصريح الآتي، "منذ شهور ونحن نناضل في حملاتنا من أجل حمل الحكومة على وضع حلول لمعالجة أزمة تكاليف المعيشة وتقديم دعم طويل الأجل للأشخاص ذوي الإعاقة، لكننا نشعر بالإحباط بسبب تقاعسها عن اتخاذ إي إجراءات عاجلة"، ويقول إنه يتعين على منظمة "سانس" التحرك لأن "الحكومة فشلت في تقديم المساعدة".
ويتابع "فيما يجب علينا ألا ندع الحكومة تنجو بفعلتها، يتعين في المقابل على المؤسسات التطوعية العمل على سد الثغرات الفورية حيثما أمكن ذلك".
أرى أنه على حق، على الرغم من شكوكي التي تعود أساساً إلى العواقب الناجمة عن عدم اتخاذ إجراءات أو خطوات فاعلة، نحن نعود اليوم إلى النقاش في قضايا حياتية مثل تأمين التدفئة أو الطعام أو آلات التنفس.
لكن الجزء الأول من اقتباس كرامر لا يقل أهمية عن الجزء الثاني، وربما يفوقه أهمية. يجب ألا ندع الحكومة تفلت من العقاب لأننا إذا فعلنا ذلك، فلن يكون أمامنا ملاذ آخر غير تلك الجمعيات الخيرية أو اضطرار بعض الفئات الأكثر ضعفاً في بريطانيا لمواجهة المعاناة بأنفسهم، التي قد تعني في الوقت الراهن الموت بكل بساطة. وعلى الرغم من أنني أدرك أن هذه طريقة مؤثرة كثيراً في التعبير عن الواقع، لكن هذه هي الحقيقة أيضاً.
© The Independent